< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/07/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هل الإستصحاب أصلٌ أم أمارة ؟

هل الإستصحاب أصلٌ أم أمارة ؟
لا بدّ أوّلاً أن نَذْكُرَ الفرقَ بين الأصل والأمارة فنقول :
لم ترد هتان الكلمتان في الشرع على حسب مصطلح علمائنا في علم الاُصول، وإنما علماؤنا اصطلحوا على ذلك، فقالوا بأنّ الأمارة ـ كخبر الثقة وسوق المسلمين واليد والصحّة في عمل النفس وعمل الغير ـ هي ما شرّعها الله تعالى لكاشفيّتها عادةً أو غالباً عن الواقع ولإصابتها للواقع غالباً، وذلك بخلاف الأصل ـ كالبراءة والإحتياط والطهارة والحِلّ وأصالة عدم التذكية ـ فإنه لا كاشفيّة فيه عن الواقع، لا عادةً ولا غالباً، ولا نعلم إذا كان مؤدّى الأصل يصيب الواقع غالباً، إن هو إلاّ تيسير على الناس، أو احتياط على التكاليف الواقعيّة الإلزاميّة، لا غير، ولذلك كانت لوازمُ الأمارة حجّة، ولوازم الأصل غير حجّة، وذلك لأنّ المولى تعالى حينما قال لنا "خبر الثقة حجّة" فهذا يعني أنّ خبره بما يتضمّن من مداليل مطابقيّة وإلتزاميّة حجّة، أو قُلْ : إنّ الكاشفيّة في خبر الثقة بنفس القوّة في مدلوله المطابقي وفي مدلوله الإلتزامي . وأمّا في الطهارة مثلاً فالمنظور إليه هو خصوص البناء على طهارة الشيء المشكوك الطهارة، وليس إلى لوازمه، فمثلاً : إذا رأينا سفرةً في بلاد الكفر، متروكةً في البريّة، فيها اللحم، وكان في تلك البلاد القليل من المسلمين، فإنّ لك أن تبني على طهارة اللحم، لقاعدة الطهارة، ولكن ليس لك أن تبني على تذكية ذلك اللحم، بإدّعاء أنه من لوازم الطهارة، فتأكلَ من هذا اللحم ! فهذا غير صحيح، فإنّ التعبّد ناظر فقط إلى أصالة طهارة اللحم، وليس إلى لوازمه، وأمّا بالنسبة إلى جواز أكل اللحم فلا، لأنك يجب عليك أن تبني على أصالة عدم التذكية . فإن قلتَ : بينهما تناقض ! قلتُ : صحيح، لكن هذه اُصول عملية فقط، ولا تناقض عقلياً بين أن يتعبّدنا الله تعالى بأصالة الطهارة وأصالة عدم التذكية، لأنّ لكلّ أصل مصلحته القائمة به .
وأمّا الإستصحاب، ففيه كاشفيّة، ولكن إلى حدّ ما، وقد تكون ضعيفة في بعض الموارد، ورغم ذلك تعبّدنا الباري تعالى به، فإذن ليس فيه كاشفيّة تصيب الواقع غالباً كما كان الحال في خبر الثقة أو سوق المسلمين أو اليد أو الصحّة، ولذلك لا تكون لوازمه حجّة قطعاً، لأنّ المولى تعالى ما قال لنا في الإستصحاب بأنه مطلقاً حجّة كما قال لنا في خبر الثقة وسوق المسلمين واليد ونحوها، إنما تعبّدنا باستصحاب الحالة السابقة فقط، أي باعتبار أنفسنا متيقّنين ببقاء الحالة السابقة على ما كانت عليه حتى يثبت التغيير، والسبب في ذلك كما في الروايات هو أنّ الإستصحاب هو الأصل الذي يراه العقلاء، ولذلك بيّنا ذلك في الروايات أكثر من مرّة كما في قوله (عليه السلام) ( .. لا، حتى يستيقنَ أنه قد نام، حتى يجيئ من ذلك أمْرٌ بَيِّنٌ، وإلاّ فإنّه على يقينٍ مِنْ وضوئه، ولا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك وإنما تنقضه بيقين آخر )[1] وهذا ما جعلنا نقول قبل قليل بأنّ الظاهرَ من أدلّة الإستصحاب أنّ المولى تعالى جَعَلَ الإستصحابَ جرياً مع الوجدان الإنساني، بل جرياً مع الفطرة الحيوانيّة أيضاً، فهو وجدانيٌّ منشأً ـ لأنّ فيه كاشفيّةً ولو ضعيفة ـ تعبّديٌّ امتداداً، فينبغي للإنسان السويّ أن يَبقَى ـ في الشرعيّات ـ على يقينه السابق حتى يَثبُتَ له تغيّرُ الحالةِ السابقة، فالإمامُ (عليه السلام) يَستدلّ على لزوم البناء على الحالة السابقة لكون هذا البناء هو أمر فطري واضح عند العقلاء، هذا أوّلاً، وثانياً : تلاحظُ من هذا البناء أنّ الإستصحاب هو أصلٌ عمليٌّ ـ وليس أمارةً تُثبِتُ لوازمَها ومثبتاتِها التكوينيّة ـ لأنه ليس فيه حكاية عن الواقع، أي هو لا يدّعي الحكايةَ عن الواقع، كما كان الحال في خبر الثقة .
إذن بعد أن عرفت أنّ الإستصحاب هو أصل لا أمارة وبما أنّ فيه نحو كاشفية فيجب أن نعتبر بأنّ الإستصحاب هو أصل محرز .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo