< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/02/22

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الدليل على صحّة رجوع العامّي إلى المجتهد الجاهل بالحكم

أمّا كيف يشكّ غيرُ البالغ في الحكم ؟ فهذا ما يمكن تصوّره بعدّة أنحاء :
ـ أن يشكّ فيما جعل حدّاً عمريّاً للبلوغ ـ مثلاً لمن لم يحتلم أو يشعر ـ : هل هو الثلاث عشرة سنة أم الدّخول في الخامسة عشرة ؟
ـ أن يشكّ في مفهوم ما جعل حدّا للبلوغ كما لو شكّ في مفهوم الإنبات سعة وضيقاً .
ـ أن يحتمل ثبوت بعض الأحكام على غير البالغ، أعني الأحكام الناشئة من حكم العقل، كحرمة الظّلم والسرقة فلا بدّ له من تحصيل مؤمّن من قطع أو ظنّ معتبر أو العمل بوظيفة الشّاكّ الشّرعيّة أو العقليّة .

أمّا في النحو الأوّل فيجب عليه أن يرجع إلى أصالة البراءة وقاعدتها، وليس له أن يرجع إلى عموم الإنسان في أدلّة الأحكام كـ [ أَقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاة ] [1]و[كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ ][2] و[ للهِ على الناس حِجُّ البيتِ ] [3]، وذلك لأنّ هذه الأدلّة ناظرة من الأصل وبالتسالم بين المسلمين إلى خصوص البالغ العاقل، وذلك بدليل "رّفع القلم عن الصبيّ حتى يحتلم"، كما أنّه ليس له أن يرجع إلى أصالة عدم الجعل، وذلك لتماميّة الجعل عند نزول قولِه تعالى[ اليَومَ أَكمَلْتُ لكُمْ دِينَكُم] [4]وأنه "في الجامعة كلّ حلال وحرام حتى الأرش في الخدش" وهذا أمرٌ مسلّم بين الشيعة أيضاً , وليس له أن يرجع إلى أصالة عدم البلوغ، وذلك لفرض شكّه في البلوغ وعدمه حين بلوغه ثلاث عشرة سنة، وأنّ شكّه حكمي وليس موضوعياً، والإستصحاب في الشبهات الحكمية لا يجري في حال كون المستصحب أمراً بسيطاً، وهو الآن شاكّ في كونه بالغاً أو لا، فالمستصحبُ إذن بسيط، ولا يمكن الإستصحاب في عالم الجعل في الاُمور البسيطة، لأنّه في عالم الجعل يوجد طفرية فقط، بمعنى أنه في سنّ الثلاثة عشر حكمه كذا، وفي سنّ الحامسة عشر حكمه كذا، فعالم الجعل إذن عالم الطفرات، وليس فيه البناء على البقاء على الحالة السابقة، وإنما لكلّ واقعة حكم، إذن هذا الصبيّ الآن ـ حين صار عمره ثلاث عشرة سنة ـ إمّا بالغ في عالم الجعل وإمّا لا، فكيف يتصوّر في حقّه استصحاب عدم البلوغ ؟! وكما لو ارتكب المؤمنُ الصغائرَ وشككنا في بقائه ـ رغم ذلك ـ على العدالة، فهنا لا يجوز لنا استصحابُ بقاء الموضوع، لأنه بسيط، بمعنى أنه الآن ـ في عالم الجعل ـ إمّا عادل وإمّا فاسق، فلا يجوز الإئتمامُ به .
نعم الإستصحابُ يجري فيما لو كان المستصحبُ أمراً مركّباً، كما فيما لو غلينا الزبيب فحصل عندنا شكّ في حرمته، فهل نستصحبُ الحكم المعلّق السابق الذي هو عبارة عن "إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم" أم أننا نستصحبُ طهارة الزبيب المغلي من قَبْلِ غليانه إلى ما بعد الغليان ؟! الصحيح أنه يجب استصحابُ بقاء موضوع الحكم، أي أننا نستصحبُ بقاء موضوع الحرمة، وذلك لاحتمال عدم مقوّمية العنبيّة للحرمة، وكما فيما لو أغمي على المرجع وشككنا في مقوّمية إفاقته ووعيه لجواز تقليده، فهنا نستصحب بقاء موضوع الحكم ونبقى على تقليده، وكذا لو مات وشككنا في جواز البقاء على تقليده، فإننا يجب علينا أن نبقى على تقليده، وذلك لاحتمال كفاية بقاء علمه في عقله الذي لا يتعطّل لا في حال الإغماء ولا في حال الموت .
وكذلك الأمر في النحو الثّاني فإنه أيضاً يجب على هذا الصبيّ المميّز المجتهد أن يرجع إلى البراءة من التكاليف الإلزامية المحتملة، وليس له الرجوع إلى استصحاب عدم البلوغ، لأنه الآن بعد هذه المرحلة من الإنبات إمّا أنه بالغ في عالم الجعل وإمّا لا، فكيف نستصحب في عالم الجعل عدمَ بلوغه ؟!
مثال آخر في الإستصحاب في الشبهات الحكمية :
جرى البحث بين العلماء في فرض حصول شك في مقدار الذراع وهل هو 45 سنتم أو 46 أو 47 سنتم مثلاً لمعرفة مسافة التقصير، فالشبهة مفهومية ـ في مفهوم الذراع ـ أي أنّ الشبهة حكميّة، فهل يجري استصحاب عدم بلوغ المسافة أم لا ؟ أم نرجع إلى أصالة التمام ـ الذي هو العموم الفوقاني في مثل هذه الحالة ـ حتى تثبت المسافة الشرعية فأقول :
لو قُدِّرَ لنا أن ننظر إلى عالم الجعل لوجدنا جواباً لا محالة، وهو إمّا أنه يتمّ وإمّا يقصّر، فلا استصحاب في ذلك العالَم، لأنّ الموضوع بسيط، ولا وجه للتقصير مهما قلتَ وفكّرتَ، ولو لعدم ثبوت بلوغ المسافة الشرعية خارجاً، أمّا ما هو الدليل على وجوب الإتمام ؟ لا شكّ أنه الرجوع إلى العمومات الفوقانية وهو وجوب التمام وهو ما يعبّرون عنه بأصالة التمام حتى يُعلم بحصول السفر .
وأمّا في مجال العقليّات وهو النحو الثالث فإنّ كان الحكم العقلي لهذا الصبيّ المميّز المجتهد واضحاً وجب عليه اتّباع عقله، كما في وضوح قبح الظلم والسرقة والزنا، والمجتهد يعلم أنّ الشارع المقدّس لا يخالف هكذا أحكام واضحة، وإلاّ فمع عدم وضوح حكم العقل فيه يرجع أيضاً إلى براءة الذمّة شرعاً وعقلاً .

الأمر الثّاني : إنّ الموضوع لهذا التقسيم هل ينبغي أن يكون خصوص المجتهد لاختصاص الوظائف المقررة للظَّانّ والشّاك به أم أنه يشمل العامّي أيضاً ؟
اختار المحقّق النائيني قدّس سرّه وجملة من المحقّقين الأوّل، ولعلّه كان ناظراً إلى خصوص الشبهات الحكمية، وأنه ليس للعامّي دور فيها إلا الرجوع إلى المجتهد . والتّحقيق أنّ التقسيم ينبغي أن يشمل العامّي أيضاً، أمّا في الشبهات الموضوعية فواضح، وأمّا في الشبهات الحكمية فأيضاً واضح، خاصةً إن لم يجد المجتهدَ ليرجع إليه في الشبهات الحكمية .
نعم، لا يثبت للعامّي تمامُ الوظائفِ المقرّرة للمجتهد الخبير في مجالات الظنّ والشكّ، وإنما يجب عليه الرجوع إلى المجتهد مطلقاً سواء في الأحكام الناشئة للمجتهد من الأدلّة المحرزة أم من الاُصول العملية وذلك من باب رجوع الجاهل إلى العالِم .

* وهنا بحثان :
اولا : كيف يمكن جواز رجوع العامّي للمجتهد في الأحكام الناشئة من الاُصول العملية ؟ مع أنّ نفس المجتهد يعترف بأنه يجهل بالحكم الواقعي أو حتى قد يجهل بوجود أمارة معتبرة في ذلك ؟!
والجواب واضح فإنّ الشارع المقدّس يعتبر المجتهدَ عالماً، وبالتالي يعتبر العامّي مقلّداً للعالم حتى لو رجع المجتهد إلى الاُصول العملية، لاحِظْ مثلاً قولَه تعالى[ فاسألوا أهلَ الذِّكْرِ إن كنتم لا تعلمون ][5] فتصير بسؤالك لأهل الذكر عالماً، حتى ولو أفتاك على طبق الأحكام الظاهرية كما في الكثير من الإفتاءات، ولاحِظْ قولَه تعالى [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقَّهُوا في الدِّين وليُنذِروا قومَهم إذا رجَعُوا إليهم لعلهم يحذرون ][6] أي أنّ العالم الديني إذا تفقّه صار فقيهاً، ولاحِظْ ما رواه أبو خديجة في روايته المشهورة عن الصادق (عليه السلام) قال : ( إياكم ان يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعرف شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي جعلته قاضياً فتحاكموا اليه )[7] وصحيحة عمر بن حنظلة الواردة في الترجيحات فقد روى عن الصادق (عليه السلام) أنه قال : ( .. اُنظروا إلى مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رَدَّ، والرادُّ علينا رادٌّ على الله، وهو على حَدّ الشرك بالله عز وجل )[8]، ودلالتُهما على التقليد واضحة وذلك لوحدة المناط، فإنّ القاضي كثيراً ما أو في أكثر الأحيان يعتمد على الأحكام الظاهرية، وهو مجتهد بوضوح، وهنا حَكَمَ على طبق اجتهاده وما توصّل إليه ولو عِبْرَ الأحكام الظاهرية، وليس الحكم والقضاء إلاّ تطبيقَ الفتوى على المشكلة الخارجية .
وعندنا جواب ثانٍ وهو أنّ المجتهد عبارة عن وكيل أو نائب عن المقلّدين في معرفة الوظيفة العملية مطلقاً، وهذه نقطة جديدة مهمّة وأساسٌ آخر لجواز التقليد، فكأنّ فحْصَ المجتهدِ فحْصُ العامّي، وسعيَه سعيُه .. وهذه الوكالةُ مبنى آخر في جواز التقليد، وهو مبنى مغاير للمبنى المعروف من أنّ التقليد هو عبارة عن رجوع الجاهل إلى العالم ليُشكَلَ علينا بإشكال (عدم إمكان رجوع العامّي الجاهل إلى المرجع في حالة جهل المرجع بالحكم الواقعي ولو من خلال الأدلّة المحرزة)، وعلى هذا الأساس الجديد فإنْ وَجد المجتهدُ الحكمَ الواقعي وعرفه ولو تعبّداً ـ أي ولو من طريق أخبار الثقات ـ فبها، وإلا فعليه اتّباعُ الاُصول العملية في موارد عدم وجود أمارات معتبرة، وهذه هي وظيفة المجتهد شرعاً، وبما أنه وكيل ونائب عن العامّي الجاهل فيجب على العامّي أن يرجع إلى المرجع فيما استنبطه بالنيابة عنه . وبتعبير بسيط : لو فرضنا أنّ نفس العامّي اجتهد لوجب عليه أيضاً اتّباعُ الاُصول العملية في حال فقدان الأدلّة المحرزة .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo