< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : في جريان البراءة المستفادة من حديث الرفع في الشبهات الحكمية والموضوعية

البحث الثاني : في جريان البراءة المستفادة من حديث الرفع في الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً
والإشكال في شمول حديث الرفع لكلتا الشبهتين اِنما ينشأ من ناحية اَنّ (ما لا يعلمونه) في الشبهة الحكمية غيرُ (ما لا يعلمونه) في الشبهة الموضوعية، فإنه في الأول هو الحكم وفي الثاني هو الموضوع الخارجي، فكيف نتصور الجامع بينهما ؟
أفاد صاحب الكفاية بأنّ الحديث ورد بعنوان ( ما لا يعلمون )، واِسمُ الموصول مدلوله يساوق (الشيء) وهو جامع بين (التكليف) و(الموضوع الخارجي) لأنّ كلاًّ منهما (شيء لا يعلمونه)، فيكون مشمولاً للحديث إذا كان قابلاً للرفع الشرعي .
واعتُرِض عليه : بأنّ الموصول إذا اُخِذ بمعنى (الشيء) الجامعِ بين التكليف والموضوع الخارجي واُسنِد الرفعُ إليه فإنه يلزم الجمع في الإسناد بين الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن اسناد الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم إسنادٌ حقيقي، ولكنْ اِسنادُه إليه بمعنى الموضوع الخارجي هو إسناد مجازي عِنائي، إذ لا يرتفع الموضوع الخارجي حقيقة، والجمعُ بين الأمرين غير معقول .
أقول : الصحيح أنّ الجامع هو (الحكم التنجيزي)، أمّا موضوع هذا الحكم التنجيزي فقد يكون كلّيّاً ـ كما في الشبهات الحكمية ـ وقد يكون جزئيّاً ـ كما في الشبهات الموضوعية ـ فلا مشكلةَ في البَين أصلاً، وذلك كما تقول "اَكرِمِ العالِمَ" فالوجوبُ واحد، والإكرامُ الذي هو موضوع الوجوب قد يكون بطريقة القيام وقد يكون بطريقة الإطعام وقد يكون بطرق اُخرى .
وهنا قال السيد الشهيد: ( وهذا الجواب واِنْ كان يَحِلُّ المشكلةَ بلحاظ فقرة ما لا يعلمون وعمومِها للشبهتين اِلاّ اَنّه يَبقَى الإشكالُ بلحاظ الفقرات الثمان الأخرى، فإنّ المراد من الموصول فيها لا يكون اِلاّ الفعلَ الخارجي، لأنّ ما يُضطر إليه وما لا يطيقونه هو الفعل الخارجي لا الحكم الشرعي، فيبقى الإشكال في كيفية الجمع بين اِسناد الرفع إلى الموضوع الذي لا يكون اِلاّ مجازياً واِسنادِه إلى الحكم الذي لا يعلمونه الذي يكون إسناداً حقيقياً )[1] (إنتهى) .
أقول : هذا الإشكال غيرُ وارد، وذلك لأنّ المرفوعات الثمانية المذكورة وهي ( الخطأ والنسيان وما اُكرِهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطُّروا إليه والحسد والطِيَرَة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة ) هي أيضاً (الأحكام التنجيزية)، كما قلنا في ( ما لا يعلمون ) تماماً، فمَن أخطأ لا حُكْمَ تنجيزيَّ عليه .. ومَن نَسِيَ لا حكم تنجيزي عليه .. وهكذا في الباقي، ولذلك لا يستحقّون العقاب، ولا يوجد أيّ عناية ومجاز في الرفع، حتى في الشبهة الموضوعية .
كما لا يوجَدُ أيُّ مقتضي لتقييد حديث الرفع بالشبهة الحكمية دون الموضوعية أو العكس، وح يجب أن نتمسّك بالإطلاق . فأنا إنْ كنتُ لا أعرفُ وجوبَ أو حرمةَ عملٍ كلّي معيّن فَلِي أن أتمسّك بحديث الرفع، وإن كنت لا أعرف وجوبَ أو حرمةَ عملٍ خارجي معيّن فلي أيضاً أن أتمسّك بحديث الرفع، وهذا أمر واضح عرفاً .
فإن قلتَ : سياقُ الحديث يشير إلى إرادة الأحكام التنجيزية المتعلّقةِ بخصوص الموضوعات الخارجية فقط، وذلك لأنّ كلّ المذكورات هي موضوعاتٌ خارجية .
قلتُ : سياقُ الحديث ليس دليلاً كافياً على إرادة التقييد بالموضوعات الخارجية، على أنّ الإختلاف في المصاديق ـ بعد الإتّحاد في المفهوم التصوّري لكلمة (ما) وهو معنى (الذي) ـ لا يضرّ في وحدة السياق . مثال ذلك : لو قال المولى ( لا تأكلْ ما تلبِسُه وتأكلُه وتشربه وتتكفّن فيه ) فإنك تلاحظ وحدة المعاني واختلاف المصاديق، مع أنّ (ما) كلمة واحدة، فكيف إذا تعدّدت وقال المولى مثلاً ( لا تأكلْ ما تلبِسُه وما تأكلُه وما تشربه .. )، وكذلك الأمْرُ في حديث الرفع ؟! فالمهم هو أن يكون معنى (ما) في كلّ الرواية معنى واحد، وهو حاصل .
وإن قلتَ بالعكس فقلتَ : بل حديثُ الرفعِ ناظرٌ إلى رفع الشبهات الحكمية دون الموضوعية، وذلك لأنّ ما لا يعلمون لا ينطبق على الموضوع الخارجي، لأن الموضوع الخارجي ذاته معلومة واِنما الشكُّ في وصفه وعنوانه وهذا بخلاف الحكم، وهذا ما نسبه السيد الشهيد إلى المحقّق العراقي .
قلتُ : هذا أيضاً غير صحيح، وذلك لأننا لا نَعْرِفُ بأنّ ما نَسْمَعُهُ ـ مثلاً ـ غِناءٌ أو مولدٌ شرعي، أو قُلْ : أنا لا أعرف عنوانه شرعاً، فلنا أن نجري فيه البراءة . فالصحيح هو عموم الحديث للشبهتين .

2 ـ روى الشيخ في يب بإسناده الصحيح عن موسى بن القاسم عن عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله (عليه السلام)ـ في حديث ـ أنه قال : ( أيُّ رَجُلٍ رَكِبَ أمْراً بجهالةٍ فلا شَيءَ عليه )[2] صحيحة السند، وهي تفيد بإطلاقها شمولَ البراءة في الشبهتين الحُكْمِيّة والموضوعية .
وناقش السيد الخوئي فيها : ( فقال إن ما يستفاد من هذه الرواية هو رفع خصوص الكفّارة، لا رفع القضاء أيضاً )[3] .
أقول : إطلاق هذه الرواية يفيد الشمول لرفع الكفّارة ولرفع وجوب القضاء أيضاً .

3 ـ ما رواه في التوحيد عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن (علي أو ولده الحسن بن علي)ابن فضال عن داود بن فرقد(ثقة ثقة له كتاب) عن أبي الحسن زكريا بن يحيى(الواسطي ثقة له كتاب) عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال : ( ما حَجَبَ اللهُ عِلْمَهُ عن العِباد، فهو موضوعٌ عنهم)[4] ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى .. وهو صحيح السند في كلا الكتابَين، وهذه الرواية شاملة للشبهتين الحكمية والموضوعية، فإنّ الملائكة والأنبياء والكثير من الأولياء والأموات قيل وحتى الحيوانات يعرفون حقيقةَ الأشياء الخارجية، دون الإنسان الدنيوي العادي، فهذا إذن ممّا حجب اللهُ عِلْمَهُ عَنّا، فهو موضوع عنّا . وأمّا الشبهات الحكمية فأوضح شمولاً في الحديث، فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا قادرين على إيصال ما يريدون من أحكام بمئات الروايات، وهم يعلمون أنّ بعض رواياتهم سوف تَتلف أو تُنسَى .. ورغم ذلك ما أوصلوا إلينا بعض الأحكام، كوجوب القنوت وجلسة الإستراحة وو .. ممّا يعني أنّ الله حجب علمه عن العباد في هذه الموارد، فهو إذن موضوع عنهم . والقدر المتيقّن من هؤلاء العباد هم (الجاهلُ القاصر الغير ملتفت إلى وجود تكليف شرعي في هذا المورد) و(المجتهدُ)، فإنّ المجتهد جاهل بالحكم الواقعي، لكنه قد يكون ملتفتاً إلى جهله.


[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج9، ص125، من أبواب تروك الإحرام، ب45، ح3، ط الاسلامية وتمام الحديث : عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّ رجلاً أعجمياً دخل المسجد يُلَبِّي وعليه قميصُه، فقال لأبي عبد الله (عليه السلام) : إني كنت رجلاً أعمل بيدي واجتمعت لي نفقةٌ، فجئتُ أحجّ، لم أسأل أحداً عن شيء، وأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وأنزعَه مِن قِبَلِ رِجْلي، وأنَّ حَجّي فاسد، وأنّ علي بدنة ؟ فقال له : .( متى لبست قميصك أبعدما لَبَّيْتَ أم قبل ؟ ) قال : قَبْلَ أن اُلَبّي، قال : ( فأخرِجْهُ مِن رأسك، فإنه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحج من قابِل، أي رَجُلٍ رَكِبَ أمْراً بجهالةٍ فلا شيءَ عليه، طُفْ بالبيت سبعاً، وصَلِّ ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام)، واسْعَ بين الصفا والمروة، وقصِّرْ مِن شَعْرِك، فإذا كان يومُ التروية فاغتسِلْ وأهِلَّ بالحج، واصنعْ كما يصنعُ الناس )

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo