< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : قوله تعالى﴿ قُل لاَّ أَجِدُ ﴾ وخلاصة الإستدلال بالآيات

4 ـ قوله تعالى﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145) ﴾[1] [2]، تقريب الإستدلال أنّ الله جلّ وعلا أمَرَ رسوله (ص) أن يقولَ لليهود : أنا لا أجِدُ فيما اُوحي إليّ محرّماً إلاّ هذه الاُمور المذكورة، ولم يَقُلْ له اللهُ جلّ وعلا : قُلْ لا يوجد في شريعة الله محرّمٌ إلاّ هذه المذكورات، ممّا يعني أنّ الله تعالى يعلّمُ رسولَه على البراءة العقلية وعلى الإستدلال بها أمام اليهود، وأنها هي الإستدلال الصحيح على الحلّيّة العقلية مع اليهود .
فإنْ قلتَ : إنَّ رسول الله يقول ﴿ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾ وهذا يعني أنّ النبيَّ (ص) كان يتكلّم مع اليهود من حيث هو نبيّ ـ لا من حيث هو إنسان عادي ـ وأنّ عدم وجدانه دليل على عدم الوجود واقعاً، وح نقول : بما أنّ رسول الله يعلم بكلّ الشريعة، ولا يُجري أصالةَ البراءة العقلية أو الشرعية، فكأنّ رسول الله يقول : مِن أين أتيتم بهذه التحريمات ؟! وأنا رسول الله الذي يوحَى إليّ لا أجد فيما اُوحيَ إليَّ محرّماً إلاّ المذكورات، فمن أين أتيتم أنتم بهذه التحريمات ؟ إذا أنا النبيّ لا أجد، فمن أين وجدتم أنتم ؟! فح لا تكون هذه الآية بصدد إفادة أصالة البراءة والحليّة، وح لا يصحّ الإستدلال بهذه الآية المباركة .
قلتُ : إعلمْ أننا نحن أيضاً لنا أن نستدلّ بنفس طريقة استدلال رسول الله (ص) ونقول : لا نَجِدُ فيما علّمنا أئمّتُنا (عليهم السلام) محرّماً علينا إلاّ ما وَصَلَنا ... أو قُلْ : هذه شريعة الله جلّ وعلا قد بلّغنا إياها خلفاءُ الله وألسنتُه في أكثرَ مِن 329 سنة، ولم يقولوا لنا مثلاً جلسةُ الإستراحة واجبة أو السورة بعد الفاتحة أو القنوت أو الإقامة أو أو .. إذَنْ لنا أنْ نُجْرِيَ البراءةَ وندّعيَ بأنّ هذه المذكورات ليست واجبة ظاهراً، إذ لو كانت واجبة لَذَكَرَ لنا أئمّتُنا (عليهم السلام)ذلك بعشرات الروايات، ولا يُحتمَلُ هَلاكُ وتلفُ كلّ هذه الروايات، فالإنسانُ العادي لو أراد أن يوصل هذه الأحكامَ إلى الأجيال البعيدة عنه زماناً ومكاناً فإنه يخبر عشراتِ الثقات بذلك ويأمرهم بكتابة هذه الكلمات كي تصل إلى الأجيال البعيدة كما فَعَلَ الكليني وغيرُه .
وإن قلتَ : لا يمكن الجزم بالكلام السابق، إذ ليس عدمُ وجداننا كعدم وجدان النبيّ (ص)، فعدمُ وجدانِ النبيّ مساوق لعدم الوجود قطعاً، وأمّا عدم وجداننا نحن فغَيرُ مساوِقٍ لعدم الوجود، إذ لعلّ بعض الروايات المتعلّقة بالقنوت وجلسة الإستراحة وبسائر المذكورات كان فيها بعض الروايات الصحيحة وضاعت، فليس لك أن تجري البراءةَ المستنبطة من هذه الآية .
قلتُ : بعَثَ اللهُ مئات آلاف الأنبياء والأوصياءَ ليبلّغوا دِينَ الله، لا ليتركوه في مهبّ الريح، هذا يضيّع، وذاك ينسى، وأبو بكر يحرق خمسمئة حديث، وعمر يحرق الباقي، وضاعت الرسالة، وضاع جهد الأنبياء والأوصياء، قصّر آباؤنا في حِفْظِ الأحاديث، ونحن نخسر معرفةَ دين الله، والله يقول ﴿ ولا تزر وازرةٌ وزر اُخرى[3] ... هذا لا يمكن أصلاً، وهذا تبسيط لدين الله، ولوظيفة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وللغرض الذي بُعِثَ مِنْ أجْلِهِ الأنبياءُ والأوصياء .. فكما أنّ الله حافظ لكتابه الكريم من التحريف والتصحيف، فكذلك شريعته الغرّاء محفوظة، يحفظها ويبيّنها الأئمّةُ المعصومون مِن بَعد رسول الله (ص) حتى لا نبكي على حكم إلهي ضاع مِن بيننا، وحتى لا يبقى حكمٌ مهم إلاّ وقد وصلنا ..
وهل تصدّق قائلاً يقول : إجتمع آلاف الأبطال على أن يحملوا كلغ واحد فلم يستطيعوا ؟! أتصدّق هذا ؟! فكيف تصدّق قائلاً يقول لك : إجتمع كلّ أئمّتنا وكلّ الرواة لمئات السنين على أن يوصلوا إلينا رواية صحيحة واحدة في وجوب القنوت أو في وجوب جلسة الإستراحة فلم يستطيعوا !! أو تَلِفَتْ صدفةً !! وهم الآن في برزخهم يتحرّقون حزناً على ضياع بعض الروايات المهمّة !! أتصدّق هذا ؟! لهذا نحن نجري البراءةَ من خلال هذه الآية الكريمة .
وبتعبير آخر نقول : نعم يمكن ضياع بعض الأحكام، لكنْ الغير مهمّة التي هي محلّ كلامنا والتي يمكن إجراء البراءة الشرعية فيها، إذ لو كانت مهمّةً لَذَكَرَها أئمّتُنا أمامَ عشرات الرواة الفقهاء لتصل إلينا، فعدمُ وصولها إلينا أمارةٌ قطعية لجواز إجراء البراءة فيها، وهذا هو السرّ في قول الله تعالى﴿ قُل لا أَجِدُ ﴾ وذلك بدليل أنه بَعد جُهْدِ أئمّتِنا مئاتِ السنين في إيصال ما استطاعوا من أحكام شرعية إلى البعيدين عنهم مكاناً وزماناً، ورغم أمْرِهِم ثقاتِهم بكتابة أحاديثهم، وقولهم "إنكم ستحتاجون إليها"، وبَعد جُهْدِ آلافِ الرواة، وبَعد جمْعِ عشرات آلاف الأحاديث .. إن لم نجد ـ فيما وصلنا ـ وجوبَ القنوت في رواية صحيحة واحدة، فهذا أمارة واضحة في عدم وجوبه شرعاً، ولا نصدّق قولهم لعلّها تلفت !! ولا نصدّق قولهم ولعلّ رواية وجوب السورة بعد الفاتحة قد وردت في رواية صحيحة، لكنها ضاعت !! وجلسة الإستراحة !! أليس هذا أعجبَ مِن الأعاجيب السبعة ؟! فاعلم أنها لو كانت واجبة لوردتنا في أكثر من رواية أو روايتين، لا فقط في رواية واحدة، والمعصومون قادرون على ذلك بأسهل الطرق وأيسرها .. عدمُ ورودها أمارةُ عدمِ وجوبها أو عدمِ أهميّتها وجوازِ جريان البراءة فيها، وذلك بدليل إمكان أن نقول في الآخرة للإمام الصادق (عليهم السلام) (لم نجد نحن أيضاً وجوب هذا وتحريم ذاك) نقول قولَنا هذا اُسوةً بقول رسول الله (ص) فأجرينا البراءةَ .
* * * * *
وقد تلخّص من كلّ هذا الكلام في الآيات الأربعة أنّها تدلّ بأجمعها على البراءة،
أمّا الآيةُ الاُولى وهي قوله تعالى ﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ ما آتاها[4] فقد عرفتَ أنها تدلّ على البراءة في الشبهات الحكميّة ـ الوجوبية والتحريمية ـ والموضوعية .
وكذلك الآية الثانية وهي قوله تعالى ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[5] فقد قلنا أيضاً إنّها تفيد البراءةَ، لكنْ في خصوص الشبهات الحكمية ـ التحريمية والوجوبية ومنها الشبهاتُ المفهومية ـ لا الشبهات الموضوعية أي المصداقية .
وكذلك الآيةُ الثالثة وهي قوله جلّ وعلا ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ[6] فقد قلنا أيضاً إنها تفيد البراءة والحليّة في الشبهات الحكمية ـ الوجوبية والتحريمية ـ والموضوعية .
ونفس الكلام يجري في الآية الرابعة وهي قوله تعالى﴿ قُل لاَّ أَجِدُ .. ﴾[7] فإنها تدلّ على البراءة والحليّة العقليّتين .
وقلنا إنّ البراءة المستنبَطة من هذه الآيات يصحّ إجراؤها في القيود الزائدة المشكوكة .
وقلنا أيضاً إنّ هذه البراءة ترفع التنجيز فقط، وبالتالي استحقاقَ العذاب، ولا ترفعُ الفعليةَ، لأنّ الفعلية مرتبةٌ معلولة عن تحقّق شرائط الحكم، فهي مرتبة تكوينية عقلية، لا شرعية.


[1] قال الله تعالى ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِّيُضِـلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ. وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) ) سورة الأنعام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo