< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء
التنبيه الرابع خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء
مقدّمة البحث :
يجب أن يُعلم أوّلاً أنّ الخروج عن محلّ الإبتلاء لا يرفع إلاّ التنجيز فقط، ولا يرفع الملاك ولا الجعل، ولا الفعليّةَ، وذلك كما لو قيل لنا : ( إنّ شرب الخمر الموجود في بلد لا تصلُ إليه عادةً ـ كالصين مثلاً ـ حرام ملاكاً وجعلاً وفعليّة، ولا لغويّة في ذلك، لأنّ هذا قانون عام . نعم لا يصحّ أن يقال لك "لا تشرب الخمر الموجود في الصين ) أي بنحو التنجيز، وذلك للغويّة ذلك بالنسبة إليك .

والآن نبدأ في البحث فنقول : إذا خرجت بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء فهل يجوز شرب الإناء الآخر الباقي تحت ابتلائنا أم لا ؟
الجواب: لا شكّ في وجوب الإحتياط في الإناء الباقي تحت ابتلائنا، مطلقاً وفي كلّ الحالات، إلاّ إذا كانت الحالة بالطريقة التالية وهي ما لو وقعت قطرة بول مثلاً إمّا على ثوبنا وإمّا في المرحاض، فهنا يُجري العرفُ استصحابَ الطهارةِ في الثوب، بلا أيّ مانع أو استهجان، وذلك لتخيّلهم عدمَ الأهميّة لما وقع في المرحاض مثلاً، فيتخيّلون عدمَ تشكّلِ علم إجمالي من الأصل، فيرَون ـ بتخيّلهم ـ أنّ هذه القطرة هل وقعت على الثوب أم لا، فيستصحبون طهارته . أمّا لو وقعت النجاسةُ على أحد ثوبين ثم طهّرنا أحدَهما أو أخذوه إلى الصين مثلاً، فلا يجوز أن نصلّي في الثوب الثاني، لما يرَونه من تشكّل علم إجمالي واضح، واستهجانِ أن نصلّي في الثوب الثاني، ولذلك فإنهم لا يجرون الاُصول المؤمّنة في الثوب الثاني، وإنما يُبقُون التنجيزَ بلحاظ الثوب الثاني . هذا خلاصة المطلب .
أمّا تـفصيلُه فنقول : لو وقعت قطرةُ نجاسةٍ في أحد إناءين، ولم نَدْرِ بذلك، ثم حصل أن خرج أحد الطرفين عن محلّ الإبتلاء ـ كما لو سافروا بالإناء إلى مكان بعيد لا نعرفه أو لا نصل إليه عادةً أو كما لو طهّرناه أو ألقيناه في البحر ـ وقبْل أن نشرب من الإناء الثاني عَلِمْنا بنجاسة أحد الإناءين، أي فَنَى الإناءُ الأوّل أوّلاً، ثم علمنا بنجاسة أحدهما، فهل يجوز شرب الإناء الثاني الواقعِ تحت ابتلائنا أم لا ؟
الجواب : بما أنّ الصحيح هو أنّ المنجّز هو الواقع كما قلنا ـ وليس العلم بجامع النجاسة بينهما ـ فإنه يجب القول بوجوب الإجتناب عن الطرف الواقع تحت ابتلائنا، وذلك لأنّ الطرف الغير واقع تحت ابتلائنا ـ حتى ولو فَنَى ـ هو واقعاً وحقيقةً من أطراف العلم الإجمالي وجداناً، وإن كان في عالم الخيال، ولا ينبغي أن تُجري الاُصولَ الترخيصية المؤمّنة في الطرف الواقع تحت الإبتلاء بذريعة أنّ الطرف الآخر الواقع خارجَ محلّ الإبتلاء لا تجري فيه الاُصول الترخيصية للغويّتها عقلاً .
بيانُ المسألةِ بتفصيل :
ـ تارةً تكون قطرةُ النجاسةِ مردّدةً بين الثوب الذي يريد زَيدٌ أن يصلّي فيه، وبين ثوبه الآخر الواقع تحت ابتلائه أيضاً، فهنا لا شكّ في تنجّز هذا العلم الإجمالي، وقد ادّعي الإجماعُ على ذلك .
ـ وتارةً تقع قطرة النجاسة على أحد ثَوبين، إمّا ثوب زيد اللبناني وإمّا ثوب رجل صيني كان قُرْبَه في المطار فطار الصيني إلى الصين، فهنا قد تقول بأنّ ثوب الرجل الصيني خارج عن محلّ الإبتلاء، لأنّ زيداً قطعاً أو قُلْ عادةً لن يذهب إلى الصين ولن يعرف هذا الرجلَ الصيني هناك على فرض ذهابه، ولن يعرف أين هو، فجريانُ الاُصولِ الترخيصية المؤمّنة في ثوب الصيني لا فائدة منه، ولذلك فجريانها فيه لَغْوٌ محْضٌ، فيبقى أن تَجريَ الاُصولُ الترخيصية في ثوب زيد بلا معارض .
هذا الكلامُ ـ وهو جريان الاُصول العملية في ثوب زَيد ـ لا يوافقُ عليه العقلاءُ، وذلك لأننا لو فرضنا أنّ ثوب الصيني رجع إلى بلد زَيدٍ صدفةً وعلى خلاف التوقّع واعتقاد زيد، ولو بفرض استخدام أحدِهم الجنَّ مثلاً فجَلَبَ ثوبَ الصيني له، لصار العلم الإجمالي منجّزاً عليه ! ثم لو أرجعه الجنّيُّ إلى الصين ـ بخلاف اعتقاد زيد ـ لبطل تنجيز هذا العلم ! ثم لو جلبه له مرّةً اُخرى ـ بخلاف اعتقاد زيد، بمعنى أنّ زيداً لم يحتمل أن يعيده إليه ثانيةً وإنما كان يعتقد بخروج ثوب الصيني عن محلّ ابتلائه إلى آخر عمره ـ لرجَعَ العلمُ الإجمالي منجّزاً عليه مرّةً اُخرى، وهكذا .. هذه الأحكام المتبدّلة بحسب اعتقاد زيدٍ غيرُ محتملة، وهي تكشف عن بطلان قول البعض بجريان الاُصول الترخيصيّة ـ في الإناء أو في الثوب الباقي أمامنا ـ بلا معارض .
ولذلك يجب القول ببقاء منجّزيّة هذا العلم الإجمالي، أو قُلْ : يمكن رجوعُ هذا الصيني إلى بلد زيد لكونه قنصلاً مثلاً في السفارة أو لكونه تاجراً، وزَيدٌ لا يتوقّع أو لا يدري بأنّ فلاناً الصيني هو قنصل في بلده أو تاجر مثلاً، فيعود العلمُ الإجمالي منجّزاً، فإذا رجع الصيني إلى الصين واعتقد زيد بخروج ثوبه عن محلّ ابتلائه لبطل تنجيز العلم الإجمالي ـ كما يُدّعَى ـ .. وهكذا .. هذه الأحكام غير محتملة، وإنما يجب على زيد أن يجتنب الصلاة في ثوبه المشكوك النجاسة .. هذا الحكم بوجوب اجتناب زيد لثوبه المشكوك النجاسة غير مستهجَن عقلاً أصلاً، وإنما المستهجَنُ هو أن يصلّي فيه .
ـ وتارةً يتردّد زيد في محلّ وقوع قطرة النجاسة بين البحر وبين ثوبه، فحتى في هكذا حالة هناك مجال للإشكال، ولكن مع ذلك لا بأس بجريان الاُصول الترخيصية المؤمّنة في ثوب زيد، وذلك لأنّ العقل لا يمانع من جريانها في الثوب، وذلك لما يتخيّله الناس من عدم تشكّل علم إجمالي من الأصل، بخلاف مثال ثوب الصيني، فإنّ العقل يمانع من جريان الأُصول الترخيصية في ثوب زيد، وذلك لبقاء أطراف العلم الإجمالي حقيقةً في مثال ثوب الصيني .
وبتعبير سيّدنا الشهيد : إنه إذا خرج أحد الطرفين عن محلّ الإبتلاء عقلاً ( فلا إشكال في عدم منجزية هذا العلم الإجمالي، ويستند المحققون في توجيه ذلك عادةً إلى أن مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون علماً بتكليف فعلي، فالركن الأول منتَفٍ، لأن النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر عليه المكلف عقلاً فليس موضوعاً للتكليف ..)[1] (إنتهى) .
ـ وقد يميّز بين ما لو كان العِلم الإجمالي منجّزاً أوّلاً، ثم طرأ عارض اَخرَج أحَدَ الطرفين عن التنجيز، فهنا قيل بلزوم البقاء على تنجيز كلا الطرفين . مثال هذه الحالة : ما إذا عَلِمَ إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثم طُهّر أحدُهما، فإننا يجب أن نجتنب الطرف الآخر، ولو لاستصحاب بقائه على التنجّز . وهذا الكلام صحيح بلا ريب .
أمّا إذا كان أحد الطرفين قد خرج عن أطراف العلم الإجمالي ولو بتطهير أحد الطرفين، ثم ـ بَعد ذلك ـ عَلِمَ الشخصُ بنجاسة أحد الطرفين منذ ساعة مثلاً، فهنا قيل بأنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً لأنه يكون بمثابة الشبهة البدوية . مثالُ هذه الحالة : ما إذا طَهّرتَ أحد الإناءين أوّلاً لسببٍ ما، ولو لعادتك على تطهير الإناء قبل تعبئته ماءً، ثم جاءك شخصٌ لا يعرف بتطهيرك لأحد الإناءين الآن ـ ولنفْرِضْهُ إناء رقم (واحد) ـ فأخبرك بأنّ أحدهما كان نجساً منذ ساعة، فأخبرتَه أنت فقلتَ : لكنّي قد طهّرتُ هذا الإناء ـ رقم واحد ـ الآن ! فالسؤال : هل يجوز شرب الإناء رقم (باء) بذريعة أنّ هذا العلم الإجمالي لم يكن منجّزاً عليه من الأصل، أي أنّ الحالة هي بمثابة الشبهة البدويّة، أو لا يجوز شربُه ؟
لا شكّ في لزوم الإجتناب عن الطرف رقم (باء) عقلاً ـ كما قال السيد الخوئي ـ وذلك لأنه حين عَلِمَ زيدٌ بنجاسة أحدهما منذ ساعة، فقد علم بالمفسدة في أحدهما، والعجز لا يرفع المفسدة، وإنما يرفع التنجّز عن خصوص الخارج عن محلّ الإبتلاء، ولذلك نقول بأنه تنجّز عليه العلم الإجمالي عقلاً بمقدار الإناء الذي لم يطهّره ـ أي رقم باء ـ وإلاّ فهل تحتمل أنت أن يكون إناء (باء) منجّزاً على المخبِر ـ لأنه كان يعلم بنجاسة أحدهما سابقاً ـ ولا يكون منجّزاً على زيد ـ لأنه لم يعلم بنجاسة أحدهما إلاّ بعد خروج أحدهما عن محلّ الإبتلاء ـ ؟! فهذا كاشف عن بطلان كلامهم المذكور .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo