< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الإعتراضات على البراءة الشرعية

قلنا إنه اعتُرِضَ على أدلّة البراءة باعتراضين أساسيين :
أحدهما : هي معارَضةٌ بأدلّة وجوب الإحتياط،
والثاني : هي مخالِفةٌ لحكم العقل بلزوم الإحتياط في موارد العلم الإجمالي .

وذَكَرْنا الإعتراضَ الأوّل وقلنا إنه قد يُقال بوجود أدلّة تدلّ على وجوب الإحتياط في موارد الجهل بالحكم الشرعي سواء في الشبهات الحكمية أو في الشبهات الموضوعيّة، بل حتى رغم البحث في المجامع الروائية وعدم وجود أدلّة إلزامية على المسألة يجب عليك الإحتياط بمجرّد احتمال الإلزام شرعاً، ووصلنا إلى الأدلّةُ النقليّة على وجوب الإحتياط وقلنا إنه وَرَدَ طائفتان في الروايات قد تفيد وجوب الإحتياط وهما :
1) روايات التثليث : وهي أربع روايات تقريباً، ومُفادُها ـ كما في مقبولة عمر بن حنظلة ـ ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعةٌ في دَين أو ميراث فتحاكما .. إلى أن قال (عليه السلام) : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا، ويُترَكُ الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمعَ عليه لا ريبَ فيه، وإنما الاُمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( حلالٌ بيِّنٌ، وحرامٌ بيِّنٌ، وشبُهاتٌ بين ذلك، فمَن ترَكَ الشبهاتِ نجا من المحرمات، ومَن أخَذَ بالشبهات ارتكب المحرمات وهَلَكَ مِن حيثُ لا يَعلم .. )[1] وهي مقبولة السند .
والجوابُ عليها هو أنه بعد ثبوت قاعدة البراءة الشرعية من القرآن والسنّة بوضوح، لا يقال بأنّ هذا الأمْرَ مُشْكِلٌ أو أنه شُبْهَة، بل الترخيصُ أمْرٌ بيّنٌ لنا رُشْدُه عقلاً ونقلاً، وعليه لن نَهْلَكَ إن شاء الله تعالى .

2) موثّقة عبد الله بن وضّاح، فقد روى في التهذيبين بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن سليمان بن داوود عن عبد الله بن وضاح قال : كتبتُ إلى العبد الصالح (عليه السلام) : يَتوارى القرصُ، ويُقبِلُ الليلُ، ثم يَزيد الليلُ ارتفاعاً، وتَستترُ عَنّا الشمسُ، وتَرتفع فوقَ الجبل حمرةٌ، ويُؤَذِّنُ عندنا المؤذِّنون، أفاُصَلّي حينئذ واُفطِرُ إن كنت صائماً ؟ أو أنتظرُ حتى تذهبَ الحُمرةُ التي فوق الجبل ؟ فكتب إلَيَّ : ( أرَى لك أن تنتظرَ حتى تذهبَ الحُمرةُ، وتأخذَ بالحائطة لدِينك )[2] .
والجوابُ على هذه الموثّقة هو أنّ الإمام (عليه السلام) في هكذا شبهة موضوعيّة يجب أن يأمره بالإحتياط، وذلك للزوم استصحاب بقاء الليل، وأين هذا من وجوب الإحتياط بنحو كلّي، أي بنحو القاعدة العامّة في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة ؟! وبتعبير آخر : سياق سؤال السائل يدلّ على وجود شبهة موضوعيّة في غياب الشمس، ومن الطبيعي في هكذا حالة أن يأمره الإمامُ (عليه السلام) بوجوب الإحتياط، خاصةً وأنه قال له ( أرَى لك ) ممّا يفيدنا أنه يعطيه حكماً ظاهرياً في هكذا شبهة موضوعيّة فقال له ( إستصحب بقاءَ الليل ولا تُفْطِرْ حتى تتأكّد من دخول الليل ) . ولا أقلّ من احتمال إرادة إفادة قاعدة الإستصحاب، فح يَبطل الإستدلالُ بهذه الرواية .
إذَنْ لا دليلَ على وجوب الإحتياط، ولا معارَضةَ لأدلّة البراءة الشرعيّة.
على أنّ لك أن تقول بأنّ أدلّة البراءة تُفيد عدمَ وجوب الإحتياط في حال عدم العلم بالحكم الواقعي، كقوله تعالى ﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ ما آتاها[3] [4]أي لا يكلّفُ اللهُ نفساً بتكليف إلاّ بالتكليف الواقعي الذي يعْلِمُها به، ومثلُها قولُه ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ[5] [6] أي حتى يبيّنَ لهم الأحكامَ الواقعيّة التي يجب أن يتّقوها.
فلو فرضنا أنّ روايات الإحتياط تفيدنا لزومَ الإحتياط في حال الجهل بالأحكام الواقعية لتعارضت ح أدلّةُ البراءة الشرعية مع أدلّة الإحتياط، لأنهما في عرْضٍ واحد، ولرجعنا ح إلى أصالة البراءة العقلية .
وأيضاً : أدلّةُ البراءةِ قرآنيةٌ فهي قطعيّة، وبالتالي هي ترجِّحُ أدلّةَ البراءة على أدلّة الإحتياط.
وأيضاً : أدلّةُ البراءة أخصّ من أدلّة الإحتياط، ذلك لأنّ أدلّة الإحتياط شاملة لما قبل الفحص وما بعد الفحص ولموارد العلم الإجمالي، وأدلّةُ البراءة شاملةٌ لخصوص ما بعد الفحص في الأدلّة الإجتهاديّة وغير ناظرة إلى موارد العلم الإجمالي، فيجب تقييدُ أدلّة الإحتياط بأدلّة البراءة .


[3] سورة الطلاق قال الله تعالى( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ، لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7))..
[5] سورة التوبة قال الله تعالى ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ. وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116)).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo