< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/08/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : في معنى ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك ) ومثبتات الأمارات والأصول
البحث الثالث : ما معنى ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك ) ؟
هل هو النهي التكليفي عن النقض رغم انتقاض يقينك السابق وجداناً بالشكّ، أم هو النهي الإرشادي عن النقض، فيكون النهي إرشاداً إلى لزوم البناء على بقاء الحالة السابقة ؟
الجواب : لا شكّ أنّ القوانين الإلهيّة هي ـ حسب ما نرى ـ قوانينُ شرعيّةٌ تكون بنحو الجُمَل الخبريّة، لا بنحو الجمل الإنشائيّة، ذلك لأنّ الجمل الخبريّة إشارة إلى ثبوت المعاني في عالم الجعل الذي هو علم الباري تعالى، على أننا لا نتصوّر كونَها بنحو الجمل الإنشائيّة، فمثلاً قول الباري تعالى ( اَقيموا الصلاةَ ) هو خطاب شرعي كاشفٌ عن الحكم الشرعي والذي هو (الصلاة واجبة)، وليس بنحو (صلّوا أيها الناس) و(استصحبوا الحالةَ السابقة) و (طهّروا ثيابكم للصلاة) .. وعلى هذا الأساس نرى أنّ قول المعصوم (عليه السلام) ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك ) لا بدّ أن يكون بنحو الجملة الخبريّة، والتي تفيد معنى الثبوت، والذي هو المعنى الإرشادي للنهي عن النقض، فكأنّ الإمام (عليه السلام) يقول : وظيفتكم هو البناءُ على بقاء الحالة السابقة . ثم لا شكّ أنك تعلم أنّ اللوح المحفوظ والموجودَ عند الله سبحانه والذي نعبّر عنه بعالَم الجعل أو عالم اللوح المحفوظ هو ليس كتابة، وإنما هو معاني في عالَمِ عِلْمِ اللهِ سبحانه وتعالى، فقولُ المعصوم "إستصحبوا" كاشف عن الحكم الشرعي بوجوب الإستصحاب بنحو الجملة الخبريّة، وهو الأليق بشأن الباري سبحانه وتعالى .

مثبتات الأمارات والأصول
لا شكّ أنك تعلم أنّ مثبتات الأمارات حجّة، بخلاف مثبتات الاُصول العمليّة التي كنّا نتكلّم فيها حتى الآن، أمّا وجه حجيّة اللوازم في الأمارات فقد أفاد المحقّق النائيني أنّ المولى تعالى حينما تعبّدنا باعتبار الأمارة علماً فإنّ هذا يعني أنه تعبّدنا بحجيّة الأمارة بكلا مدلوليها المطابقي والإلتزامي، وذلك لكون كلا مدلولي العلم حجّة، فكذا كلا مدلولي الأمارة حجّة . وهذا الكلام لا بأس به، بناءً على مسلكه الذي تبنّيناه وهو مسلك الطريقيّة، وقد أوضحنا دليلنا على هذا المسلك ص 180 واستدللنا على ذلك بآية النبأ وغيرها من الروايات .
لكننا نفترق قليلاً عن قول المحقّق النائيني، فنحن ندّعي أنّ المولى تعالى قد نزّل الإحتمال في الأمارات منزلة العلم ونَزَّل أيضاً مؤدّاها منزلةَ الواقع، وقد استدللنا على ذلك ص 29 بآية النبأ والعديد من الروايات فراجع .
ونضيف هنا على تلك الأدلّة الكثيرة بعض الروايات التي تفيدنا أيضاً تنزيلَ احتمال الإصابة في الأمارات منزلة العلم أو تنزيل مودّاها منزلة الواقع، وقد ذكرنا في الدروس السابقة بعضَ الروايات في ذلك ...
من كلّ أدلّة حجيّة الأمارات تلاحظ نفس الشيء، وهو أنّ ظاهر الحال في سوق المسلمين تذكيةُ اللحوم وحِلّيّةُ الجبن ... وظاهر الحال في تسلّط الإنسان على الشيء أنه يملكه، وله أن يرتّب كلّ آثار الملكيّة، وفي مورد عمل الغير علينا أن نبني على الصحّة، ونرتّب كلّ آثار الصحّة، ذلك لأنّ الغالب في الإنسان أن يكون عالماً بما يفعل، وغير ساهٍ وغير ناسي، فلو طلّق شخصٌ زوجتَه ـ ولو في غيبتك وشككتَ مثلاً في اَنّه هل انتبه المطلّق حين الطلاق إلى شرطيّة أن يكون طلاقُه في طهر لم يواقعها فيه أو سها عن ذلك ـ فلك أن تعمل بكلّ آثار الطلاق الصحيح بأن تتزوّجها مثلاً ... وقد مرّ معنا ذلك أيضاً عند التحدّث في قاعدة الفراغ، وفي أدلّة حجيّة خبر الثقة، كآية النبأ والروايات كالتوقيع الشريف الذي يقول (عليه السلام) فيه ( فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه (يرويه ـ خ) عَنّا ثِقاتُنا قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم ) وكلّها تدلّ على أنّ علّة حجيّة الأمارات هي لابُدِّيّةُ اعتبارِها حجّة، لأنّ هذا هو مقتضى الفطرة البشريّة وارتكازِ العقلاء ولزوم حفظ النظام العام وأغلبية إصابة الأمارات للواقع . فمثلاً : معنى "لا تشكّك في خبر الثقة" أي خُذْ بكلا مدلولَي الخبر، ومعنى "الجبن حلال" أي أنه طاهر، ولك أن تبيعه على أنه طاهر رغم اشتراط المشتري ـ لفظيّاً ـ بطهارته .. وهكذا في سائر التعبيرات السابقة .
وبتعبير آخر : إنّ المولى تعالى حينما جعل الأمارات حجّة فإنّ العرف يفهم من ذلك أنها حجّة في كلا مدلولَيها المطابقي والإلتزامي، وذلك لوضوح أنّ سبب إعطاء الحجيّة للأمارات في الأدلّة ـ كما في أدلّة حجيّة سوق المسلمين واليد والبيّنة وخبر الثقة ـ هو أغلبيّة مطابقتها للواقع، وح نقول بأنّ مفاد الأمارات في كلا مدلولَيها المطابقي والإلتزامي بنفس قوّة المطابقة للواقع، فإنْ قالت لك البيّنةُ : قُطِعَ زيدٌ نصفين، فإنّ هذا يعني عرفاً أنه قد مات، ويترتّب على ذلك كلّ آثار الموت شرعاً، وهذا يعني أنّ مثبتات الأمارة هي من جملة دلالات الأمارة العرفيّة، والنتيجة هي أنّ مثبتات الأمارات حجّة .
وبتعبير ثالث : إنّ المولى تعالى إنما جعل الأمارات حجّة لأغلبيّة موافقتها للواقع ـ ولا نظر لدى المولى تعالى في الأمارات إلى المحتمل، أي إلى نوع مؤدّى الأمارة ـ بدليل الروايات السالفة الذكر قبل قليل ـ كرواية (فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه عَنّا ثِقاتُنا ) وكأنه (عليه السلام) يقول لا تشكّكوا .. فإنها غالباً جداً توافق الواقع، وابنوا على أنها موافقةٌ للواقع ـ ومعنى ذلك أنّ مداليلها الإلتزاميّة أيضاً توافق الواقع غالباً، فيجب ـ لنفس العلّة ـ أن تكون حجّة . وقد ذكر السيد الشهيد الصدر هذا المطلب في مباحث الاُصول في موضعين : الأوّل في الجزء الثالث من القسم الثاني ص 38 والثاني في الجزء الخامس من القسم الثاني ص 428 .

* هذا التنزيل بلحاظ المداليل الإلتزامية غير موجود في الأصول العمليّة، ذلك لأنّ الأصول العمليّة تعبّدنا الشارعُ المقدّس فيها بخصوص المدلول المطابقي، ولم يتعبّدنا بالمدلول الإلتزامي ـ كنبات اللحية في المثال المشهور ـ وهذا أمر معروف جداً، على أنه ليس للمولى تعالى أن يتعبّدنا بغير الآثار الشرعية في الأصول العمليّة كما ذكرنا سابقاً .. سواءً كان للأثر العقلي أثرٌ شرعي أم لم يكن .. فلا نعيد .
مثال ذلك : لو أطلق شخصٌ رصاصةً على المؤمن من بعيد، وهَرَبَ، ولم يَدْرِ بعد ذلك أبداً هل أنّ المؤمن قد تحرّك من مكانه قبل وصول الرصاصة إليه فتخلّص من القتل أم بقي في مكانه فقتلته الرصاصةُ ؟ فإنِ استصحبتَ بقاءَه في مكانه فعليك أن ترتّب على مُطْلِقِ النارِ كلَّ آثار القتل، أي الدية والكفّارة، ولكن لا أظنّ أنّ أحداً من الفقهاء يوجب الدية والكفّارة على مُطْلِقِ الرصاصةِ، أي أنهم لم يستصحبوا بقاءَه في مكانه كي يرتّبوا على ذلك الديةَ والكفّارة، ومعنى ذلك أنّ لوازمَ الإستصحاب ـ وهي بقاؤه في مكانه ثم حصول موته ـ لا تَثبُت . ودليلُهم على ذلك هو أنّ التعبّد بالإستصحاب هو أمْرٌ تعبّدي محض، ولم يكن لكاشفيّته ـ كما كان الحال في الأمارات ـ فيجب الإقتصار على القدر المتيقّن من التعبّد، بل هذا هو مقتضى العقل والعرف أيضاً، لذلك أجمعوا على ذلك .
مثالٌ آخر : لو كان زيدٌ نائماً تحت حائط، وأخبرتنا البيّنةُ بعد ساعة أنّ الحائط قد وقع إلى الجهة التي كان نائماً فيها زيد، ونحن لا ندري أنّ زيداً كان لا يزال نائماً تحته حينما وقع الحائط أم لا، فهل ترى نفسَك تورّث مالَ زيد لورثته وتتصل بزوجته لتعتدّ عدّةَ الوفاة ؟ طبعاً هذا السؤال لشدّة بداهته هو مضحك فعلاً، لأنّ من البديهي عند كلّ المتشرّعة الذين يعرفون بقاعدة الإستصحاب أنهم لن يقسّموا مالَ زيد ولن يأمروا زوجته بالإعتداد، ممّا يعني أنّ لا أحد يفهم من قاعدة الإستصحاب ترتيبَ الآثار غير الشرعيّة على الإستصحاب ـ التي هي العقليّة والتكوينية والعاديّة ـ .
بعدما عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ النظر في الآثار العقليّة إنما هو ثبوتها على نحو الصفتية، لا على نحو التعبّديّة، كما كان الحال في استصحاب طهارة الثوب والماء، فقد كان ثبوت الطهارة منظوراً إليه على نحو التعبّد الاُصولي، أمّا نبات اللحيّة وموتُ زيد فإنّهما منظورٌ إليهما على نحو الثبوت الوجداني الصفتي، وتكفي البيّنةُ في إثبات ذلك، لأنّ المولى تعالى نزّل البيّنةَ ـ كما قلنا عدّة مرّات ـ منزلة العلم الصفتي الوجداني .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo