< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : مسألة الشكّ بين الأقلّ والأكثر

( مسألة الشكّ بين الأقلّ والأكثر )

وموضوعها الشكّ في مقدار ما ثَبَتَ في ذمّتنا، هل هو الأقلّ أم هو الأكثر، كما لو شككنا في مقدار ما اقترضناه مثلاً من فلان هل هو مليون ليرة ـ مثلاً ـ أو أقلّ أو أكثر، وهذا ما يعبّرون عنه بـ (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإستقلاليين)، والموقف هنا أنّ عليك أن تُجريَ البراءتين العقليّة والشرعيّة في الزائد عن المقدار المتيقّن، هذا عندنا، وأمّا على مسلك حقّ الطاعة فتجري خصوصُ البراءة الشرعيّة . وإنما عبّروا عن هذه الحالة بـ (الإستقلاليّين) لأنّ كلّ ليرة هي مستقلّة عن الليرة الثانية، وليست مرتبطة بها .
وقد يكون موردُ الشكّ هو في مقدار المركّب، هل هو المقدار الأقلّ أو المقدار الأكثر، كما لو شككنا في كون الصلاة مركّبةً من تسعة أجزاء مثلاً أو من عشرة، ومثالها المعروف ما لو شككنا في وجوب الأذان أو الإقامة أو القنوت أو السورة في الصلاة، وهذه المسألة يعبّرون عنها بـ (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيّين)، وفي مثل هكذا حالة لك أن تُجريَ البراءتين العقليّة والنقليّة أيضاً عن المقدار المشكوك، وهذا هو قول الشيخ الأعظم الأنصاري والسيد الخوئي، ولعلّ هذا هو المشهور أيضاً، وأمّا بعضهم فقد أجرَوا خصوص البراءة الشرعيّة ـ دون العقليّة ـ كصاحب الكفاية في الكفاية وتبعه المحقّق النائيني، وهي أيضاً مقالة السيد الشهيد الصدر . وإنما عبّروا عن هذه الحالة بـ (الإرتباطيّين) لأنّ كلّ جزء في مركّب الصلاة مرتبط بالآخر، وقد يبطل هذا الجزءُ إذا بطل الجزءُ الآخر، بل قد تبطل كلّ الصلاة إذا بطل جزء واحد منها .
ويَكفي هذا المقدارُ مِنَ البحث في هذه المسألة، لنتفرّغ لما هو أهمّ، إلاّ أنّ بعض الناس شكّكوا في بداهة هذه المسألة، فأثاروا شكوكاً ووساوس في مسألة الإرتباطيين، فكان لا بدّ من النظر فيها والردّ عليها فنقول :
عَرَضَ بعضُ الناسِ هذه الوساوسَ بعدّة وجوه وبراهين :
الأوّل : عن طريق ادّعاء وجود علم إجمالي بين (وجوب الأقلّ) و (وجوب الأكثر) !! قالوا وهذان عنوانان متغايران أي متباينين، وليسا مردّدين بين الأقلّ والأكثر، فعَلَى فرْض أنّ الواجب كان هو الأقلّ فسوف يكون الأقلُّ ح (واجباً إستقلاليّاً)، وإن كان الأكثر هو الواجب فسوف يكون الأقلّ ح (واجباً ضِمنيّاً)، إذن عنوانُ الأقلّ مغايِرٌ لعنوان الأكثر، فهما إذن متباينان .
وبعضهم كان يفلسف هذا الكلام السابق فيقول : إنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّاً فمتعلّقُه هو الأقلّ مطلقاً ـ أي سواءً انضمّ إليه الزائد أم لا ـ وإذا كان وجوب الأقلّ ضِمنيّاً فمتعلّقُه هو الأقلّ المقيّدُ بانضمام الزائد، فإذن هما ـ أي الأقلّ المطلق والأقلّ المقيّد ـ متباينان ـ وليسا من باب الأقلّ والأكثر ـ ولهذا يَتَشَكّلُ عندنا عِلْمٌ إجمالي .
وجواب هذا الكلام ونحوِه واضح وهو أنّ عناوين (الإستقلاليّة والضِمنيّة) و (النفسيّة والغَيريّة) و (الإطلاق والتقييد) و (عنوان الصلاة المطلوبة) لا دخل لها في المركّب، ولا يجب نيّة الإستقلاليّة ولا الضِمنيّة ولا الغَيريّة ولا الإطلاق ولا التقييد، ولا يجب لحاظها في الصلاة، كما لا يجب تحقيق (عنوان الصلاة المطلوبة)، إنما المهمّ هو الإتيان بالصلاة بالمقدار المنجّز علينا، أو قُلْ : لا دليل على وجوب تحقيق (عنوان الصلاة المطلوبة) فوق مقدار ما ثبت في ذمّتنا الذي هو التسعة أجزاء مثلاً، وبتعبير آخر : لا دليل على دخول عناوين النفسية أو الغيرية أو الضِمنيّة أو عنوان الصلاة المطلوبة في ذمّتنا، إنما الذي يدخل في عهدتنا هو خصوص هذه الأجزاء والشرائط المعلومة لا أكثر، ومع الجهل في دخول غيرها فإنه تجري فيه البراءةُ بلا شكّ . وبتعبير آخر : لا يوجد في البَين علم إجمالي أصلاً، ذلك لعدم وجود تكليف مردّد بين طرفين، إنما يوجد تكليف واحدٌ مشكوكٌ لا غَير، فهو إذن شكٌّ بدويّ بوضوح، وحتى لو قلتَ يوجد علم إجمالي فالجواب أنّ هذا العلم الإجمالي الناشئ من العناوين المذكورة بما أنها لا تدخل في العهدة فهو غير منجّز .

البرهان الثاني : اِنّه في حالة الإقتصار على الإتيان بالأقلّ لا نعلم بسقوط هذا الأقلّ على تقدير كونه ضِمنيّاً، لأنّ الأجزاء الضِمينة مترابطة ثبوتاً وسقوطاً، فما لم تُمتثَل جميعاً لا يعلم بسقوطها، وذلك لاحتمال وجوب الترابط بين الأجزاء . وهذا يعني أنّ المكلف الآتي بالأقل يشك في سقوط المكلّف به والخروج عن عهدته، فالشكّ إذن هو في حصول المكلّف به، فلا بُدَّ إذن من الإحتياط، من باب أن الشغل اليقيني يستدعي الفراغَ اليقيني .
والجواب هو أننا نشكّ في وجود ترابط بين الأجزاء المعلومة والجزء المشكوك، فتجري البراءةُ عن احتمال وجود هذا الترابط، أي نحن أرجعنا الشكّ إلى الشكّ في وجوب تكليف زائد علينا، فصارت الشبهة بدْوِيّة .

البرهان الثالث : قاله صاحب الكفاية[1]، وهو أنّ المولى تعالى إذا أوجب تكليفاً ما علينا فإنما يوجبه لغرضٍ ما، وذلك لقولنا بأنّ الأوامر والنواهي ناشئةٌ من ملاكات في متعلّقاتها، وليست عبثيّة، وذلك كما إذا شككنا في وجوب جزء أو شرط في الوضوء مثلاً، فلم نفعله لإجراء البراءة فيه، فإننا لا محالة سنشكّ في حصول الأثر المعنويّ البسيط وفي حصول النور الذي سوف يَعْرُضُ على المتوضّئ . فإذن لا يمكن لنا أن نُجريَ البراءةَ عقلاً، وإنما يجب أن نُجريَ أصالةَ الإشتغال والإحتياط لأجل تحصيل العلم بحصول النورانية بشكل قطعي .
وكذلك الأمر في كلّ الموارد، فمثلاً : الصلاة، فإنك تعلم أنّ الغرض من الصلاة هو النهي عن الفحشاء والمنكر والعروجُ إلى الله تعالى ونحو ذلك، فأنت إذا أجريتَ البراءةَ عن الجزء المشكوك فإنك ـ لا محالةَ ـ سوف تشكّ في تحصيل هذا الغرض المهمّ، فإذن يوجب العقلُ عليك الإتيانَ بالمشكوك لتحصيل الغرضِ المطلوب شرعاً .
والجواب على هذا الكلام واضح أيضاً، وهو أننا لا نعلم بلزوم تحصيل الغرض الواقعي التامّ، ولم يثبت أنّ المولى عزّ وجلّ أوجب علينا تحصيلَ تمام الغرض الواقعي، فح نجري البراءةَ عن احتمال وجوب تحصيل تمام الغرض الواقعي، فنكتفي ح بتحصيل ما تنجّزَ علينا شرعاً من الغرض .
والأحسن في التمسّك هو التمسّك بالإطلاق المقامي ـ لا بالبراءة ـ فلو كان القنوتُ ـ مثلاً ـ واجباً لورد في الكثير من الروايات، فسكوتُ المعصومين (عليهم السلام) عن تبيين ذلك بوضوح يعني أنه غير واجب، وأنت تعلم أنه إن وُجِدَ دليلٌ محرِزٌ فلا يبقَى محلٌّ للاُصول العمليّة .

البرهان الرابع : قاله المحقّق العراقي[2]، وموردُه خصوصُ الواجبات التي يَحْرُمُ قطْعُها عند الشروع فيها كالصلاة، وذلك ببيان أنّ المكلّف إذا كبّر تكبيرةً ملحونةً مثلاً، فحصل عنده شكّ في كفاية هذه التكبيرة وعدم كفايتها، فإنه سوف يتردّد ـ لا محالةَ ـ بين وجوب قطع الصلاة وإعادتها ـ وهو الأكثر ـ وبين حرمة قطعها وعدم إعادتها ـ وهو الأقلّ ـ، فلو أجرى البراءةَ عن (احتمال وجوب قطعها ثم إعادتها) فإنه سوف يقول في نفسه : ولماذا لا اُجري البراءةَ أيضاً عن (احتمال حرمة قطعها فلا اُعيدها) ؟! وهاتان البراءتان متعارضتان ! فهنا يقع في علم إجمالي لا محالة، وتتساقط البراءتان، وبذلك يثبت الأكثر .
والجواب هو أنه لا شكّ في كون الشكّ هنا ـ أثناء الصلاة ـ هو في حرمة القطع أو في جواز القطع، فقط لا غير، والبراءة تفيدنا جواز القطع، لأنّ الدليل على حرمة القطع هو الإجماع، وهو دليل غير واضح الحدود ... ولا دليل في هكذا حالة على حرمة القطع . فإذا قطَعَها وَجَبَ عليه إعادتُها لا محالة .
أمّا لو أَكْمَلَ صلاتَه ـ مع بقاء الشكّ في صحّة التكبيرة ـ فهو ـ لا مُحالةَ ـ سيَشُكّ في صحّة ما أتى به وعدم الصحّة، والمجرى هنا هي أصالة الإشتغال عند الجميع، ولا وجه لجريان قاعدة الفراغ أو التجاوز، لأنّ الفرْضَ أنه شَكّ في المحلّ، لا بَعْدَ تجاوزه .


[1] راجع حقائق الاُصول، ص58، 60 بحث الصحيح والأعمّ، آخر مسألة تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo