< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/05

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الردود على ابن قبة

الأمر الثاني : لا شكّ في إمكان التعبّد الشرعي بالأمارة الغير علمية ـ كما هو المشهور ـ وفي عدم لزوم محال عقلي من ذلك، وهو المعبّر عنه بـ الإمكان الوقوعي، وهو أمر مغاير للإمكان الذاتي الذي تكلّمنا فيه في الأمر الأوّل، ولا يوجد من خالف فيه من العلماء، ولكن قد يكون شيء ممكناً ذاتاً ويكون ممتنعاً بالغير، فنحن ندّعي إمكان إعطاء الحجيّة للأمارة ذاتاً وإمكان ذلك وقوعاً ـ أي ليس ممتنعاً بالغير ـ .
كلامُنا هذا خالفه ابنُ قبة[1] فادعى عدم الإمكان الوقوعي لما تخيّله من ترتّب محال أو باطل على التعبّد بالأمارات أو بالأصول العملية ـ كما سيأتي من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أو استلزامه الحكم بلا ملاك أو اجتماع المتعارضين ـ بعد تسليمه بالإمكان الذاتي .
وأدلّ دليلٍ على الإمكان الوقوعي هو الوقوع الخارجي مع عدم ترتّب أي محذور هامّ .
وقد ادّعى ابنُ قبة أنّ التعبّد بالأمارات والأصول يترتّب عليه ثلاثة محاذير :
الأوّل : محذور ملاكي فقط
والثاني : محذور خطابي فقط
والثالث : محذور ملاكي وخطابي
والمراد بالمحذور الملاكي هو لزوم اجتماع الضدّين من المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة فيما إذا أخطأت الأمارةُ الواقعَ، وهذا يفوّتُ المصلحةَ الواقعيةَ، كما لو قامت الأمارةُ على حليّة التتن وكان في الواقع محرّماً ! فإذن إعطاءُ الحجيّةِ للأمارة التي قد تخالف الواقع مخالف لغرض المولى من تنزيل الشرائع وبعث الأنبياء .
والمراد بالمحذور الخطابي هو فيما توافقت الأمارةُ مع الحكم الواقعي، فيَرِدُ الخطابُ الشرعي مرّتين، مرّةً واقعي، ومرّةً ظاهري، وفيه نحو لغو، وأمّا لو تخالفتا فيا ويلتا، كلّ خطاب يفيد مؤدّى يغاير مؤدّى الخطاب الآخر، أو قُلْ : يؤدّي ذلك إلى طلب الضدّين فيما إذا أخطأت الأمارةُ الواقعَ ! وقد يمتنع ح الإمتثال، كما لو أفادت الأمارة وجوب السورة بعد الفاتحة في ضيق الوقت، وكان الحكمُ في الواقعِ الحرمةَ ! فيكون المولى تعالى ـ بإعطائه الحجيّةَ للأمارة ـ قد طلب ضدّ حكمه الواقعي ! وكأنه تعالى يطلب عكس غرضه أو يجيز فعل عكس غرضه ! وهذا حتماً يخالف الحكمة الربّانية ! وقد لا يمتنع كما لو أمكن التكرار فيُصَلّي الجمعةَ أوّلاً ثم يصلّي الظهر، أو يصلّي تماماً أوّلاً ثم يصلّي قصراً، بل تسري المشكلة ح إلى الملاكات أيضاً !
وتسقط كلّ هذه الإدّعاءات والخيالات ببيان الأمر في سبب تشريع الأحكام الظاهرية على الصعيدين، الأمارات أوّلاً ثم على صعيد الاُصول ثانياً، ليتّضح الأمرُ أكثر فنقول :
* أمّا في الأمارات :
1 ًـ فالمولى تعالى يعلم أنّ بعض الأمارات ستخالف الأحكام الواقعية، ولكنه رغم ذلك شرّعها عند الجهل بالحكم الواقعي ـ أي أعطاها الحجيّة الظاهرية ـ لغالبية إصابتها للواقع .
2 ًـ إنّ مصلحةَ تشريع حجيّتها أهمّ من مفسدة الوقوع نادراً في مخالفة الواقع، ومصلحة التيسير والتسهيل على الناس ـ في إعطاء الحجيّة لخبر الثقة في الموضوعات ـ أهمّ من مفسدة مخالفة الواقع نادراً .
3 ًـ إنه لن يحصل عندنا اجتماع المثلين، وذلك لأنّ أحدهما واقعي مجهول غير منجّز، والآخر ظاهري منجّز، فأين اجتماع المثلين ؟! وعلى فرض اجتماعهما فلا مشكلة ولا لغو في البين .
4 ًـ كما أننا لن نعلم بحصول اجتماع ضدّين ـ أي تعارض فعلي ـ أصلاً، لما عرفتَه من الجهل بالحكم الواقعي، فأين يقع التعارض الفعلي ؟ أو كيف سيحصل تعارض منجّز بين الإرادة والكراهة، والمصلحة والمفسدة، بعد الجهل بالحكم الواقعي ؟! وعلى فرض احتماله، فأيّ مانع من وقوع هكذا تنافي وفوت نادر للمصلحة والوقوع النادر في المفسدة، مع كون المصلحة في تشريع الأمارة ـ لإصابتها غالباً للواقع ـ أهمّ بكثير من عدم تشريعها وأهمّ بكثير من مفسدة الوقوع النادر في مخالفة الواقع .
مع أنك تعلم أنّ المصلحة والمفسدة ـ في الأحكام الظاهرية ـ لا تتعلّق بنفس مؤدّى الأمارات، وبالتالي لن يحصل تعارض في أيّ مرحلة من المراحل، لا في مرحلة الملاكات ولا فيما بعدها .. وذلك لما تعرفه من أنّ الله تعالى إنما شرّع الأمارات ـ كما في قاعدة اليد وسوق المسلمين والصحّة في عمل الغير ـ لأنها غالباً تصيب الواقع، أي لمصلحة في نفس جعل الأمارة ـ لا في متعلقها ـ وهذا هو ملاكها، فإذن إعطاء الحجيّة للأمارات إنما هو لإدراك أغلب المصالح الواقعية، فاختلف مصبّ المصالح والملاكات في الأحكام الظاهرية عن مصبّ الملاكات في الأحكام الواقعية، فالأولى مصبّ الملاك في تشريع الأحكام الظاهرية هو لإصابة أغلب الأحكام الواقعية، والثانية هو نفس متعلّق الأحكام الواقعية، ولذلك قلنا إنه لن يحصل تعارض في أيّ مرحلة من المراحل .
5 ًـ وبالتالي ـ أي بعد معرفتك بتنجيز خصوص الأمارة دون الحكم الواقعي ـ لن يقع المكلّف في التزاحم بين وجوب قراءة السورة مثلاً وبين حرمتها، لأنه إنما عليه ـ مع الجهل بالحكم الواقعي ـ أن يتّبع الأمارة، فهي فقط، المنجّزة عليه ويجب امتثالها، فإذن ليس هناك طلبٌ منجّز للضدّين .



[1] أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، فقيه رفيع المنزلة، من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين . راجع الكنى والألقاب ج 1 ص 437 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo