< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/04/17

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: متمّم الجعل وحجية القطع العقلي وحجية الظن والموافقة الإلتزامية

إذن كيف يمكن تشريعُ الأحكام التي يوجد في موضوعها العلم بالحكم شرطاً في فعلية الحكم، كما في القصر والتمام، فقد يقال بأنه اُخذ العلم بجعل وجوب التقصير شرطاً في الحكم الفعلي بوجوب التقصير ؟
وكيف يمكن أخْذُ العِلْمِ من غير طريق العقل في موضوع حجيّة العلم، كما يدّعي الأخباريون من أنه يشترط في حجيّة العلم أن يكون ناشئاً من غير العقل ؟ أليس هذا سلباً للحجيّة من القطع ؟
فهنا إذن مقامان :
المقام الأوّل : قال السيد الشهيد الصدر بأنه يمكن ذلك بدخالة العلم بالجعل في موضوع المجعول، فح لا نحتاج إلى متمّم للجعل .
أقول : لم يلتفت سيدنا الشهيد إلى أنّ كلامه هذا لا يمكن تفسيرُه إلاّ بطريقة الجعلين، وذلك بأنْ يَجعلَ المولى تعالى أوّلاً (وجوب القصر على المسافر) بنحو الإهمال من حيث اشتراط العلم بهذا الجعل، فهو إهمال في مرحلتي ملاك الحكم وجعله، ثم يَجعلُ حكماً آخر يفيد بأنّ (مِن شروطِ فعلية وجوب القصر على المسافر أن يعلم بوجوب القصر على المسافر)، وهذان الجعلان لبّاً جعلٌ واحد، ولا يمكن غير ذلك، فمَن عَلِمَ بوجوب القصر على المسافر فإنه تتحقّق عنده بعض شرائط وجوب التقصير، أي أنه ـ ما لم يسافر ـ قد حصل عنده شرطٌ من شروط فعليّة الحكم، وهناك شروط اُخرى يجب أن تتوفّر أيضاً ليصير وجوب القصر عليه فعلياً، إذن بمجرّد العِلْمِ بوجوب التقصير على المسافر لا يتفعّل وجوب التقصير عليه ما لم تتحقّق سائرُ شروط التقصير . وما أفدناه هو مراد المحقّق النائيني الذي قال بوجود جعلين بالنحو المذكور وسمّى الثاني بـ (مُتَمّم الجعْلِ) .
مثال ذلك : يشترط في الوجوب الفعلي للحجّ تحقّقُ الإستطاعة المالية وصحّة البدن وتخلية السرب والسعة في الوقت والرجوع إلى الكفاية وو .. فلو استطاع شخص ـ من حيث القدرة المالية فقط ـ أن يذهب إلى الحجّ، فإنّ وجوب الحجّ لا يصير عليه فعلياً ـ بمجرّد قدرته الماليّة ـ وإنما يجب أن تتحقّق سائرُ شروط الوجوب الفعلي للحجّ ـ من السعة في الوقت وصحّة البدن وتخلية السرب وغير ذلك .. ـ ليتفعّل عليه وجوب الحجّ .
وهكذا لاحظتَ أنه لا يوجد دور أصلاً في كلتا المسألتين .
ثم إذا علم الإنسانُ بتحقّق كلّ شروط الوجوب فح يتنجّز عليه الوجوب الفعلي .
وكذا الأمرُ تماماً في مسألة القصر في الصلاة، فإذا علم المسافرُ ـ العارفُ بوجوب القصر على المسافر ـ أنه قد قطع مسافة السفر وعلم بتحقّق كلّ موجبات القصر ـ مِن قصْدِ السفرِ وإباحتِه وو ـ فإنه ح يتنجّز عليه الوجوب الفعلي للقصر، بمعنى أنه كان قد تحقّق لديه الوجوب الفعلي للقصر، لكن قبل علمه بتحقّق مقدّمات الوجوب للقصر لا يصير هذا الحكم منجّزاً .
فإن قلتَ : بل يمكن القول بأنّ مَن سَمِعَ كلامي فليأتني بماء، فهنا قد قُيّدَ نفس الجعل الأوّل بالعِلْم به من دون حاجةٍ إلى متمّم للجعل،
قلتُ : لكن هذا المثال لا يصير في عالمَي الثبوت والإثبات، فإنه لا يأتينا من عند الله تعالى هكذا كلام (مَن يسمعُ كلامي فليُصَلّ قصراً في السفر)، فأيّ كلام هو الذي نسمعه قبلاً ؟! لا شكّ أنه سيقول آية التقصير ؟ قلتُ : هذا يعني جعل آية التقصير أوّلاً ثم جعل العِلْمِ بها ليتحقّق عند المكلّف أحدُ شرائطِ الفعلية .
المهم هو أنه لا إشكال في إمكان جعل أحكام مخصوصة بالعالمين بها، لكن بجعلين .
وعليه، فإذا شككنا في تقيّد حكم ما ـ وهو الجعلُ الأوّلُ السالفُ الذكر ـ بالعلم بجعله فعلينا أن نجري الإطلاق المقامي لننفيَ متمّمَ الجعل لأنه أمْرٌ آخر لم يخبرنا به المولى، ولك أن تتمسّك أيضاً بالإطلاق اللفظي للوجوب الأوّل، كما لو سمعتَ بوجوب الجهر والإخفات، وشككت ـ بسبب دليل ضعيف مثلاً ـ باشتراط العلم في ترتّب الوجوب الفعلي، فهنا لك أن تتمسّك بإطلاق الوجوب من التقيّد بالعلم .
ويرى المحقّق النائيني بضرورة الإهمال في الجعل الأوّل، وذلك لعدم إمكان التقييد بالعلم في نفس الجعل الأوّل ـ كما ذكرنا ـ وعليه فتكون النسبة بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين هي العدم والملكة، ولا بأس بما أفاده . فإنه من الضروري أن يكون للمولى تعالى لحاظات فعلية في كلّ الجعولات الشرعية، لكن هنا حيث لا يمكن بالذات، كان لا بدّ من الإهمال في الجعل الأوّل والتقييد في المرحلة الثانية، لكي يتحقّق جعل واحد حقيقي .
إذن النسبة بين الإهمال والتقييد ـ في مرحلتَي الملاك والجعل ـ هي نسبة العدم والملكة، وذلك لأنه لا يمكن لحاظ التقييد بالعِلْم في الجعل الأوّل، لكن كأنها نسبة المتناقضين، لأنّ الجعل الأوّل لم يلحظ فيه التقييد بالعلم، فكأنه عدم محض أو قُلْ عدم مطلق، ولذلك توهّم سيدنا الشهيد بأنّ النسبة بينهما هي نسبة المتناقضين , ثم قال(وهكذا يتضح أنّ الإطلاق يكفي فيه مجرد عدم لحاظ التقييد)(إنتهى) .
وأنا اُجلّ اللهَ تعالى أن أنسب له ـ في مرحلة الجعل الأوّل ـ عدمَ اللحاظِ المطلقَ للإطلاق أو التقييد، فنقتصر في ذلك على مقدار الضرورة العقلية، فنقول بأنه لم يلحظ تقييد الجعل الأوّل بالعِلم به، وذلك من باب الإستحالة العقلية، وهذا يقتضي أن نقول بالعدم والملكة، أي عدم لحاظ قيد العِلْم في المكان الذي لا يمكن لحاظُه عقلاً، فهو عدمٌ مضاف لا عدم مطلق، ولا أنسِبُ إلى المولى عزّ وجلّ أنه لم يلحظ شيئاً، فهذا ما لا أتصوّره في الله عز وجل، والسيدُ الشهيد أعلمُ بما قصد، فأنا القاصرُ يمكنُ لي ـ عند إطلاق كلمةٍ ما لولدي ككلمة (العالِم) في قولي له (اَكرِمِ العالِمَ) ـ أنّي لم أتصوّر أصلاً عالِمَ الذرّة أو عالِمَ الآثار ونحو ذلك ممّا لم ألتفت إليه عند أمري السابق وذلك لقصور عقلي عن الإلتفات إلى كلّ القيود أوّلاً ثم نفيها، ولكنْ عدمُ الإلتفاتِ عند المولى تعالى ـ الذي كلّه عقل بل هو عينُ العِلمِ الفعلي ـ أمرٌ لا يتصوّر، ولعلّه لذلك غيّر السيد الخوئي+ رأيَه السابق بالعدم والملكة إلى القول بالتضادّ بينهما تحاشياً عن نسبة (عدم اللحاظ) إلى الباري تعالى، ولا بأس بقوله هذا، وهو أنّ الباري تعالى لاحَظَ الإستحالةَ عند لحاظ القيد فجَعَلَ الجعْلَ المهملَ أوّلاً، ولاحظَ إهمالَه ولاحظَ عدمَ تقييده بالعِلْم به في المرحلة الاُولى، ثم جعَلَ الجعْلَ الثاني .
ولعلّ سيدنا الشهيد يريد أن يقول بأنه أخيراً لم يكن يمكنُ التقييدُ بالعلم، فإذن المولى تعالى ـ كنتيجة ـ لم يلحظ، وهذا (عدم) بلحاظ التقييد الفعلي (الوجودي) فيكونان إذن متناقضين .

المقام الثاني : في أخذ العلم بالحكم من غير طريق العقل في موضوع حجيّة العلم، كما يدّعي الأخباريون من أنه يشترط في حجيّة العلم أن يكون ناشئاً من غير العقل ؟ أليس هذا سلباً للحجيّة من القطع ؟
الجواب : ينبغي النظر من الناحيتين العقلية والنقلية فنقول :
أمّا من الناحية العقلية : فلا يمكن ـ عقلاً ـ سلبُ الحجيّةِ عن القطع بأيّ شكل، لأنّ الحجيّةَ ـ كما قلنا سابقاً ـ من ذاتيات القطع، وذلك لأنّ القاطعَ يدّعي معرفةَ الواقعِ ورؤيةَ الحكمِ كما هو .. فكيف لا يكون الكشفُ محرّكاً ومنجّزاً ومعذّراً ؟! وهذا لا ينبغي الشكّ فيه، وإلاّ لم يستحقّ المتجرّي أيضاً، العقابَ !!
وأمّا من الناحية النقلية : فقد يُتوهّم سلبُ الحجيّة عن القطع فيما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه، وعن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج(ثقة ثقة ثبت وجه) عن أبان بن تغلب(ثقة فقيه جليل القدر عظيم الشأن في أصحابنا) قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها ؟ قال : ( عشرة من الإبل )، قلت : قطع اثنتين ؟ قال : ( عشرون )، قلت : قطع ثلاثاً ؟ قال : ( ثلاثون )، قلت : قطع أربعاً ؟ قال : ( عشرون )، قلت : سبحان الله !! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟! إنّ هذا كان يبلغُنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان، فقال : ( مهلاً يا أبان، هذا حكمُ رسولِ الله (ص)، إنّ المرأة تُعاقِلُ الرجلَ إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان اِنّك أخذتني بالقياس ! والسُّنَّةُ إذا قِيْسَتْ مُحِقَ الدِّين )[1] ورواها في يب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير، ورواها في الفقيه بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله، وهي صحيحة السند .
وهذا التوهّم غير صحيح، فإنّ الإمام (عليه السلام) رَفَعَ القطعَ عن أبان، لا أنه رَفَعَ الحجيّةَ عن قطعه، وهذا ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري والسيد الخوئي رحمهما الله تعالى، وهو الحقّ، ولا يمكن أن تكون في مقام سلب الحجيّة عن القطع .

أقسام الظن
وفي ختام البحث عن أقسام القطع التي عرفتها نبحث عن حجيّة الظنّ فنقول :
لا شكّ عقلاً ونقلاً في عدم حجيّة الظنّ من حيث الأصل، وذلك لأنه كشف ناقص، ولا وجه ـ حتى على مستوى العقل ـ لأن يكون حجّة من حيث الأصل .
نعم، قد يَجعل الشارعُ المقدّسُ بعضَ أصناف الظنّ حجّةً لبعض مصالحَ غالبةٍ على مفسدة جعله حجّةً، كما في جعله حجّة في مورد البيّنة وفي مورد خبر الثقة وسوق المسلمين واليد وقاعدة الصحّة وقاعدتَي الفراغ والتجاوز والظهورات وغير ذلك ممّا هو مذكور في بحث التعارض والتراجيح . ولكن هذه الجعولات لحجيّة الظنّ هي جعولات ظاهريّة بلا شكّ، لا جعولات واقعية، بمعنى أنّ حجيّة البيّنة هي حكم ظاهري لأنّ موردَه الجهلُ بالواقع، وحجيّةُ خبرِ الثقة هو حكم ظاهري لأنّ مورده الجهلُ بالحكم الواقعي، وكذا حجيّة سوق المسلمين وو ... فأنت إذا كنت جاهلاً بالحكم الواقعي يجب عليك أن ترجع إلى الأمارات، هذه الحجيّة للأمارات هي أحكام ظاهرية، لأنّ موردَها الجهلُ بالحكم الواقعي . وأيضاً الحكمُ الظاهري غيرُ ناظرٍ إلى شخص مؤدّى كلّ أمارة فيقول مؤدّى كلّ أمارة أمارة هو صحيح واقعاً، وإنما يقول خبر الثقة ـ مع غضّ النظر عن مؤدّاه ـ هو حجّة أي ظاهراً .





الأمر الرابع[2]في بحث القطع :


لزوم الموافقة الإلتزاميّة

ويقع البحثُ فيه في نقطتين :

1 ـ وجوب الإلتزام القلبي بالأحكام الشرعية .
2 ـ مانعيّة وجوب الإلتزام القلبي التفصيلي عن جريان الأصول العملية، ومانعية جريان الاُصول العملية عن وجوب الإلتزام القلبي التفصيلي .

النقطة الاُولىـ لا شكّ ولا خلاف في وجوب التسليم لأحكام دِين الله تعالى والإيمان بها، وهذا من ضروريات الدين ولوازم الإيمان، فليس بحثنا هنا في هذه النقطة المسلّمة، إنما هو في نقطة شبيهة بها وهي : هل يقتضي التكليفُ الواصلُ ـ أي المنجّز ـ حكمين منجّزين في عرضٍ واحدٍ وبنحو التقيّد والإرتباط وهما : وجوب العمل بالتكليف ووجوب الإلتزام القلبي به أيضاً، بحيث إننا لو امتثلناه ولم نعتقد به لم يسقط هذا التكليف الذي امتثلناه، أم أنهما مستقلاّن ـ وسيأتي أنه الحقّ ـ فيسقط الواجب بمجرّد امتثاله حتى من دون الإعتقاد به ؟

إذن بحثُنا في أنّ الأحكام الشرعية ـ توصّليةً كانت أو عباديّة وواجبةً كانت أو مستحبّة أو محرّمة أو مكروهة ـ المنجّزة الثابتة بالقطع أو بالأمارة أو بالأصل العملي كما تستدعي لزوم الموافقة العمليّة هل تستدعي أيضاً ـ وبنفس الوقت وبعرْضٍ واحد ـ لزومَ الموافقةِ الإلتزاميّة القلبية أيضاً ـ بمعنى لزوم الإيمان القلبي بالحكم ووجوب الإلتزام به والتسليم لحكم المولى اعتقاداً وانقياداً ووجوب الأخذ بهذا الحكم الإلهي، كما هو اللازم في الاُصول الدينية والاُمور الإعتقادية ـ أو لا ـ وإن كان هذا التسليمُ كمالاً للملتزِم بلا شكّ، وترْكُ التسليمِ نقصانٌ له عن كمال العبودية لكنه لا يوجب تركُه بطلانَ العمل ـ ؟ فلو صلّينا بنيّة القربة إلى الله تعالى وبتمام أجزائها وشرائطها ولم نعتقد بوجوبها شرعاً، هل تسقط هذه الصلاة التي صلّيناها أم لا، وإنما من شرائط الصلاةِ الإتيانُ بها عن اعتقاد بوجوبها ؟



[2]كان الأمر الأوّل (حجيّة القطع) والأمر الثاني (التجرّي) والثالث (أقسام القطع) ..

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo