< قائمة الدروس

بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : المعارَضة مع البيّنة
مسألة 1 : إذا تعارضتِ البينتان أو إخبار صاحبَي اليد في التطهير وعدمه تساقطا، ويحكم ببقاء النجاسة . وإذا تعارضتِ البينةُ مع إحدى الطرق المتقدمة ـ ما عدا العلم الوجداني والإقرار ـ تقدمتِ البيِّنَةُ إذا كانت معتمدةً على الحسّ ونحوِه323 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
323 لا شكّ في أنه إذا تعارضتِ البيّنتان تساقطتا، وكذا إذا تعارض إخبار ذي اليد مع إخبار ذي اليد الثاني، بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، وجب البناء على بقاء الحالة السابقة، وهي ـ فرضاً ـ النجاسةُ .
وإذا تعارضت البيّنةُ مع أماريّة السوق أو أماريّة اليد أو الصحّة في عمل الغير أو الفراغ والتجاوز وَجَبَ تقديمُ البيّنة، لأنها أقوى الأمارات بعد العِلْم، لا بل لك أن تقول بأنّ هذه الأمارات بالنسبة إلى أماريّة البيّنة هي بمثابة الأصول العمليّة بالنسبة إلى الأمارات، ذلك لأنّ السوق واليد والصحّة والفراغ وإن كانت أمارات وكاشفة غالباً إلاّ أنها قريبة للأصول العمليّة، وذلك لضعف أماريّتها في بعض الأحيان، كما في الأسواق التي يضعف فيها الدينُ، وكما لو كان الخادمُ المسلمُ قليل الإهتمام بدِينه، وكما لو كان الشخصُ الذي عَقَدَ عقْد الزواجِ أو طلّق هو طالب مبتدئ في الحوزة العلميّة .. ورغم ذلك يبقى سوق المسلمين حجّة تعبّديّة، وكذلك أمارات اليد والصحّة والفراغ والتجاوز حجّة تعبّديّة، فليست كلّ سلطة توجب الوثوق .. وقد يظنّ الشخصُ بشروده في صلاته أو في وضوئه .. ومع ذلك تعبّدنا اللهُ تعالى بأماريّة الفراغ .. فهي إذَنْ أقربُ شيءٍ إلى الإستصحاب، وذلك بخلاف البيّنة التي تدّعي المشاهدةَ الحسيّة، فهي تورث العلم أو الظنّ دائماً أو غالباً، فهي من أقوى الأمارات كاشفيّةً، فتُقَدَّمُ على تلك الأمارات، ولا أقلّ لموثّقة مسعدة بن صدقة الآتية .
أمّا إذا تعارضت البيّنة مع الإقرار فإنه يلزم تقديمُ الإقرار على النفس، مع احتمال صدقه، وذلك كما لو شهدت بيّنة بأنّ الشيء الفلاني لزيد، وأقرّ زيدٌ بأنه باعه لعمرو، فإنّه لا شكّ في تقديم الإقرار على البيّنة لأنه أقوى كاشفيّة، لا بل قد يقال بزوال كاشفيّة البيّنة في هكذا حالة، وبعدم حجيّتها أصلاً .
ولو تعارضت البيّنةُ مع خبر عادل واحدٍ ـ وقد قلنا بحجيّة خبر الثقة الواحد في الموضوعات ـ فإنّ البيّنة تتقدّم لأكثر من سبب :
بيان ذلك يتمّ في بيان معنى البيّنة وفي حجيّتها وفي حجيّتها مع التعارض مع خبر الثقة الواحد .
الكلام في معنى البيّنة
لا شكّ في تبادر الرجلين العادلين من البيّنة لعدّة أدلّة، وهذا أمر ثابت في الشرع، وإلاّ لم يعد هناك معنى لقول النبيّ (ص) (البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر)[1] أي أنه إذا كان المراد من البيّنة الثقة الواحد مثلاً، فلن يبقى وجه لتقديم هذا الشاهد العادل الواحد على صاحب اليد الذي هو فرضاً عادل أيضاً مع فرض المدّعي مجهول الوثاقة، فيكون مع المنكر أمارتان، عدالته وأماريّة يده على الملكية، وح لن يوجد وجهٌ لتقديم العادل الواحد على العادل ذي اليد . وتكفينا كثرةُ الإستعمال في الرجلين العادلين في زمان المعصومين (عليهم السلام) حتى صارت منقولاً شرعيّاً . وسوف ترى في الآيات والروايات التالية بعض الشواهد على كثرة هذا الإستعمال في الشاهدين العادلين .
ومن الطبيعي أن تكون البيّنةُ حجّةً في خصوص الاُمور الحسيّة أو ما كان منشؤها حسيّاً، كالإجتهاد والعدالة ـ فإنّ منشأ العلم بهما الحسّ ـ إذ أنّ المتفاهم العرفي من الشهادة والبيّنة هو ما شوهد بالحسّ أو ما يشبهه .

ثانياً : الدليل على حجيّة البيّنة[2] :
ذكرناها في الدرس السابق ... وخلاصة الكلام هو أننا نثق بعدم وجود خصوصيّة للهلال والجبن في ذلك، ولعدم وجود خصوصيّة لما ذكره الإمام (عليه السلام) في موثّقة مسعدة بن صدقة وهي ( الثوب يكون عليك قد اشتريتَه وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلَّه حُرٌّ قد باع نفسَه أو خُدِعَ فبِيعَ أو قُهِرَ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك )[3] وعدم وجود خصوصيّة لإثبات المال وغيره ـ في الدعاوى ـ في قوله (عليه السلام) (البيّنةُ على مَنِ ادّعى، واليمين على مَن أنكر)[4].
الثالث : الإجماع، اِدّعته جماعة، ولا شكّ أنه المشهور جداً، فقد حكي إنكاره من القاضي ابن البرّاج، وهو أيضاً ظاهر عبارة الكاتب والشيخ . وخلافهم لا يهمّنا بعد تسالم العلماء على حجيّتها . على أنه قيل إنّ هؤلاء لم يخالفوا في أصل حجيّة البيّنة، وإنما خالفوا في بعض الموارد الجزئيّة، كما لو كانت الحالة السابقة للشيء الطهارةَ وجاءت بيّنةٌ تقول بطروء النجاسة، فقيل بعدم الأخذ بقول البيّنة لأنّ الطهارة مغيّاةٌ بالعِلم بالنجاسة لا بالبيّنة .
فمثلاً : يقول السيد المرتضى بعدم حجيّة خبر الثقة الواحد، ومع ذلك يقول بأنه لا خلاف في حجيّة البيّنة [5].
فإذا عرفتَ كلّ هذا وتأمّلت فيما ذكرنا تفهم من هذه الآيات الكريمة والروايات الشريفة أنّ البيّنة حجّة في إثبات كلّ موضوعات الأحكام، إلاّ ما خرج بالدليل .
وتعرف أيضاً أنّ المولى تعالى نزّل الشاهدين العادلين منزلة العلم في إثبات موضوعات الأحكام .

الكلامُ في تعارض البيّنة مع خبر العادل
بعدما عرفتَ حجيّةَ البيّنة إلاّ ما خرج بالدليل تعرف أنه إنِ ادّعى زيدٌ المجهولُ الوثاقة على عمرو العادلِ بكون المال الذي مع عمرو هو لزيد، وأتى زيدٌ بشاهدين عادلين، فهنا أجمعت الروايات والفتاوى على الأخذ بالبيّنة، معنى هذا هو تقديم العادلين على خبر العادل الواحد رغم أنّ معه أماريّة اليد أيضاً، وليس ذلك إلاّ لتقديم الأقوى أماريّةً .
وتلاحظ ذلك أيضاً في موثّقة مسعدة بن صدقة، فإنّ الإمام (عليه السلام) ينهى عن الأخذ بالأقوال والإحتمالات إلاّ إن جاءنا بيّنة عادلة تقول بأنّ الثوب الذي اشتريتَه هو سرقةٌ، أو أنّ المملوك الذي عندك هو حُرٌّ قد باع نفسَه أو قالوا هو خُدِعَ فبِيعَ أو قُهِرَ، أو قالت البيّنةُ العادلةُ بأنّ زوجتك فلانة هي اُختك أو رضيعتك ( والأشياءُ كلُّها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك أو تقومَ به البيِّنةُ) ولا يكفي خبرُ عادلٍ واحد بأنه لصاحب المحلّ وأنه ليس بسرقة، وإنما خُذْ بالبيّنة وقدِّمْها على خبر العادل الواحد .
وهناك اُمور خطيرة تترتّب على ما قلناه، فمثلاً لو ادّعت الزوجةُ بأنّ زوجها سافر عنها في الأشهر التسعة قبل وضع الحمل، وقالت البيّنة العادلة بأنه سافر منذ أكثر من سنة، ففي هكذا حالة لا يصحّ أن نأخذ بأماريّة الفراش، فلا يصحّ أن نورّث الطفلَ من الزوج .
فإذا كنّا نقول بتقديم الأقوى كاشفيّةً في الموضوعات في باب القضاء، فالقول بتقديم الأقوى كاشفيّةً في باب الطهارة والنجاسة يكون بطريق اَولى، ولك أن تستدلّ بالروايات :
من قبيل : أدلة ترجيح أشهر الخبرين على الأخر كما في باب التعادل والتراجيح، كما تعرف من مقبولة عمر بن حنظلة حيث قدّم الإمامُ (عليه السلام) حُكْمَ الأعدلِ والأفقه والأصدق، حيث قال الإمام ـ في جواب مَن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ ـ فقال (عليه السلام) : (الحُكْمُ ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر )، فإذا كان هذا التقديم في القضاء والأموال ففي الطهارة والنجاسة بطريق اَولى .
ومنها : ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن صفوان(بن يحيى) عن شعيب(بن يعقوب العقرقوفي ثقة عَين) عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي القومَ فيدعي داراً في أيديهم ويقيم البيِّنَةَ، ويقيم الذي في يده الدارُ البينةَ أنه ورثها عن أبيه ولا يدري كيف كان أمرها ؟ قال : ( أكثرهم بينةً يُستحلَفُ وتُدْفَعُ إليه )[6] .
ومنها ما رواه في الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد(بن يحيى) عن (الحسن بن موسى)الخشاب عن غياث بن كلوب(قال الشيخ في العدّة إنّ العصابة عملت برواياته فيما لم ينكر ولم يكن عندهم خلافه) عن إسحاق بن عمار(ثقة وأصله معتمد إلاّ أنه كان فطحيّاً) عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)في دابّة في أيديهما، وأقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده، فأحلفهما عليّ (عليه السلام) فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له : فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة ؟ فقال : (أُحَلِّفُهما، فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإنْ حَلَفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين )، قيل : فإنْ كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البينةَ ؟ قال : (أقضي بها للحالف الذي هي في يده )[7] موثّقة السند، ومعنى كلّ الروايات هو وجوب الأخذ بالأقوى كاشفيّةً .



[1] رواها علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعاً عن أبي عبد الله. عليه السلام .. عن رسول الله . .وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 18، ب 25، من أبواب كيفية الحكم، ح 3، ص 215، الاسلامية.
[2] لا شكّ أننا يجب أن نستثني ما استثناه الشارع المقدّس من قبيل الشهادة على الزنا واللواط وأمثالهما، والشهادة على الميّت بكونه مديوناً بكذا، فإنّ البيّنة ـ على ما هو معروف ـ لا تقبل إلاّ مع ضمّ يمين المدّعي، وغير ذلك من موارد . ثم علينا أن نعرف أيضاً أنّ عدّة من علمائنا لم يؤمنوا بعموم حجيّة البيّنة، فقد نسب إنكار حجية البينة العادلة إلى القاضي عبد العزيز بن البراج في اثبات النجاسة، وكذا ما هو الظاهر من السيد في الذريعة، والمحقق الأول في المعارج، والمحقّق الثاني في الجعفرية، وآخرين مِن أنّ الإجتهاد لا يثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه .
[4] رواها علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعاً عن أبي عبد الله. (عليه السلام) .. عن رسول الله (ص). وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 18، ب 25، من أبواب كيفية الحكم، ح 3، ص 215، الاسلامية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo