< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر
فرغنا من المسائل الأساسية في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين، وبقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر :
1 ـ الدوران بين الجزئية والشرطيّة من جهة والمانعية والقاطعيّة من جهة اُخرى :
هذا البحث فرع من بحث (دوران الأمر بين المتباينَين) ـ لا بين المحذورَين ـ حيث لا جامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه، أو قُلْ لا جامعَ بين الوجود والعدم، ومثالُه إذا تردَّدْنا في ماهيّة شيءٍ بين كونه جزءً من الواجب أو مانعاً عنه أو قاطعاً له ـ كالسورة الثانية بعد الفاتحة في سعة الوقت، إذ قد يقال بكون القِران بين السورتين في الصلاة مبطلاً لها ـ أو تردّدنا بين كون الجهر في صلاة الظهر يوم الجمعة شرطاً في الصلاة أو مانعاً أو قاطعاً لها، فنتيجةُ ذلك حصولُ عِلمٍ إجمالي إمّا بكون المركّب مقيّداً بوجود ذلك الشيء وإمّا بكونه مقيّداً بعدمه، وهذا العلم الإجمالي منجزٌ قطعاً، وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة البراءة عن المانعية ـ لو قلنا بجريان البراءة في هكذا حالات ـ فيجب على المكلفِ الإحتياطُ بتكرار العمل، مرةً مع الإتيان بذلك الشيء ومرةً مِن دونه . هذا فيما إذا كان في الوقت مُتَّسَعٌ، وإلا وجب عقلاً العمل بالظنّ لما مرّ في دوران الأمر بين المحذورَين سابقاً، وذلك بالإقتصار على الوجه المظنون .
ولا فرق فيما ذكرنا بين ما لو دار الأمر بين كون الشيء جزءً أو شرطاً من جهة أو قاطعاً أو مانعاً من جهة اُخرى، كما لو تردّد أمْرُ الإستعاذةِ ـ بعد تكبيرة الإحرام ـ هل هي جزء واجب أم قاطع ومبطل للصلاة، لأنه أيضاً هو تردّد بين المتباينَين، وكذا لو تردّدنا في الجهر في صلاة ظهر يوم الجمعة بين كونه شرطاً أو مانعاً أو قاطعاً .
ومن الخطأ الواضحِ اعتبارُ هذا البحث من (دوران الأمر بين المحذورَين) إذ أنّ الجهر في ظهر يوم الجمعة ليس مردّداً بين الوجوب والحرمة، وإنما هو مردّدٌ ـ في سعة الوقت ـ بين كونه شرطاً من جهةٍ أو قاطعاً أو مانعاً من جهةٍ اُخرى، فيمكن تكرار الصلاة، يعني أنك إن كنت في سعةٍ من الوقت فأنت لست مردّداً بين وجوب الجهر وحرمته، أو قُلْ أنت لست مردّداً بين وجوب الإخفات وحرمته، وذلك لعلمنا بعدم حرمة الجهر في هذه الصلاة وبعدم حرمة الإخفات فيها، وإنما أنت تعلم ببطلان إحدى الصلاتين لا أكثر، وفرقٌ بين البطلان والحرمة .
نعم في ضيق الوقت تكون قراءةُ السورة بعد الفاتحة إمّا واجبةً وإمّا محرّمةً، فهنا يتردّد الأمرُ بين المحذورَين، فيتخيّر المكلّف ح بينهما، إلاّ إذا كان يَظنّ بأحدهما فيقدّم المظنون حتماً، لحكم العقل بذلك .

الفرق بين القاطع والمانع : نمثّل لذلك بشروط الصلاة، لا شكّ أنك تعرف شرطيّة الطهارة والإستقبال في الصلاة، فوجود هذه الشرائط مطلوبة فيها، فلو خرج الريحُ فقد بطلت الصلاة، وهذا يعني أنّ خروج الريح قد ألغى شرطاً مطلوباً في الصلاة، فخروج الريح إذن منع من صحّة الصلاة، فقد تقول : إذن الريحُ مانع . والواقع أنّ المانع هو (عدم الطهارة) .
من هنا تعرف أنّ الشرط يكون داخلاً في الصلاة، فإن ارتفع الشرط بخروج الريح مثلاً، فيكون الحدثُ ـ الذي هو عدم الطهارة ـ مانعاً من صحّة الصلاة، أي مانعاً من أن تعمل الصلاة عملها . فإن قيل مثلاً : "صَلّ في أيّ لباس شئت، إلاّ في النجس والحرير والذهب وغير مأكول اللحم والمَيتة" فإنك تعرف من خلال هكذا سياق أنّ المذكورات تكون مانعةً من صحّة الصلاة، فلا تعمل الصلاة عملَها التامّ، وهذا يعني أنها موانع لصحّة الصلاة، أو قُلْ لأنّ الله تعالى يبغض الصلاة فيها . وإنما سمّيت هذه الاُمور مانعة لأنها تمنع الصلاة من أن تعمل عملها، فالحدثُ يَمنعُ مِن أن يَعمل المقتضي عملَه .
والحقيقة أنّ المراد من المانع هنا هو عدم الشرط، فلبسُ الذهبِ للرجال لا يَقطع الهيأةَ الإتصالية للصلاة، وإنما هو أمْرٌ مبغوض عند المولى جلّ وعلا .
وقد تقول : هذا اصطلاح خاطئ، لأنّ المانع يجب أن يكون أمراً وجودياً ـ لا عدميّاً ـ كالحديدة الواقعة بين النار والورقة .
أقول : كلامكم صحيح، لكن هو على أيّ حال اصطلاح ـ لا أكثر ـ لعدم الشرط الشرعي، ولا مشاحة في الإصطلاحات .
وأمّا الكلام والضحك والأكل والشرب في الصلاة والفعل الكثير الخارج عن طبيعة الصلاة، أو قُلْ كُلُّ فِعلٍ يصدر من المصلّي لا يناسب هيأة المصلّي، فهي قاطعة للصلاة . وبتعبير آخر : هذه المذكورات خارجةٌ عن حقيقة الصلاة، وإنما سمّيت هكذا اُمور قاطعَة لأنها تلغي الإتصال بين أجزاء الصلاة .
ولك أن تقول : يجب أن تكون الصلاة عبادة مقرّبةً للمولى جلّ وعلا، فإذا رقص الإنسانُ في صلاته كان الرقصُ قاطعاً للصلاة، لأنه ألْغَى هيأةَ العبادة .
مثال آخر : الفِعْلُ الكثيرُ بين أفعال الوضوء يُلغِي صورةَ الوضوء وهيأتَه، فهو إذن قاطع .

وهنا يجب أن نتعمّق بالفكرة أكثر فنقول : الحقيقة هي أنّ بعض الاُمور هي شروط، وبعضها موانع، وبعضها قواطع :
فالطهارة ـ مثلاً ـ شرطٌ، لظهور "لا صلاةَ إلاّ بطهور" أنّ الطهارة شرط، ومثلُها الإستقبالُ ونيّة القربة إلى الله تعالى، فإذا فُقِدَتْ نِيّةُ القربة أو استقبال القبلة فليست هي العبادةَ المطلوبة عند المولى عزّ وجلّ، وكذلك يشترط في التذكية التوالي العرفي بين البسملة وفري الأوداج الأربعة، فلو تخلّل بينهما فعلٌ كثير لما تحقّقت التذكية .
وبعضها موانع وهي التي تمنع الصلاة من الوصول لهدفها مثل "الصلاة في الميتة أو في المغصوب أو في النجس أو في الحرير أو الذهب أو في غير مأكول اللحم" مثلاً، فإنّ الله تبارك وتعالى يبغض الصلاة في هذه المذكورات، فهي إذن موانع من الوصول إلى الهدف من الصلاة . ولك أن تضيف أنّ الزيادات المبطلة للصلاة هي موانع، فالركوع الزائد هو مانع، لأنها خارجة عن المرسوم الإلهي، فما فعله بركوعين ليس صلاةً، كما لو صلّى بالمغصوب عالماً بغصبيّته فهي ليست بصلاة من الأصل، وليست بعبادة، لأنها مبغوضة عند المولى تعالى، ولا يمكن التقرّب بشيء مبغوض، كأن تتقرّب إلى المولى بقتله وقتل ولده مثلاً .
وهناك قواطع كالكلام الخارج عن الصلاة والقهقهة والأكل والشرب الكثيرَين والرقص وكلّ ما يُلغي هيأةَ الصلاة، إذن القواطع قد تكون وجوديّة وقد تكون عدميّة ـ كترْكِ الصلاةِ لفترة طويلة من دون أيّ فعل ـ . فلو كان الإنسان يصلّي فجلس يأكل، فقد قطع صلاته، وهكذا في سائر الأمثلة . ولذلك كان لا بأس بالشرب اليسير في ركعة الوتر إذا أراد الصيام كما ورد في الرواية .
إذن تشخيص أنّ هذا مانع أو قاطع أو شرط بحاجة إلى دليل فقهي، فيُنظَرُ مثلاً إلى تروك الإحرام هل هذا الأمر الفلاني قاطع أو مانع أو شرط وهكذا، وإن كانت النظرة الاُولى تفيد أنها جُلَّها قواطع، كالجماع والطيب والصيد البرّي وتقبيل النساء ولمس النساء وملاعبتها والإستمناء وعقد النكاح وو ..
وقد يعبَّر عن الشرط بـ (الجزء التحليلي أو الذهني) في مقابل الجزء الخارجي، فالشرط ـ أو الجزء التحليلي أو الذهني ـ هو عبارة عن تقيّد الصلاة مثلاً بالطهارة. والحمد لله ربّ العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo