< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/04/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: تقسيم القطع بلحاظ متعلّقه

وأمّا في النقطة الثالثة ـ وهي تقسيم القطع بلحاظ متعلّقه ـ فنقول :
ينقسم القطع الموضوعي بلحاظ متعلّقه وبحسب الإمكان الخارجي أي الإثباتي ـ لا الإمكان التصوّري العقلي ـ إلى قسمَين : 1 أن يكون متعلِّقاً بموضوع الحكم كما لو فُرِضَ القطعُ بخمريّة المائع موضوعاً لحرمة شربه مثلاً، وهذا لا إشكال في إمكانه ولا كلام فيه .
و2 أن يكون متعلَّقاً بحكمٍ، وهذا الحكم هو موضوع لحكم آخر نحو "إن علمت بوجوب إكرام زيد فافعل كذا وكذا " .
ولن نطيل في الفروض التي لم أو لن تصدر عن المولى تعالى، إمّا لاستحالتها عقلاً أو بنظر المعتقِد أو للغوِيَّتِها[1]،
ـ كما في "إن علمتَ بوجوب إكرام زيد فلا تكرمْه أو فقد جعلته مستحبّاً مثلاً أو مكروهاً أو مباحاً" فإنّ القطع ـ كما قلنا سابقاً ـ منجّز ومعذّر عند القاطع، فلا يمكن بنظر القاطع أن يَصدر هكذا حكمٌ له، بل ولن يصدّقه فلن يكون له أيّ أثر، فسيكون جعلُه ح لغواً محضاً، وحاشا لساحة الحكمة المتعالية أن يصدر منها خلاف الحكمة .
ـ وكما في فرض أن يقول لنا المولى تعالى "إن اعتقدتَ ـ أي اعتقاداً خاطئاً ـ بحكمٍ ما فقد جعلتُ في عالم الجعل حكماً مماثلاً لاعتقادك أي شبيهاً به" كما قد يدّعَى عند القائلين بحرمة التجرّي، فإنّ المعتقِدَ ـ كما قلنا قبل قليل ـ لا يأخذ بالجعل الثاني، لأنه يعتقد بالحكم الأوّل، فيكون الجعلُ الثاني لغويّاً، حتى ولو قيل له هذا خلّ ـ مثلاً ـ وليس خمراً، فإنه يجيبهم بالقطع بأنه خمر . لا، بل لا يمكن للمولى تعالى أن يتَّبِعَ اعتقاداتِنا الخاطئة في جعولاته، فيكون اعتقادُنا تمامَ موضوعِ الجعل الآخر المماثل لاعتقادنا !! أو قُلْ : هل يحصل حبّ شديد عند المولى تعالى بجعل مماثلٍ لاعتقاد المعتقد ؟ حتى ولو كان اعتقاده باطلاً ؟!
ـ وكما في فرض ما لو قال المولى"إن اعتقدتَ بحكم ما فقد جعلتُ في عالم الجعل الواقعي نفس الحكم الذي اعتقدت به"، فهذا لا يمكن الإعتقاد به، وذلك لما قاله العلاّمةُ الحلّي من أنه يؤدّي إلى الدور الصريح، فإنّ العِلْم الأوّل قد تعلّق ـ مثلاً ـ بحرمة المائع الموجود أمامَه ـ ولنفرضه خلاًّ ـ فلأجل ذلك شرّع المولى تعالى نفس ذلك الحكم المعتقَد به ـ لا مثله ـ فكان نفسُ المعتقَدِ به قَبْلَ العِلْمِ وبَعدَه .
على أنه لا يمكن عقلاً أن يُشَرّع اللهُ تعالى نفسَ الحكم المعتقد به، لأنّ الوجود الأوّل للحكم المعتقَد به غيرُ الوجود الثاني للحكمِ الذي سينشأ بسبب الحكم الأوّل المعتقَد به، فالأوّلُ هو المعلوم بالذات، والثاني هو المعلوم بالعرَض .
إذن لا يمكن ـ ثبوتاً وعقلاً ـ تشريع نفس الحكم المعتقَد به .
إضافةً إلى أنّ المولى تعالى لا يتّبع اعتقادات المتوهّمين، ولا يحصل له حبّ في جعل أحكام تتبع أوهامهم، لمجرّد اعتقادهم بأمرٍ ما، وكأنّ جبرائيل tيلاحقُ الناسَ أو ينتظرهم ليعتقدوا بشيء ـ حتى ولو كان مبغوضاً ـ ليجعله بنفسه، فما يعتقدون به يجعله في اللوح المحفوظ !! وقد يختلف الناسُ في اعتقاداتهم، فيتحيّر جبرائيل (عليه السلام) ماذا يكتب في اللوح المحفوظ !!
فإن قلتَ : لا، لا نقصد هذا المعنى، وإنما يجعل المولى تعالى حكماً ظاهريّاً هو نفس ما اعتقد به الإنسان .
قلتُ : لا فائدة من هذا الحكم الظاهري، لأنّ المطيعَ سوف يمتثل من دونه، والعاصي سوف يعصي رغم تشريعِه، فتشريعُه إذَنْ لغْوٌ محضٌ . أو قُلْ : إنّ المعتقِدَ يرى الحكم المتصوّر في ذهنه مفروغَ الوجود، فلن يعتقد بتوجّه هذا الحكم الظاهري له، فلا فائدة إذَنْ ـ خارجاً وفي مرحلة الإمتثال ـ من تشريع نفس الحكم الظاهري المتوهَّم .
فإن قلتَ : الهدف من الجعل ليس هو التحريك، وإنما هو جعل موضوع لاستحقاق الثواب والعقاب على الإمتثال والعصيان .
قلتُ : سبق وذكرنا في بحث التجرّي أنّه يكفي في استحقاق الثواب والعقاب نيّة المكلّف، بمعنى أنه لو استطاع فكان سيحجّ ويصلّي ويصوم، لكنه مثلاً غير قادر، فإننا ذكرنا سابقاً بأنه يستحقّ الثواب على نيّته الجازمة هذه، وكذا لو كانت نيّتُه الجازمة أن لو استطاع لشرب الخمر ولقتل فلاناً ولظلم الناس، فإننا قلنا بأنّ هكذا شخص يستحقّ العقاب على نيّته الجازمة هذه .
ويكفينا جواباً أنه لا دليل على إيجاد المولى تعالى لجعل مماثل للمعتقَد ولا على جعل نفس الحكم المعتقَد به . وقد أطلنا في الأجوبة على هذه الإحتمالات في بحث التجرّي فراجع .

إذن كيف يمكن تشريع الأحكام التي يوجد في موضوعها العلم بالحكم كما في القصر والتمام ؟
الجواب : بجعلين، وذلك بأنّ يَجعلَ المولى تعالى (وجوب القصر أوّلاً على المسافر) بنحو الإهمال، ثم يَجعلُ حكماً آخر يفيد بأنّ (مِن شروطِ فعلية وجوب القصر على المسافر أن يعلم بوجوب القصر على المسافر)، وهذان الجعلان لبّاً جعلٌ واحد، فمَن عَلِمَ بوجوب القصر على المسافر فإنه تتحقّق عنده بعض شرائط وجوب التقصير، أي أنه ـ ما لم يسافر ـ قد حصل عنده شرطٌ من شروط فعليّة الحكم، وهناك شروط اُخرى يجب أن تتوفّر أيضاً ليصير وجوب القصر عليه فعلياً، إذن بمجرّد العِلْمِ بوجوب التقصير على المسافر لا يتفعّل وجوب التقصير عليه ما لم تتحقّق سائرُ شروط التقصير . ولعلّ ما أفدناه هو مراد المحقّق النائيني الذي قال بوجود جعلين بالنحو المذكور وسمّى الثاني بـ (مُتَمّم الجعْلِ) .
مثال ذلك : يشترط في الوجوب الفعلي للحجّ تحقّقُ الإستطاعة المالية وصحّة البدن وتخلية السرب والسعة في الوقت والرجوع إلى الكفاية وو ..، فلو استطاع شخص ـ من حيث القدرة المالية فقط ـ أن يذهب إلى الحجّ، فإنّ وجوب الحجّ لا يصير عليه فعلياً ـ بمجرّد قدرته الماليّة ـ وإنما يجب أن تتحقّق سائرُ شروط الوجوب الفعلي للحجّ ـ من السعة في الوقت وصحّة البدن وتخلية السرب وغير ذلك .. ـ ليتفعّل عليه وجوب الحجّ .
وهكذا لاحظتَ أنه لا يوجد دور أصلاً في كلتا المسألتين .
ثم إذا علم الإنسانُ بتحقّق كلّ شروط الوجوب ح يتنجّز عليه الوجوب الفعلي .
وكذا الأمرُ تماماً في مسألة القصر في الصلاة، فإذا علم المسافرُ ـ العارفُ بوجوب القصر على المسافر ـ أنه قد قطع مسافة السفر وعلم بتحقّق كلّ موجبات القصر ـ مِن قصْدِ السفرِ وإباحتِه وو ـ فإنه ح يتنجّز عليه الوجوب الفعلي للقصر، بمعنى أنه كان قد تحقّق لديه الوجوب الفعلي للقصر، لكن قبل علمه بتحقّق مقدّمات الوجوب للقصر لا يصير هذا الحكم منجّزاً .
إذن لا إشكال في إمكان جعل أحكام مخصوصة بالعالمين بها .


[1] وقد تركنا الأبحاثَ اللغويّةَ لطويلي الأعمار وللذين لا يهتمّون بالأهمّ ..

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo