< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/07

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: بقية الكلام في البحث الثاني في أدلّة حجيّة الخبر/آية النبأ
البحث الثاني : في أدلَّة حجّيّة الخبر :
* اُستُدِلّ على حجّية خبر الواحد بالأدلَّة الأربعة :
1 ـ دعوى الإستدلال بالكتاب الكريم :
فقد استدلّ على حجيّة خبر الثقة بآية النبأ، قال الله تبارك وتعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[1].
وذلك بخمسة تقريبات :
التقريب الأوّل من جهة مفهوم الشرط، بمعنى أنّ تعليق الحكم بـ (إيجاب التبيُّن) عن النبأ الذي جيءَ به على (كون الجائي به فاسقاً) يقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفاء كون الجائي فاسقاً . فكأنه قيل : النبأ، إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا، وأمّا إن جاءكم به عادل فلا يجب عليكم التبيّن .. فموضوع الشرط هو (النبأ) والشرط هو (كون الجائي به فاسقاً)، و (النبأ) باقٍ عند انتفاء الشرط ـ أي عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ ـ .
ولا يخفى أنه على هذه التقرير لا يَرِدُ أن الشرط في القضية هو لبيان تحقّق الموضوع، وأنه من قبيل ما لو قيل لك "إنْ رُزِقْتَ ولداً فاخْتِنْهُ" فإنْ لم تُرزَقْ ولداً فلا موضوعَ ليُقالَ لك "فلا تَخْتِنْهُ"، وهنا أيضاً كذلك إن قلنا إنّ موضوع الشرط هو (النبأ الذي جاء به الفاسق) فإن لم يأتنا نبأ الفاسق فلا موضوع أصلاً، فلا مفهوم له ح، لأنه من باب السالبة الحكم لانتفاء موضوعه .
التقريب الثاني بالإستفادة من مفهوم الوصف الخاص، وهو أن يقال : عندنا في الخارج حالتان لا ثالث لهما : فإمّا أنْ يأتيَ بالنبأ فاسقٌ ـ أي كاذب في الإخبار، ومثلُه مجهولُ الحال، وهو مثلُه من حيث النتيجة وذلك لاحتمال أن يكون فاسقاً ـ أو يأتيَ به عادلٌ ـ أي صادق ـ ولا حالةَ ثالثةٌ، وح نقول : إنه لا معنى لأن يقال [ فاسق ] إن لم تكن لهذه الكلمة أثر وفائدة، وإلاّ لقال إن جاءكم شخصٌ بنبأ فتبيّنوا ... خاصةً مع تقديم [ فَاسِقٌ ]على[ بِنَبَأٍ ] ممّا يشير إلى أنّ المنظور إليه في الآية هو (الفاسق) أي أنّ الآية تريد حصر وجوب التبيّن بالفاسق .
ولا يفيدنا الجواب على هذا الكلام بأنّ خبر الفاسق أوجبُ في التأكّد من خبر العادل الصادقِ الذي يفيد الإطمئنانَ غالباً .
فإنّ الأغلبية في الصدق وحصولِ الإطمئنان لا يوجب ذِكْرَ كلمةِ [ الفاسق ] في الآية، فقد يحصل عندك ظنّ مِن قول الفاسق أحياناً لبعض قرائن، ولا يحصل ظنّ ـ لبعض قرائن ـ مِن خبر العادل، ورغم ذلك يجب التبيّن شرعاً في خبر الفاسق دون خبر العادل .
التقريب الثالث أن يُنظَرَ إلى السبب القرآني لوجوب التبيّن في خبر الفاسق وهو ﴿ أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ﴾ فالخوف من إصابة قوم بجهالةٍ هي العلّة الاُولى لوجوب التبيّن، فالأحوط قرآنياً وشرعاً إذَنْ أن نتبيّن فيه، لأنه لا يؤْمَنُ منه الكذِبُ العمْدي فنظلم الناسَ، أمّا إن كان الراوي صادقَ اللهجة فلا يجب الإحتياط قرآنياً وشرعاً، وذلك لأنه ليس جهالة شرعاً، وإنما هو بيانٌ وعِلْمٌ شرعاً أي بنظر الباري تعالى، وهذا يؤكّد مسلكَ الطريقية .
فإن قلتَ : بل كلا الخبرين جهالةٌ بالوجدان، طالما لم يحصل من خبر الثقة عِلْمٌ واعتقاد، ولذلك سيحصل ندامة إن وقع المتّبع في خلاف الواقع لأنه لا يحصل من خبر الثقة إطمئنان دائماً .
قلتُ : هذا صحيح، فإنّ خبر الثقة لا يفيد الإطمئنان دائماً، فالثقةُ قد يخطئُ أحياناً، لكن مع ذلك، المولى تعالى اعتبر خبر الثقة ـ بالتقريب السابق ـ عِلماً، وذلك لأنه لم يوجب الإحتياط بلزوم التبيّن، ذلك لأنه بيان عند الله تعالى، وليس جهالة شرعاً .
التقريب الرابع أن ننظر إلى جهة الندم الواردة في الآية، وهي العلّة الثانية لوجوب التبيّن، قال تعالى﴿ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ فإنّ مَن يتّبعُ خبرَ الثقة الذي اعتبره اللهُ تعالى عِلْماً لن يندم، حتى وإن أخطأ وخَسِرَ وتَضَرّرَ، وذلك لأنه اتّبع الصادقَ، والذي خبرُه عِلْمٌ شرعاً، ومحترَمٌ عقلاً وعقلائياً، وليس جهالة، لا شرعاً ولا عقلائياً . فالندم لا يكون إلاّ عند التقصير العقلائي، ولا يكون إلاّ على ما لا يحسن ارتكابُه عند العقلاء، كمَن يستبدّ برأيه ولا يشاور، وكمن يخالف الإستخارة، أمّا إن لم يقصّر الشخص في السؤال وسعَى سعْيَه ومع ذلك صادف أن وقع في الخطأ، فإنه لن يندم، لأنه سأل الثقةَ أو شاور الرجال، نعم هو يحزن حتماً على حصول الضرر والخسران، لكنه لا يصدق عليه لغةً أنه ندم . توضيحُ ذلك : قد يشتري التاجرُ بضاعةً بأثمان باهظة، وكلّ المؤشّرات تفيده أن سيربح ربحاً عظيماً، لكن صادف أن جاءت زلزلةٌ مثلاً فهَدَمت دكّانَه الكبير وخَرَّبت كلّ البضاعة وخسر خسراناً عظيماً، فهذا الشخص لا يقال عنه بأنه ندم على الشراء، وإنما يقال له بأنه تضرّر من الزلزلة .
التقريب الخامس أن يُنظَرَ إلى السبب العقلي لوجوب التبيّن والإستعلام ـ لأنّ معنى البيان هو العِلم ـ فنقول : إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا إحتياطاً لتعرفوا الحقيقة .. وذلك لمعلومية أنّ وجوب التبيّن طريقيّ للتحفّظ على الواقع، وليس نفسياً، وهذا أمْرٌ عقلي مضافٌ إلى التصريح به قرآنياً في التقريبين الثالث والرابع .إذَنْ إنْ جاءكم عادِلٌ بنبأ فلا يجب عليكم التبيّن ولا الإحتياط، لأنه بيانٌ شرعاً وعِلْمٍ شرعي . وهذا البيان ـ كما قلنا قبل قليل ـ يؤكّد مسلكَ الطريقية .
وبطريق اَولى إن شككتم في حكم شرعي ولم يأتكم خبر فاسق أصلاً فتبيّنوا، إذَنْ الأمْرُ بالتبيّن في كلتا الحالتين هو إرشاد إلى لزوم الإستعلام لمعرفة الحقيقة كي لا يقع المكلّف في مخالفة التكليف الشرعي .

* وربما اُشكِلَ على شمول هذه الآية ومثلِها للروايات الحاكية لقول الإمام (عليه السلام) بواسطة أو وسائط، فإنه كيف يمكن الحكم بحجيّة خبر العادل بل بعِلْمِيَّتِه شرعاً مع عدم وجود أثر شرعي للتعبّد بحجيّة رواية الراوي لنا، فإنّ أثَر هذا التعبّدِ ليس إلاّ لزومَ تصديق خبر الشخص المنقول عنه الواسطة بين الراوي لنا والراوي عن الإمام، وهذا ليس أثراً شرعياً أي يُلزِم بالفعل أو بالترك !! وإنما هو أشبهُ شيءٍ بنقل الأحداث التاريخية .
ويجاب على هذا الإشكال بأنّ الراوي لنا خبرُه حجّةٌ بلحاظ نقْلِ روايةٍ تُنتج بالنهاية أثراً شرعياً، وهذا هو موضوع الحجيّة في زمن الرسول وفي زمن الأئمّة (عليهم السلام)، فقد كان الأعمّ الأغلب من الأخبار في عصور المعصومين (عليهم السلام) بوسائط، لأنّ ناقل الرواية كان يسافر إلى الإمام ثم ينقل الروايةَ إلى قومه، ثم يتناقلونها عبر الكتب من مصرٍ إلى مصر .. وهكذا، وكان الأئمّة (عليهم السلام)ساكتين عن مثل هذه النقولات بوسائط، إذن الأثر الشرعي هو نتيجة الرواية وآخرها .
بقي أربع ملاحظات :
الاُولى : إنّ كلّ الوجوه الخمسة المتقدّمة هي صحيحة في نفسها، فإن ناقشتَ في واحد أو اثنين تبقى البقية، وعليه فلا بدّ من الإيمان بدلالة الآية المباركة على حجيّة خبر العادل، وأنه عِلْم شرعاً، وهذا يعلن صحّة مسلك الطريقية والعِلْمِيّة التعبّدية .
ولَعَمْري إنّ آية النبأ دليل واضح على حجيّة خبر العادل وعلى مسلك الطريقية، والتشكيكُ في ذلك ناشئ من عدم التأمّل أو الوسوسة .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo