< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : بقيّة الكلام في الإستصحاب في الشبهات الحكميّة

الوجه الثاني : قال بعض الناس[1] بأنه يجب إجراءُ استصحاب بقاء الموضوع إذا شككنا في مقوّميّة الخصوصية ـ الداخلة أو الخارجة ـ لموضوع الحكم ـ وذلك كما كنّا نستصحب بقاءَ كريّة الماء ، كما قال الشيخ الأنصاري وصاحبُ الكفاية ـ تمسّكاً بقولهم (عليهم السلام) ـ في عدّة روايات ـ ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ ، وإنما تنقضه بيقين آخر )[2] ، قالوا وهذا ما يفهمه العرف من هذه الروايات ، بل هذا ما يحكم به العرف على المستوى العقلائي أيضاً ، فنحن كنّا على يقين بوجود الموضوع ، فهل تغيّر بهذا الطارئ الحاصل ـ كمَوت المرجع أو نقاء الحائض أو نقاوة الماء ـ أم لا ، أو قُلْ هل هذه الخصوصيّة الزائلة كانت مقوّمةً للموضوع أم لا ؟ لا ندري ، فنتمسّك بقولهم (عليهم السلام) ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ ، وإنما تنقضه بيقين آخر ) ، وبتعبير آخر : الإستصحاب يقضي بعدم تغيّر الموضوعِ حتى يثبت ذلك .

فلو مات المرجعُ مثلاً ، وشككنا في مقوميّة حياةِ المرجع لجواز تقليده ، فإنّ موضوع الحكم قد تغيّر إلى حدّ ما قطعاً ، لكننا نشكّ في هذا القيد المفقود هل هو دخيل في موضوع الحكم ، أم لا ؟ لا ندري ، إذن يجب استصحاب بقاء الموضوع رغم شكّنا بأصل بقائه . قالوا : وبالتالي نستصحب وجوبَ البقاء على تقليده ، وذلك بتقريب أنه بموته لم يُعدَم وإنما انتقل إلى عالَم آخر فقط ، أو قُلْ : قَوامُ الإنسانِ بروحه الإنسانية وعقله ، لا ببدنه ، إنْ بدنُهُ إلاّ مَرْكَبٌ لروحه ، وأنّ المهمّ في المرجع هو عِلْمُه لا حياته . وقال السيد الشهيد بأننا كما كنّا نستصحب بقاءَ كريّةِ الماء ـ مع أنّ الموضوع قد تغيّر ـ فهنا ـ في موت المرجع ونقاء الحائض ـ يجري نفسُ الشيء تماماً ، نستصحب بقاءَ موضوع الحكم ، وذلك لاحتمال بقائه .

أقول : يَرِدُ على هذا الوجه الثاني ما يلي :

أوّلاً : لا يمكن أن نستصحب بقاء موضوع الحكم في الحالة المذكورة ، لأننا من الأصل ليس عندنا عِلْمٌ بجواز تقليد المرجع بعد موته ، أو قُلْ : نحن من الأصل ليس عندنا عِلْمٌ بجواز تقليده حتى بعد موته ، فماذا نستصحب ؟!! فإن قلتَ : نستصحب بقاء نفس الموضوع ! قلتُ : الموضوع قد تغيّر قطعاً بنظر العقلاء ! وعليه فلا يصحّ أن تقول : "إن شاء الله ما تَغَيّرَ الموضوعُ" !! وبتعبير آخر : مع الشكّ في كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييدية لا يصحّ أن تقول "إن شاء اللهُ الحيثيّةُ تعليليّة" مع علمنا بتغير الموضوع .

ثانياً : إنّ تغيّر موضوعِ الحكم الذي سبّب عندنا الشكّ في بقاء الحكم وزواله هو أشبه شيء بموضوع قاعدة اليقين ، فكما كنّا نشكّ هناك بنفس اليقين السابق ، فقالوا بعدم صحّة استصحاب اليقين السابق ، لأنّ نفسَ اليقينِ السابق تزلزل ، فكذلك هنا تماماً ، نفسُ اليقين بوجود موضوع التقليد قد زال ، ونفس اليقين ببقاء موضوع حرمة الوطء زال ... وهكذا ، فلا يقين سابق ببقاء الموضوع .

ثالثاً : لا شكّ أنك لاحظتَ كثرةَ تأكيد أئمّتنا (عليهم السلام) على لزوم أن يكون الحادث سابقاً متيقّنَ الحدوث ، وأنّ الشكّ إنما هو في طروء طارئ غيّر حُكْمَ الموضوعِ الذي لم يطرأ عليه شكّ أصلاً . وأمّا ما نحن فيه فلم يبقَ عندنا يقين ببقاء الحالة السابقة ، وإنما نفسُ الموضوع السابق قد تغيّر ، فالركنُ الأوّل زال ، ذلك لأنّ اليقينَ السابق بالموضوع قد زال ، فماذا نستصحب ؟! والفرقُ بين الردّ الثاني والردّ الثالث هو أنّ النظر في الردّ الثاني هو إلى تشبيه ما نحن فيه بقاعدة اليقين ، والنظرُ في الردّ الثالث هو إلى زوال الركن الأوّل من أركان الإستصحاب .

الوجه الثالث : وهو الصحيح ـ أن يقال بأنّ الأصل هو عدم جعل الحكم الزائد المشكوك ، فلو نقت الحائض فإنه لا يصحّ جريان استصحاب حرمة وطئها ـ كما قلنا ـ وذلك لعدم عِلْمِنا من الأصل ـ في عالم الجعل ـ بحرمة وطئها إلى حين الإغتسال ، وكذا لو اُغمي على المرجع فإنه لا يصحّ أن نستصحب وجوب البقاء على تقليده ، وذلك لأننا لا نعلم ـ في عالم الجعل ـ بأصل جواز تقليده إذا مات أو اُغمي عليه . فإن قلتَ : نحن إنما نقلّد العِلْمَ ولا نقلّد الشخصَ ، قلنا : هذا غير صحيح لأنّه لو كان الأمر كذلك لجاز تقليد الميّت ابتداءً .

إذن يجب أن ننظر دائماً إلى عالم الجعل ، هل أنّ المولى تعالى جعل النجاسة للماء المتغيّر فعلاً حتى إذا زال التغيّر ـ حتى ولو من دون الإتّصال بالماء المعتصم ـ فقد طهر ، أو أنه جعل النجاسة للماء الذي تنجّس ، حتى تزول النجاسة ويتّصل بالماء المعتصم ؟ الأصل هو عدم جعل النجاسة للمقدار الزائد ـ وهو اتّصاله بالماء المعتصم أيضاً ـ بمعنى أننا لا نعلم بالجعل الزائد ، فنرجع إلى أصالة الطهارة .

أمّا روايات الإستصحاب ، فهي واردة فيما لو كان اليقين السابق باقياً ، وقد حصل الشكّ في طروء ما يرفع حكم المتيقّن ، كما لو كنّا نعلم أننا قد توضّأنا منذ ساعة ثم شككنا هل طرأ النوم علينا أم لا ، وكما لو كنا نعلم بطهارة الثوب أمس ثم شككنا في طروء النجاسة عليه ، فنحن حينما بنينا على طهارة الثوب ـ بسبب استصحاب عدم طروء النجاسة عليه ـ لم يحصل عندنا شكّ في طول أمد طهارة الثوب ، وإنما عندنا علم ببقاء طهارة الثوب طالما لم تطرأ نجاسة ، وكما لو كنّا نعلم بأننا قد صلّينا ثلاث ركعات ، وشككنا في الإتيان بالرابعة ... ففي كلّ هذه الحالاتِ اليقينُ السابقُ لم يتزلزل . وأمّا في موت المرجع أو إغمائه ، فقد صار الشكّ في طول أمد المرجعيّة وصلاحيّة التقليد ، وكذا في مثال نقاء الحائض ، وذلك بسبب تغيّر نفس الموضوع عرفاً . فروايات الإستصحاب إذن غريبة عن موارد الشبهات الحكميّة .

على أننا إذا لاحظنا روايات الإستصحاب نرى أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يستدلّون بالإستصحاب على أساس أنه أمر إرتكازي فطري ، إذن ـ بناءً على هذا ـ لا ينبغي إجراءُ الإستصحاب في الشبهات الحكميّة ، لأنّ الإستصحاب في الشبهات الحكميّة ليس أمراً إرتكازيّاً ولا فطريّاً ، وذلك بسبب تغيّر الموضوع عرفاً .

على أنّ فرْض أنّ هناك شروطاً تكون بنحو الحيثيّة التعليليّة هو محض خيال ، فلا يمكن بقاء الحكم مع زوال موضوعه ، وسبحان مَن لا يخطئ .

وأيضاً لو لاحظتَ أمثلةَ الروايات ، تراها كلّها في الشبهات الموضوعيّة ـ التي لم تـتـغيّر فيها الموضوعاتُ ـ وهي غيرُ الأمثلة في موت المرجع وإغمائه ونقاء الحائض وزوال النجاسة عن المحلّ ـ التي تغيّرَتْ فيها نفس الموضوعات بنظر العقلاء ـ ، هذا الإختلاف بين الحالتين هو الذي سبّب وجودَ شكّ عند بعض العلماء في صحّة الإستصحاب في الشبهات الحكميّة . وقد ذهب الأمين الإسترآبادي والمحقّق النراقي في المستند والسيد الخوئي إلى عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكميّة .

فإن قلتَ : لماذا لا نُجري الإستصحاب في مرحلة الجعل ؟

قلتُ : لا يمكنُ جريانُ الإستصحاب في مرحلة الجعل ، لأنّ الأحكام في مرحلة الجعل دَفْعِيّةٌ عرْضية لا استمرار فيها ، بمعنى أنّ ثبوت جواز تقليد المرجع الميّت ليس استمراراً في عالم الجعل لجواز تقليده حيّاً ، أو قُلْ ليس الحكم بجواز تقليد الميّت تابعاً للحكم بجواز تقليده حيّاً ، بل كلّ موضوع له ملاكه ، فحتى لو بقي نفس الحكم ، إلاّ أنه يكون شخصاً آخر ، لا نفس الحكم السابق ، فلا قابلية لجريان الإستصحاب فيه ، وإنما هناك لكلّ موضوعٍ حُكْمٌ ، ولا شكّ ولا خلاف في هذا الأمْر ، وذلك لعدم دخالة العبد في مرحلة الجعل الواقعي . فالإستصحاب حكْمٌ ظاهري موردُه الشكُّ في تغيّرِ موضوع الحكم ، ومجراه مرحلةُ الظاهر ، لا مرحلة الجعل ، فإنّ مرحلة الجعل هي بيد الله وحده ، ولا يحقّ لنا نحن استصحابُ الأحكام في عالم الجعل .

ومعنى عدمِ جريان الإستصحاب في الشبهات الحكميّة هو عدمُ جريان الإستصحاب في الأحكام الكُليّة.


[1] نفس المصدر السابق، ص108، وذُكِرَ هذا المطلبُ في أكثر من كتاب، راجع الرسائل الجديدة، ص407، والمصباح، ج3، ص235، وتقريرات السيد الهاشمي، ج6، ص120.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo