< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : بقيّة الكلام في دوران الأمر بين المحذورَين

خلاصة البحث السابق هي أنّ البراءة الشرعيّة ترفع التنجيزَ عن كلٍّ مِنَ الإلزامين المتضادّين، ولا ترفع الفعليّةَ ـ كما قلنا مراراً ـ والنتيجة هي إمّا التخيير مع التساوي من جميع الجهات، وإمّا ترجيح أحد الطرفين، إمّا لقوّة الإحتمال ـ أي مع الظنّ بأحدهما المعيّن ـ أو لأهميّة المحتمل ـ الذي هو مراعاة جانب الحرمة ـ فيحكم العقلُ بالترجيح، وذلك لأنه في هكذا حالةٍ القدرُ المتيقّنُ هو اتّباع جانب ذي المزيّة، أو قلْ : مع عدم إمكان الموافقة القطعيّة يحكم العقلُ بالتنزّل إلى أقرب مستوى من الموافقة القطعيّة، وهي الموافقة الظنيّة، ومراعاة الأخطر ملاكاً، وهذا من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ كما لو تردّدنا بين وجوب تقليد خصوص الأعلم شرعاً أو التخيير شرعاً بينه وبين العالم المفضول ولم يوجد إطلاق لنتمسّك به لإثبات كفاية تقليد أيّ مجتهد، كما لو ثبت كلا الإحتمالَين بالإجماع المركّب أو بادّعاء السيرة من بعض العلماء على تقليد خصوص الأعلم وادّعائها من البعض الآخر على تقليد مطلق المجتهد ـ، ولا دليل ـ في هكذا حالة ـ على جواز التخيير بينهما . وقلنا (من قبيل) لأنّ التردّد بين وجوب تقليد خصوص الأعلم وتقليد مطلق المجتهد ليس من باب دوران الحكم بين المحذورين، وإنما هو دوران الحكم بين الواجبَين .
وهكذا الأمر فيما لو كان أحد الطرفين أهمّ من حيث المحتمل ولكن الطرف الآخر أقوى احتمالاً فإنّ علينا أن نقدّم الأهمّ بعد الكسر والإنكسار، وإن لم نعرف الأهمّ فنحن بالخيار عقلاً .

ملاحظة : حينما بحث علماؤنا بالأمر والنهي في هذا المسألة تعرّضوا لبحث حقيقة الأمر والنهي، ونحن وإن كنّا لا نرى حُسْنَ ذلك، ولكن جرت عادتنا في بحث الخارج أن لا نُعْرِضَ عن بحثٍ بحثوه، ولو لبعض فوائد فنقول :
لو قال المولى "أكرِمِ العالِمَ" فالأمرُ بالإكرام ـ أي بإيجاد طبيعة الإكرام ـ يقتضي وجوبَ الإتيان بفرد واحد، لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولذلك يُكتفَى بالإتيان بفرد واحد، وفي قول المولى "لا تغَنّي" يقتضي النهيُ ترْكَ جميعِ أفراد الغناء، لأنّ الطبيعة المنهيّ عنها ـ أي موضوع النهي ـ لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد، ولذلك صار النهيُ يستبطن أحكاماً متعدّدة([1])، فإذا شُكّ في كون الترتيل الفلاني غناءً فهو شكّ في حصول الغناء المحرّم، وبالتالي سنقول بأنّ الأصل يقتضي لزوم البناء على الجواز، وذلك لعدم علمنا بكونه غناءً.
هذا الكلام هو بطبيعة الحال كلامٌ بَدْوي، ولذلك يجب التعمّقُ أكثر فنقول : إنك ترى في الروايات أنّ الإنسان إذا صلّى فرادى ثم اُقيمت صلاة الجماعة فإنه يستحبّ له أن يعيدها جماعةً، إماماً أو مأموماً، وذلك بإجماع علمائنا، وأنّ اللهَ يختارُ "أحبَّهما إليه" وأنه "يصلي معهم ويجعلها الفريضة"، إذن فلم تسقط المحبوبيّةُ، ولذلك لم يسقط أصل المطلوبيّة، لأنها مترتّبة على بقاء المحبوبيّة، وإنما سقط الوجوب والإلزام فقط .
إذن كلامُنا قبل قليل بسقوط الطبيعة المأمورة غير صحيح بنحو الإطلاق ودائماً، وإنما قد لا يسقط الأمر بالطبيعة في بعض الأحيان، وإنما قد يبقى الأمرُ بالطبيعة ولو بنحو مطلق المطلوبية .

* مثال آخر لمسألة دوران الأمر بين المحذورين
كان مثالُنا السابق والمشهورُ هو فيما لو تردّد فِعْلٌ واحدٌ بين كونه واجباً أو محرّماً، هذا، ولكن قد يكون التردّدُ في فعلين، إمّا أن يكونا واجبَين، وإمّا أن يكونا محرّمين، بنحو لا تمكن الموافقةُ القطعيّة، وهذا أيضاً نحوٌ من أنحاء دوران الأمر بين المحذورَين، وذلك كما لو تردّدَ العبدُ بين ما لو قال له المولى "صُبَّ الماء على هذا التبغ اليابس الغالي الثمن يومَي الخميس والجمعة" أو أنه قال "لا تصبَّ الماء عليه لا يوم الخميس ولا يوم الجمعة" وسافر المولى، ولا يمكن السؤال من أحد، فماذا يفعل العبدُ ؟
فهل يصبُّ الماءَ عليه يومَ الخميس دون الجمعة ؟ فيكون قد خالف مخالفة قطعيّة ؟
أو يصبُّ الماءَ يوم الجمعة دون الخميس فيكون قد خالف مخالفة قطعيّة أيضاً ؟
أو يصبُّ الماءَ يومَي الخميس والجمعة فيكون قد فعل مخالفة احتماليّة ؟
أو لا يصبُّ الماءَ أصلاً لا يوم الخميس ولا يوم الجمعة ؟ فيكون قد فعل مخالفة احتماليّة أيضاً ؟
الجواب : لا شكّ أنه مع فرض وجود مَزِيّةٍ في أحد الإحتمالات ـ إمّا في قوّة الإحتمال أو في أهميّة المحتمل ـ يجب عليه تقديمُه عقلاً، بمعنى أنه قد يكون عنده ظنّ أنه قال الصيغة الإيجابية مثلاً ـ أي قال له "صُبَّ الماء" ـ فيَعمل على أساسها، وقد يكون احتمال صبّ الماء عليه أمراً مستبعداً وخطيراً، فيعمل على هذا الأساس، ومع وجود كلتا المزيّتين المذكورتين المتعارضتين في نفس الوقت فإنه ح يُرَجّح بعقله، ومع عدم إمكان الترجيح فلا شكّ أنه يكون مخيّراً ظاهراً . وبتعبير آخر : لو سألْنا نبيّاً عن هكذا فرضيّة فليس له ـ حسب فهمنا ـ أن يقول غيرَ هذا، هكذا يفكّر المؤمن المتديّن دائماً، فهو يفكّر دائماً على أساس أنه لو سُئِلَ يومَ القيامة بم سيجيب .



[1] يلاحَظُ من كلام السيد الشهيد الصدر .أنّك قد تقول ( إنّ النهي واحد وهو شمولي ) بمعنى أنّ متعلّق النهي هو الطبيعة فقط، فالأمر واحد، نعم النهيُ يقتضي ترك تمام الأفراد، ذلك لأنّ المنهيّ عنه إنما هي الطبيعة، وهي لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد . وقد تقول : لا، وإنما النهي هو انحلالي، بمعنى أنه يستفاد من "لا تظلمْ" مثلاً، هو حرمة كلّ ظلم، فهو إذن أحكام عديدة بحرمة كل ظلم . والصحيح هو الأوّل، ولكنْ عَمَليّاً هذا النهيُ عن الطبيعة يقتضي تركَ كلّ أفراد الظلم .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo