< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الإستصحاب في الشبهات الحكميّة

الأقوال والأوجه في المسألة :

في المسألةِ عدّةُ أقوالٍ وأوجه ، أهمُّها ثلاثة :

الوجه الأوّل : قد تقول : نستصحب بقاء الحكم الفعلي ـ كأنْ نستصحبَ الحرمةَ الفعليّة لوطءِ الحائض التي نَقَتْ ـ كما يقول سيدنا الشهيد رحمه الله[1] [2] !! وكذا لو تغيّر الماءُ الكرّ بأوصاف النجاسة ثم أزلنا أوصافَ النجاسة بالدقّة ، حتى صار نقيّاً ، صالحاً للشرب ، فقد تـقول أيضاً بلزوم استصحاب النجاسة ـ كَحُكم ـ .

ويقول السيد الشهيد أيضاً في (بحوث في علم الأصول)[3] [4] : ( الصحيح كفاية احتمال بقاء المتيقن في صدق حرمة نقض اليقين بالشك ، وهذا حاصل في المقام ، بل على هذا الضوء يُعرَفُ اَنّ مقتضى القاعدة جريانُ الإستصحاب في الشبهة الحكمية حتى ولو احتملنا أنّ الحيثية تقييدية ، لأنّ تلك الحيثية التقييدية اِنما يُحتمل دخالتُها في الحكم ولا يقطع بذلك ، وهو يساوق دائماً مع احتمال عدم دخالتها واحتمال بقاءِ شخص الحكم حقيقة ودِقَّةً ، فلا بد وأن يجري الإستصحاب ، وهذا يعني اَنّنا لا بد اَنْ نَسِير على عكس ما صنعه الأصحاب ، فنفتش عن وجه للمنع عن جريان الإستصحاب في موارد الحيثيات التقييدية المحتمل دخالتها في الحكم .

لا يُقال : اِنّ الإستصحاب موضوعُه الشكُّ في البقاء ، ومحمولُه التعبّدُ بالبقاء بنحو مفاد كان التامّة ـ أي وجوداً ـ بعد الفراغ عن كونه بقاءً بنحو مفاد كان الناقصة ـ أي لا يزال الثوب طاهراً ـ فما يكون بقاءً يتعبدنا دليل الإستصحاب بثبوته ، فلا بد واَنْ يحرَز اَنّ المتعبد به بقاءٌ للمتيقن لكي يشمُلَه دليلُ الإستصحاب ، ومع الشك فيه تكون الشبهة مصداقية له فلا يمكن التمسك به .

فإنّه يُقال : التعبد ببقاء المتيقن بنحو مفاد كان التامة يتوقف على صدق القضية الشرطية في مفاد كان الناقصة ـ أي لو كان المتيقن موجوداً كان بقاءً ـ لا القضية الفعلية ، وهذه القضية الشرطية لمفاد كان الناقصة صادقة في المقام أيضاً ، فإنّ شخص الحكم المتيقن لو كان موجوداً في الآن الثاني كان بقاء لا محالة ، واِنّما الشك في معقولية بقائه ـ أي إمكان بقائه واستحالته ـ فإنه إذا كان ثابتاً للمتصف بتلك الخصوصية حدوثاً وبقاءً استحال بقاء شخصه ، ومن الواضح اَنّ احتمال استحالة البقاء لا ينافي التعبد به .

الطريق الثاني : إنّ هذا الإشكال ينشأ من الخلط بين عالم الجعل والمجعول ، أي لحاظ الحكم بالحمل الشائع ولحاظه بالحمل الأولي ، ونوَضِّحُ هذا المطلب من خلال مقدمتين :

الأولى : اِننا لو لاحظنا عالمَ المفاهيم فمفاهيمُ (الماء) و(الماء المتغيّر) و(الماء الفاقد للتغيّر) مفاهيم ثلاثة متباينة ، ليس شيءٌ منها بقاءً وامتداداً للآخر ، واَمّا إذا لاحظنا عالم المصاديق والوجودات الخارجية فمصداقُ الماء والماءِ المتغير متحدان ، كما أنّ الماء الفاقد للتغير امتداد وبقاءٌ للماء المتغيِّر ، والميزان في جريان الإستصحاب في الشبهة الحكمية ملاحظة الحكم بالحمل الأولي أي بما هو صفة وعرَض لموضوعه الخارجي[5] [6] ، لا بما هو مفهوم وجعل بالحمل الشائع ، واِلاّ لم يجر الإستصحاب في الشبهة الحكمية رأساً .

الثانية : إنّ الأعراض الخارجية ـ كالحرارة مثلاً ـ لها معروض هو الجسم وعلةٌ هي النار أو الشمس ، وهي تتعدد بتعدد الجسم المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء ، ولا تتعدد بتعدد الأسباب والحيثيات التعليلية ، فحرارة الماء سواء كانت بالنار حدوثاً وبالشمس بقاء أو بغير ذلك فهي حرارة واحدة ، لها حدوث وبقاء ، كذلك الأحكام الشرعية ـ كالنجاسة مثلاً ـ فإنّ لها معروضاً ـ وهو الماء ـ وعِلّةً ـ هي التغيُّر ـ وتعددُها يكون بتعدد معروضها لا بتعدد الحيثيات التعليلية ، وهذا يعني اَنّ الخصوصية التي سبَّبَ زوالُها الشكَّ في بقاء الحكم إذا كانت على فرض دخالتها بمثابة العلة والشرط فلا يضر زوالُها بوحدة الحكم ، ولا تستوجب دخالتها كحيثية تعليلية مباينةَ الحكم بقاء للحكم حدوثاً ، واَمّا إذا كانت الخصوصية الزائلة مقومة لمعروض الحكم ـ كخصوصية البولية الزائلة عند تحَوُّلِ البول بخاراً ـ فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها .

وهكذا نستنتج على ضوء المقدمتين اَنّه كلما كانت الخصوصية غير المحفوظة في الموضوع أو في القضية المتيقنة حيثية تعليلية فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثاً وبقاء ، ومعه يجري الإستصحاب ، وكلما كانت الخصوصية مقومة للمعروض كان انتفاؤها موجِباً لتعذر جريان الإستصحاب لأنّ المشكوك حينئذ مباين للمتيقن .

اِنْ قلتَ : اِنّ مصداق الماء الذي هو موضوع للنجاسة الخارجية واِنْ لم يتبدل اِلاّ اَنّ حكمه ـ وهو النجاسة ـ يحتمل تبدله بقاءً ـ إلى الطهارة ـ ، كما إذا كانت النجاسة السابقة مجعولة للماء المتغير بالفعل فتكون النجاسة بعد زوال تغير الماء جعلاً آخر ، وتعدُّدُ الجعْلِ يوجِبُ تعدُّدَ الحكمِ لا محالة .

قلنا : مع فرض كون النّظر إلى عالم المجعول الخارجي وبالحمل الأولي فسوف تكون النجاسة الخارجية موضوعُها ذاتُ الماء المتغير المحفوظة بقاءً أيضاً ، وتكون كل الحيثيات التقييدية للجعل تعليلية للمجعول ، فالنجاسة السابقة ولو فرضت بجعل آخر تكون من قبيل حرارة الماء بالنار وحرارتِه بالشمس بقاءً لشخص النجاسة السابقة فيجري الإستصحاب فيها"(إنتهى كلام سيّدنا الشهيد رحمه الله) .

أقول : لا يمكن جريان استصحاب الحكم الفعلي المجعول مع غضّ النظر عن موضوعه ، وذلك لأنّ الشكّ إنما هو في بقاء موضوع النجاسة الذي هو عِلّة النجاسة . وبتعبير آخر : لا يمكن إجراءُ الإستصحاب في المعلول (أي الحكم) الذي هو ظلّ لموضوعه ونغضّ النظر عن موضوعه ، وإنما يجب أن ننظر إلى موضوع النجاسة وموضوع حرمة الوطء في عالم الجعل . فمثلاً : لو أزلنا النجاسة عن المحلّ فإنه لا يصحّ أن نستصحب النجاسةَ ـ كحُكْم ـ مع زوال نفس القذارة ـ كموضوع ـ ، ولذلك فنحن لا نستصحب الحكم ـ حتى في الشبهات الموضوعيّة ـ وإنما نستصحب عدم طروء تغيّر على الموضوع فقط ، لا غير ، وهذا أمْرٌ يجب أن يكون مسلّماً .

 


[1] الحلقة الثالثة من حلقات علم الاُصول لسيّدنا الشهيد رحمه الله : ج4، ص106 من طبعة المؤلّف / بحثُهُ في الركن الثالث من أركان الإستصحاب عند قوله (غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل، بل بلحاظ عالم المجعول، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء).
[3] ج3 ص116 . أقول : لم يوضّح اُستاذنا السيد محمود الهاشمي حفظه الله هنا أنّ المراد استصحابه عند السيد الشهيد هل هو الموضوع أم الحكم !! فكان يعبّر بتعابير عامّة غامضة من قبيل : (.. واِنما معناه شرطية احتمال بقاء المتيقن، فكلما احتملنا بقاء نفس المتيقن صدق حرمة نقض اليقين بالشك ..) (إنتهى) . أقول : ماذا تقصد بـ (المتيقّن) هل هو الموضوع أم الحكم ؟! الظاهر أنه يريد استصحاب الحكم، لا الموضوع.
[5] ما كان ينبغي للسيد الشهيد أن يقول : ( والميزان في جريان الإستصحاب في الشبهة الحكمية ملاحظة الحكم بالحمل الأولي أي بما هو صفة وعرَض لموضوعه الخارجي، لا بما هو مفهوم وجعل بالحمل الشائع، واِلاّ لم يجر الإستصحاب في الشبهة الحكمية رأساً )، وذلك لأنّ المراد من الحمل الأوّلي ـ في علم المنطق ـ هو المفهوم، والمستصحب لا يكون المفهوم، وإنما يكون المصداق الخارجي أي بالحمل الشايع، فأنت تستصحب النجاسةَ الخارجيّة أو الحدث الأكبر، ونحو ذلك من وجودات خارجيّة، ولو وجودات معنويّة .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo