< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : التردّد في حرمة الإستقبال والإستدبار أثناء التخلّي
مسألة 10 : يحرم على الأحوط وجوباً ـ في حال التخلّي ـ استقبالُ القبلة واستدبارها، سواءً بمقاديم البدن ـ أي بصدر الشخصِ ـ أو بنفس العورة . ولا فرق في الحرمة بين الأبنية والصحاري على الأحوط وجوباً . والأحوط وجوباً حرمتهما حتى في حال الإستبراء . ولو اشتبهت القبلة فلا يـبعد العمل بالظن، فإن لم يوجد عنده ظنّ تخيّر بين الجهات . ولو اضطُرَّ إلى أحد الأمرين ـ إستقبال القبلة أو استدبارها ـ تَخَيَّرَ بينهما، وإن كان الأحوط الإستدبار ... 346.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
346 قلنا إنه ورد في ذلك عدّةُ روايات[1]، وقد ذكرناها كلّها وقلنا إنها مناقشة إمّا سنداً وإمّا دلالةً، إلاّ أنّ مجموعها قد يورث الإطمئنان ولو بصدور بعضها فنقول :
1 ـ روى في الكافي عن علي بن إبراهيم رفعه قال : خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبو الحسن موسى (عليه السلام)قائم وهو غلام فقال له أبو حنيفة : يا غلام، أين يَضَعُ الغريبُ ببلدكم ؟ فقال : ( اِجتنِبْ أفنيةَ المساجد، وشطوطَ الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزال، ولا تستقبل القبلةَ بغائط ولا بول، وارفع ثوبك، وضع حيث شئت ) ....
7 ـ وأيضاً في التهذيبين بإسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب عن الهيثم بن أبي مسروق (قريب الأمر، له كتاب، قيل هو فاضل، لكنه يوثّق لرواية ابن أبي عمير عنه بسند صحيح) عن محمد بن إسماعيل (ثقة سواءً كان ابن بزيع أو ابن ميمون) قال : دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وفي منزله كنيف مستقبل القبلة، وسمعته يقول : ( من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالاً للقبلة وتعظيماً لها لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له ) مصحّحة السند، ولكنها لا تفيد التحريم، ورواها البرقي في (المحاسن) عن أبيه عن الحارث بن بهرام عن عمرو بن جميع قال قال رسول الله (ص) : ( من بال حذاء القبلة .. ) ثم ذكر مثله . والمظنون قوياً أنّ المنزل المذكور لم يكن منزل الإمام (عليه السلام)، وإنما كان في مكّة أو المدينة أو في السفر أو في أيّ مكان آخر، إذ لا يصدر من الإمام الكامل مكروهٌ قطّ .
8 ـ وفي المستدرك عن نوادر السيد فضل الله الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (ص) اَنّه نهى اَنْ يَبُول الرجلُ وفرجُه بادٍ للقبلة . أقول : لكنها منصرفة إلى الصحاري والأماكن المكشوفة .
على أيّ حال حرمةُ استقبال القبلة واستدبارِها أثناء التخلّي هو المشهور جداً بين الأصحاب . هذا وقال السيد الخوئي إنه "نُقِلَ الخلافُ عن جماعة من متأخّري المتأخّرين، منهم صاحب المدارك، حيث ذهبوا إلى كراهتهما" .
أقول : لا شكّ أنهم كانوا قديماً إلى أوائل القرن العشرين يتخلّون في البراري والأماكن المكشوفة، عادةً أو غالباً، فيحتمل جدّاً أن تكون الروايات ناظرةً إلى تلك الأزمنة القديمة، ويؤيّد ذلك ما ورد من رواية الإمام الكاظم (عليه السلام) مع أبي حنيفة، فإنه رغم شأنه وعمره لم يأخذوه إلى مكان مستور . على أنك تلاحظ المناقشة بين العلماء قديماً أيضاً في الحرمة مطلقاً أو في خصوص الصحاري والمناطق المكشوفة أو في كراهية ذلك .
فقد قال السيد محسن الحكيم في مستمسكه ج 2 ص 196 ـ تعليقاً على قول السيد اليزدي في العروة ( والقول بعدم الحرمة في الأبنية ضعيف )[2] ـ قال : ( وإن حُكِيَ ـ أي عدم الحرمة ـ عن ابن الجنيد والمفيد وسلاّر ) .
إذن يجب أن ننظر إلى بعض كلمات علمائنا من حيث كون التخلّي في المناطق المكشوفة أو في الأبنية :
ـ قال الشيخ المفيد في المقنعة ص 41 : ( إذا دخل الإنسان داراً قد بُنِيَ فيها مقعدٌ للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضرَّه الجلوسُ عليه، وإنما يكره ذلك في الصحارى والمواضع التي يتمكن فيها من الإنحراف عن القبلة)[3]، إذن هو لا يحرّمُ استقبالَ القبلة الشريفة أثناء التخلّي .
ـ وقال الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي (توفّي 448 هـ ق) في كتابه المراسم العلوية ص 32 : ( ويجلس غير مستقبل القبلة ولا مستدبرها، فإن كان في موضع قد بني على استقبالها أو استدبارها فلينحرف في قعوده . هذا إذا كان في الصحاري والفلوات، وقد رُخِّصَ ذلك في الدور، وتجنبُه أفضل)[4]، فهو إذن لا يحرّمُ استقبالَ القبلة المشرّفة أثناء التخلّي في الدور .
ـ وقال الشيخ الطوسي في كتابه الخلاف : ( لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول ولا غائط، ولا عند الإضطرار، لا في الصحاري ولا في البنيان، دليلُنا إجماعُ الفرقة وطريقة الإحتياط )[5] وروي عن النبيّ (ص) أنه قال : ( إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا أتى أحدُكم الغائطَ، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ببول ولا غائط )[6] .
ـ ومثلَه تماماً قال ابن زهرة في غنية النزوع .
إذن المسألةُ خلافيّة، ورغم ذلك يَستنكر الفقيهُ الإفتاءَ بجواز الإستقبال أو الإستدبار حتى ولو ظنّ أنه مكروه وليس حراماً، بناءً على مصحّحة محمد بن إسماعيل السابقة قال : دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وفي منزله كنيف مستقبل القبلة، وسمعته يقول : ( من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالاً للقبلة وتعظيماً لها لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له )، ورغم إمكان التمسّك بالبراءة، ورغم عدم وجود إجماع، فنحن نحتاط، فقط تعظيماً لبيت الله الحرام، ولما صار مرتكزاً الآن عند المؤمنين، حتى ولو لم يثبت ذلك .

أمّا حال الإستبراء، فهل يحرم الإستقبال أو الإستدبار ؟

الأحوط وجوباً حرمة ذلك، لمعلوميّة أنه يخرج دائماً أو عادةً بولٌ بالإستبراء .
وليس لنا أن نستدلّ بما رواه في الكافي عن محمد بن الحسن (الصفار) عن سهل بن زياد (القمّي الرازي) عن موسى بن القاسم (بن معاوية بن وهب ثقة) عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : الرجل يريد أن يستنجِي، كيف يقعد ؟ قال : ( كما يقعد للغائط )[7] موثّقة السند، ورواها في الفقيه هكذا : قال : سئل الصادق (عليه السلام) عن الرجل إذا أراد أن يستنجي كيف يقعد ؟ قال : ( كما يقعد للغائط ) . ثم إنّ سهلاً ثقةٌ لتوثيق الشيخ الطوسي له في أصحاب الهادي (عليه السلام) ولرواية الكثير من الأجلاّء عنه ... ولا اعتبار بعد ذلك بقول الشيخ الطوسي عنه في عدّة مواضع "إنه ضعيف"، وقال عنه جش "ضعيف في الحديث، غير معتمد فيه، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب) (إنتهى)، نعم لا بدّ من الإحتياط بشأن رواياته في مقام الفتوى .
أقول : ليس لنا أن نستدلّ برواية الإستنجاء، لأنّ الإستنجاء هو التطهير وليس الإستبراء، وثانياً لمعلوميّة أنّ التطهير باتّجاه القبلة ليس محرّماً قطعاً، وثالثاً المظنون قوياً أنّ الرواية ناظرة لما يقوله العامّة من أنه يستحبّ حال الإستنجاء تفريجُ الفخذين واسترخاء الشخص لئلاّ ينقبض المحلّ على ما فيه من الأذى وقد يؤدّي ذلك إلى بقاء شيء من النجاسة . إذن دلالة الرواية غير واضحة في حرمة الإستقبال والإستدبار حال الإستنجاء .
وقد يُستدَلّ بالمرسلة السابقة عن النبيّ (ص) أنه قال : ( إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولكنْ شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا)[8] وذلك بتقريب شمول الرواية للإستبراء أيضاً .
ولو اشتُبِهت القبلةُ وَجَبَ ـ عقلاً ـ أن يَسأل أو ينتظر إن أمكنه المعرفة بعد قليل، وإلاّ حكم العقل أن يَعمل بالظنّ . المهم هو أنه يجب التحرّي عقلاً، ولك تستدلّ بإطلاق ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى أو ابن خالد) عن حماد(بن عيسى) عن حريز عن زرارة قال قال أبو جعفر (عليه السلام) : ( يجزئ التَّحَرّي أبداً إذا لم يعلم أين وَجْهُ القبلة )[9] صحيحة السند، لكن يبقى في النفس إشكال من باب عدم علمنا بالسؤال، فقد يكون السؤال عن الصلاة، لكن يكفينا معلوميّة وحدة المناط .
ولو تردّد بين جهتين وجب اجتنابهما عقلاً والتوجّهُ إلى إحدى الجهتين الاُخريين .
ويكفي الإنحراف عن القبلة ـ للبعيد كالذي في لبنان مثلاً ـ بمقدار ثلاثين درجة، فعند ذلك لا يصدق عليه عرفاً أنه متَّجِهٌ إلى القبلة .
كلّ ما بُنِيَ في بلاد الإسلام يصحّ التخلّي فيه ـ طبعاً مع إذن المالك ـ من دون حاجة إلى السؤال عن كونه مستقبلاً للقبلة أو لا، وذلك لقاعدة الصحّة في عمل الغير وللسيرة المتشرّعية .
وأمّا في بلاد الكفر ـ كما في مطاراتهم مثلاً ـ فمع الحرج ـ كما هو كذلك عادةً ـ لا يجب السؤال والتحرّي قطعاً، وأمّا مع إمكان التحرّي وعدم الحرج فالأحوط وجوباً ذلك، بل يمكن البناء على عدم وضوح الحرمة كما قلنا قبل قليل .


[6] الخلاف، الشيخ الطوسي، ج1، ص101. هذه الرواية من طرقهم، لا من طرق الشيعة، كذا قال ابن زهرة في الغنية ص 35.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo