< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : آخر الكلام في الشبهة الغير محصورة
التنبيه الثالث من تنبيهات العلم الإجمالي : الشبهة غير المحصورة [1]
وقد فُسّرت الشبهةُ الغير محصورة بعدّة تفسيرات :
الأول : ما ذكره الشيخ الأنصاري من أن الشبهة غير المحصورة هي ما كان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف موهوماً لكثرة الأطراف، وهذا ما تبنّاه السيدُ الشهيد الصدر أيضاً .
الثاني : هو أن تخرج بعض الأطراف ـ بسبب الكثرة ـ عن محلّ الإبتلاء كسوق المسلمين، بمعنى أنه لن يشتري منهم جميعاً حسب العادة .
الثالث : ما اختاره المحقق النائيني من أنّ الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو عدم تمكن المكلف عادةً من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف، ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد منها . ومن هنا تختص الشبهة غير المحصورة بالشبهات التحريمية، إذ في الشبهات الوجوبية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية بترك جميع الأطراف، واِنْ بلغت من الكثرة ما بلغت، فالعلم بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يكون منجزا، إلا أنه لا يتمكن من الموافقة القطعية، فيجري حكم الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف على ما سيجيء الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى . والاضطرار مانع آخر عن التنجيز غير كون الشبهة غير محصورة .
الرابع : أن الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو الصدق العرفي، فما صدق عليه عرفاً أنه غيرُ محصور يترتب عليه حكمه، ويختلف ذلك باختلاف الموارد .
الخامس : أن الشبهة غير المحصورة هي ما يَعْسُرُ موافقتُها القطعية .
والسادس : أنّ غيرَ المحصورة هي ما يَعْسُرُ عَدُّهُ .
وقد تتداخل بعض التفسيرات في بعض .

أمّا على التفسير الأوّل فإنْ كَثُرَتِ الأطرافُ إلى حدّ يطمئنّ فيه الإنسانُ بعدم كون هذا الإناء هو المتنجّس بعينه جاز له شرب أي إناء بلا شك، وذلك لأنه لو اختار الإناءَ الأوّل وشربه لاطمئنانه بعدم كونه هو المتنجّس بعينه لجاز لنفس السبب شرب الثاني والثالث والعاشر والمئة إلى تمام الألف، بلا أي فرق بينها، لا، بل هو حينما شرب بعض الآنية فإنّ جواز شرب الباقي يكون بطريق اَولى، ذلك لأنّ الباقي سيصير أشبه بالشبهة البدويّة . إذن فدليلُنا هنا هو حصولُ الإطمئنان، وحجيّةُ الإطمئنان في مثل هكذا حالة واضحة عقلائياً .
لكنْ كلّ ذلك بشرط كون كلّ احتمالٍ ضعيفاً في ذاته، أمّا لو افترضنا أنّك تظنّ أو بل تحتمل احتمالاً معتدّاً به أنّ النجاسة وقعت في هذه الآنية الفلانية فإنه لا يجوز لك الإقتحام قطعاً .
ولك أن تستدلّ على ما قلناه بدليل آخر وهو التمسّك بإطلاق أدلّة الحِلّ لما إذا لم يكن هناك مانع عقلائي من شمول أدلّة الحلّ لكلّ الأطراف، لكن بشرط الكثرة الكثيرة بحيث لا يعود يستهجن العقلاء من شمول الترخيص لكلّ هذه الأطراف الكثيرة .
هذا ولكن قال السيد الشهيد : ( البيان الثاني : اِنّ عدم القدرة على المخالفة القطعية إذا نشأ من كثرة الأطراف أدَّى إلى اِمكان جريان الأصول فيها جميعاً، إذ في غرض لزومي واصل كذلك ـ بوصولٍ مردَّدٍ بين أطراف بالغةٍ هذه الدرجةَ مِنَ الكَثرة ـ لا يرى العقلاء محذوراً في تقديم الأغراض الترخيصية عليه ـ لأنّ التحفُّظَ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفْعَ اليدِ عن أغراض ترخيصية كثيرة ـ ومعه لا يبقى مانعٌ عن شمول دليل الأصل المؤمّن لكل الأطراف . وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع وهو يثبت عدم وجوب الإحتياط في الشبهة غير المحصورة .
وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الإحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة، غير أنهما يختلفان في بعض الجهات، فالتقريب الأول ـ وهو حصول اطمئنان وهذا الإطمئنانُ حجّة ـ يتم حتى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصلٌ مؤمّن، لأنّ التأمين فيه مستند إلى الإطمئنان لا إلى الأصل، بخلاف التقريب الثاني كما هو واضح)(إنتهى) [2] .
أقول : يرد على سيّدنا الشهيد :
أوّلاً : إننا ننظر إلى الكثرة من هذه الحيثيّة فقط، لا من حيثيّة (عدم القدرة على المخالفة القطعية إذا نشأ من كثرة الأطراف) إذ قد تكون كلّ الأطراف أمامنا، وبإمكاننا مخالفتُها جميعاً .
ثانياً : إنك إنِ اعتبرتَ ضعفَ الإحتمال هو المعيار والمناط في الترخيص في كلّ الآنية بنحو التخيير، فهذا يعني أنك إن احتملت احتمالاً موهوماً بكون المتنجّس هو هذا الإناء الأوّل دون الثاني الذي تظنّ قويّاً بأنه هو المتنجّس، فإنه في هكذا حالة يجوز لك شربُ الإناء الأوّل ! مع أنه لا يقول به قائل .
ثم اعلمْ أنّ هذا التفسير الأوّل الذي تبنّاه السيدُ الشهيد غيرُ ملائم مع تسمية الشبهة بـ (الشبهة الغير محصورة) ذلك لأنّ هذه التسمية تتلائَم[3] مع خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء ـ كسوق المسلمين ـ أو قل يعسر ارتكاب جميع الأطراف، وكما لو وجدنا لُقَطَةً مردّدةً بين أهل المدينة، ولا تتلائَم مع مثال علمنا بوجود حبّة قمح متنجّسة بين ألف ألف حبّة موجودة في إناء أمامنا، فإنه لا ينبغي أن يطلق على هذه الكثرة تسمية (الشبهة الغير محصورة)، يقول السيد الخوئي : (.. وتردُّدُ حَبَّةٍ واحدةٍ مغصوبةٍ بين ألف ألف حبةٍ مجتمعةٍ في إناءٍ لا تُعَدُّ مِن غير المحصورة عندهم)(إنتهى)، ولذلك قالوا بالتفسير الثاني .

وأمّا على التفسير الثاني وهو ما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرةً بحيث كانت بعض الأطرافِ خارجةً عن محل الإبتلاء، فقد قال السيد الشهيد بأنه ( ذهب المشهور إلى عدم منجزية العلم الإجمالي فيه، وخالف في ذلك السيد الخوئي)[4]...
أقول : لا شكّ في أنّ خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء لا يبرّر الإقتحامَ عرفاً في الأطراف الميسّرة لنا . بيانُ ذلك : لو كان أمامنا قنينتا ماء في المطار، واحدةٌ لنا وواحدةٌ قُرْبَها يَشربُ منها شخصٌ كافر، وصار ولدُنا الصغير يلعب بهما، حتى لم نَعُدْ نعلم أيُّهما لنا وأيهما لذاك الشخص الكافر، وقام الكافرُ وأخذ إحدى القنينتين معه إلى بلدٍ لا نسافر إليه عادةً ـ كالصين مثلاً ـ، ففي هكذا حالة خرجت تلك القنينةُ عن محلّ ابتلائنا، فهل تَرى المتشرّعةَ يشربون من القنينة الباقيةِ أمامنا، بذريعة عدم العلم بجامع التكليف، لأنّ النجس الواقعي إن كان هو المائع الذي خرج عن محلّ ابتلائنا فليس موضوعاً للتكليف، لأنّ التكليف مشروط بالقدرة، فلا علم إجماليّ بالتكليف الفعلي إذن .
والصحيح أنّ النجس الواقعي لا يزال باقياً ومردّداً بين القنينتين، ولا دخل لعدم تنجيز حرمة شرب تلك القنينة ببقاء النجاسة بين القنينتين، فرغم أننا غيرُ مكلّفين ـ تكليفاً منجّزاً ـ بالنسبة إلى تلك القنينة سلباً ولا إيجاباً، لكنْ هذا لا يرفع بقاءَ الملاك الإلزامي أي المفسدة الأكيدة في إحديهما، فرفْعُ التكليفِ المنجّزِ لا يعني رفْع التكليفِ الفعلي ولا يستلزمه، فضلاً عن رفعه للجعل، فضلاً عن رفعه للمفسدة الإلزامية في أحد الطرفين . فشِرْبُ الخمرِ الموجود في بلدٍ لا نصل إليه، حرامٌ علينا فعلاً، نعم هو غير منجّز، وذلك لعدم إمكان شربه عادةً، فلا معنى لتنجيز هذه الحرمة الفعلية علينا . وبتعبير آخر : لا مانع من الحرمة الفعلية لشرب الخمر الذي في الصين حتى ولو علمنا أننا لن نصل إلى ذلك المكان عادةً، وذلك لأنّ الفعليّة هي أمرٌ تكويني ناتج عن الجعل، والجعل ثابت علينا، أي الخمر الذي في الصين حرام ملاكاً وجعلاً، إذن هو حرام فعلاً أيضاً، ولا لغو في البين، وذلك لعدم تنجيز هذا الحكم علينا .
إذن هذا التقريب الثاني ـ وهو عدم منجّزيّة العلم الإجمالي في الشبهة الغير محصورة التي هي بمعنى كثرة الأطراف اللازمة لخروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء ـ غير صحيح، رغم صحّة التسمية .

وقد يقال بالتفسير الثالث وهو أنّ السبب في الترخيص في كلّ أطراف سوق المسلمين هو عدم القدرة على المخالفة القطعيّة .
ويرد عليه أنه لا شكّ في أنه ليس السببُ في الترخيص هو عدم القدرة على المخالفة القطعيّة، وذلك لأننا نقول بتنجيز العلم الإجمالي بنجاسة أحد إناءين إذا أخذوا أحدهما إلى مكانٍ لا نذهب إليه عادةً ـ كالصين مثلاً ـ وذلك لبقاء العلم الإجمالي منجّزاً عقلاً في هكذا حالة . وكما لو اضطُررنا إلى شرب أحد الإناءين لكون دوائنا مثلاً فيه، فهنا أيضاً لا يجوز أن نشرب الإناء الثاني عقلاً، وكما لو شربنا أحد الإناءين ثم علمنا بنجاسة أحدهما .

أمّا التفسير الرابع : وهو أنّ الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو الصدق العرفي، فما صدق عليه عرفاً أنه غيرُ محصور يترتب عليه حكمه، ويختلف ذلك باختلاف الموارد .
فيرد عليه أنّ هذا أمر غير واضح عرفاً، فهل هو ما كان بعض أطرافه خارجاً عن محلّ الإبتلاء ولو كانت أطرافه قليلة، أم أنّ نطره إلى خصوص العدد الكبير، أم إلى الإثنين معاً ؟ إلى ما هنالك من احتمالات ؟!! على أن هذه الكلمة لم ترد في موضوع دليل شرعي، ليرجع في فهم معناها إلى العرف، وإنما هي من الاصطلاحات المستحدثة، وثالثاً : إن العرف لا ضابطة عندهم لتمييز المحصورة عن غيرها، والسر في ذلك هو أن عدم الحصر ليس من المعاني المتأصّلة في اللغة، واِنما هو اَمْرٌ إضافي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان .

أمّا التفسير الخامسوالذي هو أنّ الشبهة غير المحصورة هي ما يَعْسُرُ موافقتُها القطعية،
فيرد عليه أولاً أنّ العسر بنفسه مانع عن تنجز التكليف، سواء كان هناك علم إجمالي أو لا، وسواءً كانت أطراف الشبهة قليلة أو كثيرة، فلا يكون ذلك ضابطاً لكون الشبهة غير محصورة، وثانياً : إنّ العسر انما يوجب ارتفاع تنجيز التكليف بمقدار يرتفع به العسر فقط، لا مطلقاً .

وأمّا التفسير السادس والذي يفسّر غيرَ المحصورة بأنها هي ما يَعْسُرُ عَدُّهُ .
فيرد عليه أنّ العقلاء يجتنبون الإناء الذي يحتوي على ألف ألف حبة من القمح مثلاً إذا كانت حبّة واحدة منها متنجّسة .

إذن ما هو الوجه والسبب في إعطاء الشارع المقدّس إذْناً في الأكل والشرب من سوق المسلمين ـ الذي هو المثال البارز للشبهة الغير محصورة ـ رغم عِلْمِنا بوجود بعض الناس لا يزكّون الأنعامَ، وقد يكون في السوق بعضُ الجبن مثلاً ـ كما في بعض الروايات ـ قد تنجّست بإنفحة الميتة ؟! فهنا كلمات :
الاُولى : يجب أن يكون سوق المسلمين كبيراً إلى حدّ يَضْعُفُ فيه احتمالُ إصابة النجس الواقعي .
الثانية : من المعلوم أنه لا يمكن أن يرخّصنا المولى تعالى بما هو قبيح بنظر العقلاء، فإذا كانت بعض الموارد ليس الترخيص فيها قبيحاً ـ كما هو الحال في سوق المسلمين ـ فلا بأس بالترخيص الشرعي في كلّ الأطراف بالتوضيح الآتي .
الثالثة : إذَنْ يبقى عندنا أن يكون السبب في عدم تنجيز العلم الإجمالي في مورد سوق المسلمين هو ضعفُ احتمال إصابة ما نأكله من السوق لخصوص النجس الواقعي أو التسهيل على المسلمين أو كلا السببين معاً . تلاحظ كلا هذين السببين في الروايتين التاليتين :
1 أمّا احتمال ضعف احتمال إصابة ما نشتريه للنجس الواقعي فقد ورد فيما رواه أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن الجُبن ؟ وقلت له : أخبَرَني مَن رأى أنه يُجعل فيه المَيتةُ فقال : ( أمِنْ أجْلِ مكانٍ واحدٍ يُجعل فيه المَيتةُ حُرِّمَ في جميع الأرضين ؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكلْ، وإن لم تعلم فاشترِ وبِعْ وكُلْ، واللهِ إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجُبن، واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون،هذه البربر وهذه السودان )[5] ضعيفة السند بأبي الجارود، على أنّ قول الإمام (عليه السلام) ( واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون، هذه البربر وهذه السودان ) هو تكبيرٌ للإشكال، وهو أنّ احتمال كون بعض اللحوم ميتةً هو احتمال كبير لا إحتمالاً ضعيفاً، وذلك لكثرة البربر والسودان الجديدي العهد بالإسلام .
فإن قلتَ : هذا الخبر ضعيف ! قلتُ : صحيح، هو ضعيف السند، لكنه قويّ متناً ومعنى، إذ هو حكم العقل الواضح، فلا حاجة إلى هذه الرواية، ولذلك لم يستنكر هذه الروايةَ أحدٌ من العالمين .
إلاّ أنه يرد الإشكال التالي : إننا قد نشتري من نفس البربر أو السودان الذين ذَكَرَهُم الإمامُt فح يقوى احتمالُ عدم التذكية، ومع ذلك يجوز الشراء منهم والأكْلُ بالإجماع، فما الجواب ؟
أقول : هذا صحيح، إذن فهل يمكن أن يكون سبب الترخيص في سوق المسلمين عدم إيقاع المسلمين في الحرج، أو أنّ السبب هو التسهيل على الناس، أو أنّ السبب هو مجموع الأسباب، كما هو الصحيح ؟ إذن فلننظر إلى السبب الآخر المحتمل في الترخيص .
2 وأمّا مصلحة التسهيل على المسلمين فقد ورد في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد(الإصبهاني المعروف بكاسام وهو مجهول) عن سليمان بن داود(المنقري، ثقة) عن (القاضي)حفص بن غياث[6] عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدَي رجلٍ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال : ( نعم )، قال الرجل : أشهد أنه في يده، ولا أشهد أنه له، فلَعَلَّهُ لغَيره ! فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أفَيَحِلُّ الشراءُ منه ؟ ) قال : نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ( فلَعَلَّهُ لِغَيره، فمِنْ أين جاز لك أن تشتريَه ويصير ملكاً لك ثم تقول بَعْدَ المُلك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنبسه إلى من صار ملكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إليك ؟ ) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( لو لم يَجُزْ هذا لم يقم للمسلمين سوقٌ )[7]مصحَّحة الكافي، ورواها الصدوق بإسناده عن سليمان بن داود . وتصحّح أيضاً من باب رواية الصدوق عنه في الفقيه مباشرةً ممّا يعني أنّ كتابه من الكتب التي عليها معوّل الشيعة وإليها مرجعهم .
ولعلّك تعلم أنّ (مصلحة التسهيل على الناس) هي غير (دفْع الحرج)، فقد يمكن التوقّي عن المحلات المشكوكة النجاسة من غير الوقوع في الحرج، ولكنه خلاف التسهيل .
كما أنه قد لا تقع أنت في الحرج في بعض الأحيان، كما لو أمكن لك أن تتجنّب الشراءَ من السوق في بعض الأحيان ولا تقع في الحرج، لكن بشكل غالب إن وجب الإحتياط في سوق المسلمين فسيقع المسلمون جميعاً أو أكثرهم في الحرج الأكيد غالباً جداً، بل سيقع الكثير منهم في الضرر أيضاً، وذلك إن لم يشترِ المسلمون من عندهم لاحتمال المشترين عدمَ صحّة تذكية القصّاب لأنعامه أو لاحتمال عدم اطمئنانهم بصحّة تطهير القصّاب، وكذلك المشترون قد يتضرّرون أيضاً، فإنهم إن احتاجوا للشراء من شخص لا يطمئنّون بصحّة تذكيته وتطهيره فإنهم قد يضطرّون للذهاب إلى أماكن بعيدة فيتضررون أيضاً من أكثر من جهة .
الرابعة : إنّ معنى الترخيص في الشراء والأكل من سوق المسلمين هو الترخيص في كلّ المحلاّت، أي أنّ الاُصول الترخيصيّة تجري في كلّ محلّ محلّ، وليس هذا بقبيح، طالما أنّ إصابة النجس الواقعي ـ كما قلنا ـ بعيد وطالما أنّ المولى تعالى يحبّ أن يسهّل على عباده، أو قُلْ : هذا الترخيص في كلّ محلّ محلّ غير قبيح عقلائياً، طالما اجتمع ضعف احتمال إصابة النجس الواقعي مع مصلحة التسهيل على الناس .
الخامسة : ادّعي الإجماع على الترخيص في كلّ الأطراف .
الكلمة السادسة والأخيرة وهي النتيجة : لا شكّ في جريان الاُصول الترخيصيّة في أمثال سوق المسلمين، الذي هو المثال البارز للشبهة الغير محصورة، لكنْ لا لسبب واحد بخصوصه، فإنّ ذلك لم يثبت أصلاً، وإنما لعدّة اُمور مجتمعة، وهي مجموع (كثرة الأطراف حدّاً كبيراً بحيث لا يقع الإنسان في المخالفة القطعيّة، والتسهيل على المسلمين وعدم إيقاعهم في الحرج أو الضرر)، فقد رخّص لنا ربّنا جلّ وعلا في الشراء والأكل من كلّ محلّ محلّ في السوق الذي يغلب عليه المسلمون، وهذا الترخيص هو عين الحكمة، وليس قبيحاً بأي شكل .


[1]لم أرَ بحثاً قبل صاحب الجواهر في الشبهة الغير محصورة، ثم تعرّض الشيخ الأنصاري لهذا البحث عدّة مرّات في كتابه المكاسب، ثم كَثُرَ التعرّضُ لهذا البحث في زماننا المعاصر.
[2] الحلقة الثالثة من حلقات الشهيد الصدر، ج3، ص246 و 249، من شرح الحلقات للمصنّف فهو يقول بوجود اطمئنان بلحاظ كلّ طرف طرف، ويقول بحجيّة هذا الإطمئنان، فقال ( الصحيح هو أنّ مفاد الترخيص في كلّ الأطراف هو بنحو الحجيّة التخييريّة، لأنّ دليل الحجيّة هنا هو السيرة العقلائيّة وهي منعقدة على الحجيّة بهذا المقدار ) (الحلقة الثالثة ج 3 ص 245).
[3] يصحّ ـ إملائيّاً ـ أن تكتب (تتلاءَم) ويصحّ أيضاً أن تكتب (تتلائَم) بأنْ تضع الهمزة على الكرسي، وقد كتبهما العربُ ـ بكلتا الصورتين ـ كثيراً جداً، فقد كتبوا بالطريقة الاُولى 150 مرّة في سي دي مكتبة أهل البيت، وكتبوها بالطريقة الثانية ـ أي على الكرسي ـ 48 مرّة، والمناطُ في الإملاء هم أصحاب اللغة.
[6] عامّيّ، له كتاب معتمد ـ ست، وقال الشيخ في العدّة : عملت الطائفة بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه، ويروي عنه في الفقيه مباشرةً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo