< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الفقه

37/07/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إستـثـناءً : عالَم البرزخ

توهّمَ بعضُ الناسِ أن الأموات ـ بما فيهم الشهداء ـ هم في البرزخ نيام ، بدليل عدم استطاعتهم يومَ القيامة على تقدير مدّة مكْثِهِم في البرزخ ، ممّا يعني ـ باعتقاده ـ أنهم نيام ، لا وعيَ لديهم، ولا جنّة يتـنعّمون فيها ولا نار يتعذّبون فيها ... واستدلّ على ذلك بقول اللهِ عز وجل [ وَنُـفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا ، مَنْ بَعَثَـنَا مِن مَّرْقَدِنَا ؟! هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ (52)] [1] فادّعى أنّ قولَهم [ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَـنَا مِن مَّرْقَدِنَا ؟! ] يفيد أنهم كانوا نائمين نومةً عميقة غير مسبوقين بحياة واعية .

والجواب : نعم ، الإنسانُ في البرزخ كالنائم ، لكنْ مِن حيثُ عدمِ شعوره بمدّة الزمان ، فإنّ تعريف الزمان هو مقدار حركة المتحرّك ، وقال العلماء بأنّ المتحرّك هو المادّي ، نعم ، الميّتُ بما أنه يعيش حياةً روحانيّة هو لا يشعر بالزمان ، فهو من هذه الناحية كالنائم تماماً ، النائم لو نام ساعة أو نام ثلاثمئة سنة لا يشعر بمقدار الزمان ، لأنّ روحه التي تـتـنعّم في منامها أو في موتها لا تشعر بالزمان ، ولذلك أهل الكهف ـ مع أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمئةٍ سنينَ وازدادوا تسعاً باعتبار السنة القمريّة ـ لم يشعروا ولم يعرفوا كم لبثوا حتى قال قائل منهم [ لبثـنا يوماً أو بعض يوم ] ، قال الله تعالى [ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْـتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْـتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)] [2] ، إذن في عالم البرزخ يشعرون بشيء من المدّة لكن بأقلّ قدر ممكن ، يعني لا يستطيعون على قياس الزمان . بتعبير آخر : هذا الإنسان سواء كان نائماً أو في البرزخ وسواءً كان يتـنعّم أو يتعذّب هو لا يشعر بالزمان ، كما رأيت في الآيات الكريمة . والسرُّ في هذا هو أنّ كلّ ما هو روحاني ـ وهم الملائكة الروحانيّون وأرواح الأموات ـ لا حركة عنده ، ولا شمس ولا قمر في عالمهم ولا ليل ولا نهار ، حركتهم بالطفرة أي بالإنـتقال من صورة إلى صورة ، لا من حالة إلى حالة كالإنسان الذي يمشي من مكان إلى مكان ويكون بذلك بحاجة إلى وقت ، فهو في منامه وفي حياته البرزخيّة لا يتحرّك مثل الماديّين ، وإنما يكون هنا تارةً فينظر مباشرةً إلى أمريكا والصين ، وذلك لأنّ سعته الوجوديّة ـ وهو روح ـ تكون أوسع من سعة نظره في الدنيا . بتعبـير آخر : الناس في الدنيا [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)] [3] ، أمّا في عالم الأرواح فهو ينـتـقل من صورة إلى صورة ومن عالم إلى عالم في آن ، وأنت تعلم أنّ الآن هو طرف الزمان ، وليس له مدّة ، هو ينـتقل من عالم إلى عالم في آنٍ واحد ، أي بأقلّ من ثانية ، وهو هناك ينطق بلغة إلقاء المعاني ، لا بلغة إلقاء الألفاظ التي تحتاج إلى مدّة زمنيّة ، زمانهم الدهر ، الذي هو فوق الزمان ، لذلك إذا ركع الملك الروحاني فلا مانع عنده من الركوع مئة سنة ، لأنه لا يتعب ـ لكونه روحانيّاً ـ ولا ينعس ولا ينام ، ولا يشعر بالملل مثلَ الإنسان المادّي ... وفي الحقيقة إنّ الميّت يدخل في باطن هذا العالم ، حيث يشرف على عالم الدنيا ، من عالم الأرواح الباطني ، الذي هو مشرف على عالمنا هذا .

بتعبير آخر : عالمُ الروح مغايرٌ تماماً لعالم المادّة ، فالروح تُخلق بالأمر ، أي بشكل دفعي ، لا بالخلق التدريجي ، يقول الله تعالى [إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ، تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ (54)] [4] فالأمرُ إذن غيرُ الخلقِ، الأمرُ دفعيٌّ ، والخلقُ ـ كخلْقِ السمواتِ والأرض ـ تدريجيّ ، في عالم الأرواح كلّ شيء دفعي ، وفي عالم الخلق كلّ شيء تدريجي خاضع لقوانين عالم الخلق . قال الله تعالى [ يسألونك عن الرُّوحِ ، قُلِ الروحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي ] [5] ، فأفاد جلّ وعلا أن الروح من سنخ أمره، ثم عَرَّف الأمرَ في قوله تعالى [ إنما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقول له كُنْ فيكون ، فسبحان الذي بـيده ملكوت كل شيء ] [6] ، إذن عالَمُ الأمْرِ هو عالم كن فيكون .

أمّا قضيّة التـنعّم والعذاب والوعي التامّ في البرزخ فأمرٌ غير قضيّة الشعور بالزمان ، وقد أجمع علماؤنا على وجود عالَم البرزخ بما فيه من وعيٍ ونعيم وجحيم ، واستدلّوا على ذلك بصريح الآيات المستـفيضة والروايات المـتواترة فقالوا :

قال الله تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ، كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ (101)] [7] .

وقال عز وجل [ وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154)] [8] .

أقول : هذه من الآيات الدالّة بوضوح على وجود برزخ هم فيه أحياء ، ولا قيمة للحياة إذا كان الإنسان نائماً دائماً .

وقال تبارك وتعالى [ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ ، وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ (171)] [9] .

أقول : وهذه أيضاً من الآيات الصريحة في وجود حياةٍ برزخيّة يحيا فيها الإنسانُ حياةً تامّة الوعيِ والسعادة ـ لا نائماً ـ ففيها يُرزقون فيها العلمَ ، لأنه هو المناسب لأرواحهم ... وفي الحقيقة إنّ الشهداء يستمتعون بنيل العلوم الربّانيّة والكثيرِ من الحقائق الوجوديّة واللقاء مع الأنبـياء والأولياء ، وهم يستمتعون بذلك أكثر بألف ألف مرّة من متاع الطعام والشراب الذي يتوهّمُه بعضُ الناس . والآيةُ تؤكّد أنهم في عالم البرزخ يكونون [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ] فهم واعون ، ويستمتعون بما آتاهم الله من فضله [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ] أنْ يا ليت يأتي إلينا فلانٌ وفلان ليستمتعوا في هذا العالَم بما نستمتع به نحن ، وكأنهم يقولون إن شاء الله سيأتون إلينا ، هذه التمنّيات تكشف عن وجود وعيٍ تام واستمتاع عظيم يعيشون فيه عن وعي تامّ ـ لا أنهم كالنائمين ـ ، ثم يقول المقتولون في سبيل الله : لماذا يخاف المجاهدون في سبيل الله مِنَ القتل في سبيل الله والحالُ أنه لا [ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ] ولِشِدّةِ وَعْيِهِمْ هم [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ ] .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo