< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هل تجري البراءة والحليّة في الشبهة الموضوعيّة أم لا ؟

التنبية الثالث وهو في التعرّض لمسألتين : الاُولى : دعوى عدم جريان قاعدة الحليّة في الشبهة الموضوعية التحريمية، فقالوا بأن الشارع المقدّسَ بيَّن حكْمَ الخمرِ ـ مثلاً ـ فيجب حينئذ اجتنابُ كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية، وذلك لأن وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلا بيان الكبريات مثل ( الماء حلال، والخمر حرام ) وقد بيَّنَها ووصلت إلى المكلف حسب الفرض، واِنّما الشك في الصغرى، وهي أنّ هذا المائع الخارجي هل هو خمر أم لا ؟ ومن المعلوم أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع الأقدس، وحينئذ فلا يحكم العقل بأصالة الحليّة، ضرورة انتقاض عدم البيان بعِلْمِ المكلف بأصل التحريم، وترددُ متعلق التحريم بين شيئين بسبب أمور خارجية غيرُ مرتبطٍ بالشارع المقدّس حتى يجب عليه رفْعُه، بل على المكلف نفسِه إزالةُ هذا التردد والجهل . كما لا يجري فيه مثل حديث الرفع لاثبات الترخيص الظاهري، إذ الحديث اِنّما يرفع ما كان وضْعُه بيد الشارع، وقد عرفت أن ما يكون وضْعُه بيده هو إنشاء الحكم الكلي لا غير . وعليه فمجرد العلم بالكبريات مثل ( الخمر حرام ) أو ( لا تشرب الخمر ) كاف في تنجز التكليف على المكلف، ويحكم العقل بلزوم الإجتناب عن الأفراد المشكوكة كحكمه بلزوم الإجتناب عن المصاديق المعلومة .
والثانية : أنت تعلم أنه تجب سجدتا السهو عند التكلّم بكلام الآدميين سهواً، ولكن قد تخطئ في قراءة الآية في الصلاة فتشكّ هل ما قرأتَه من آية خاطئة يعدّ من كلام الآدميين أم لا ؟ وبالتالي هل تجب سجدتا السهو أم لا ؟ فهذه الشبهة موضوعيّة مصداقيّة أيضاً .
ودفْعُ الإشكالِ أن يقال : اِنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الخمر المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، أمّا مع الجهل واحتمالِ الخمريّة فلا يبعد جريانُ أصالة الحِليّة عقلاً، أمّا الحليّة الشرعيّة والبراءةُ الشرعية في الشبهة الموضوعية فلا شكّ في جريانهما قطعاً .
بيان ذلك : قال الله تعالى( لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ ما آتاها )[1] أي إلاّ ما أعلمَها، والمفروض أننا لا نعلم بخمريّة هذا المائع الخارجي المعيّن، فنحن إذن غيرُ مكلّفين إذا شربنا المائع المردّد بنحو الشبهة البدويّة بين الخمر والخلّ . ومثلُها قولُه تعالى( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ .. )[2]، والمفروض أنّ المولى تعالى لم يبيّن لنا أنه خمر . وقال رسول الله (ص) ( رُفِعَ عن أمتي ما لا يعلمون )[3] والمفروض أننا لا نعلم بأنه خمر، فالتكليف مرفوع عنّا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : (كل شيء هو لك حلالٌ حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه مِن قِبَلِ نفسِك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حُرٌّ قد باع نفسَه، أو خُدِعَ فَبِيعَ قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك، أو تقومَ به البيِّنَةُ )[4] .
وكذلك الأمرُ تماماً فيما لو شككنا في وجوب سجدتَي السهو فيما لو شككنا ـ بنحو الشبهة المصداقيّة ـ في وجوبها علينا أو لا، فإنّ الآيتين وحديث الرفع واضحة في عدم وجوب السجدتين عليه .
ولك أن تستدلّ على البراءة والحليّة الشرعيّتين في كلتا الحالتين المذكورتين بإستصحاب عدم التكليف .
ولك أن توسّع كلامنا أكثر فتقول : لا يبعد جريان الاُصول المؤمّنة العقليّة والشرعيّة في الشبهتين الحكميّة والموضوعيّة، الوجوبيّة والتحريميّة، فإنّ العقل يستقبح مؤاخذة من لم يتنجز التكليف في حقه، سواء كان عدم التنجز لعدم بيان الشارع له من الأصل ـ كما في الشبهة الحكمية الناشئة مِن فَقْدِ النصِّ، أو لإجمال دلالته، أو لمعارضته مع خطاب آخر مكافئ له ـ أو لجهل المكلّف بتحقق متعلقه، أو لجهله بكون الموجود من مصاديق متعلقه كما في المقام، ففي جميع هذه الموارد لا يبعد حكم العقل بقبح المؤاخذة فتجري البراءة والحليّة العقليّتان . فيكون الملحوظ الحصص ووجودات الطبيعة بحيث يكون كل وجود من وجوداتها متعلقاً لحكم على حدة، لوجود تمام ملاك الحكم فيه، فتكون القضية الشرعية حينئذ قضية حقيقية ينحل الحكم المأخوذ فيها إلى أحكام عديدة حسب تعدد الموضوعات وأفراد الطبيعة، فيكون قوله ( لا تشرب الخمر ) بمنزلة قوله : لا تشرب هذا الخمر ولا تشرب ذلك الخمر وهكذا، نظير العام الإستغراقي الذي يكون كل فرد من أفراده بحياله موضوعاً للحكم كوجوب إكرام كل فرد من أفراد العلماء المستفاد من قوله ( أكرمِ العلماءَ ) . وهذا لازمه جواز إجراء البراءة اعتماداً على أصالة البراءة، لان مجراها هو الشك في التكليف، أو قل : نحن نشكّ في فردية الفرد الخارجي للخمر المنهي عنه .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo