< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/08/19

بسم الله الرحمن الرحیم

مسألة 2 : .. وأمّا لو عَرَضت النجاسةُ وحصل عنده شكّ في أنها إمّا وقعت على ثوبه الذي يلبسه فعلاً في صلاته وإمّا وقعت على الثوب الآخر، ثم تبيَّنَ أنها وقعت على ثوبه الذي يصَلّي فيه فعلاً، فإنه يجب عليه أن يعيد صلاته، لأنّ هذا العلم الإجمالي منجّز عليه عقلاً، أمّا لو لم يكن الطرف الآخر محلّ ابتلائه ـ كما لو كان الطرفُ الآخرُ البحرَ مثلاً أو المرحاضَ ـ فلا بأس بجريان الاُصول المؤمّنة في الثوب، وعليه فإن تبيّن بعد الصلاة أنّ النجاسة كانت قد وقعت على الثوب فلا بأس، أي لا يعيد صلاته، لأنه كان جاهلاً شرعاً، بمعنى أنّ هذا العلم الإجمالي لم يكن منجّزاً عليه شرعاً، وإن كان الإحتياط حسناً .

أوضحنا ذلك مطوّلاً في شرحنا على الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول، واستدللنا على ذلك بالعقل، وأنّ العلّة للإحتياط هو وجوب الإبتعاد عن النجس الواقعي .
أمّا إذا كانت بعض أطراف العلم الإجمالي خارجة عن محلّ الإبتلاء تماماً، كما في فرض مثال المتن، فإنه لا ينظر إلى النقطة التي وقعت في البحر مثلاً أو في المرحاض، عقلاً وشرعاً، فلا مانع عقلاً من جريان الطهارة في الطرف الباقي . وبتعبير آخر : لك أن تُجري قاعدة الطهارة بلا أيّ مانع عقلي، لأنّ لك أن تقول "هل تنجس ثوبي هذا أم لا ؟" فَلَكَ أن تُجري قاعدةَ الطهارة .
ولكن مع ذلك يوجد شبهة معروفة وهي أنه حتى الطرف الغير واقع تحت الإبتلاء، هو واقعاً وحقيقةً من أطراف العلم الإجمالي وجداناً، فقد تقول لا ينبغي أن تجري الاُصول الترخيصية المؤمّنة في الطرف الواقع تحت الإبتلاء بذريعة أنّ الطرف الآخر الواقع خارج محلّ الإبتلاء لا تجري فيه الاُصول الترخيصية للغويّتها عقلاً .
وهنا وللإجابة عن هذا الإشكال المشهور صار من الواجب أن نذكر تفاصيل هذه المسألة فأقول :
ـ تارةً تكون قطرةُ النجاسةِ مردّدةً بين الثوب الذي يريد زَيدٌ أن يصلّي فيه، وبين ثوبه الآخر الواقع تحت ابتلائه أيضاً، فهنا لا شكّ في تنجّز هذا العلم الإجمالي بالإجماع .
ـ وتارةً تقع قطرة النجاسة على أحد ثَوبين، إمّا ثوب زيد اللبناني وإمّا ثوب رجل صيني كان قُرْبَه في المطار فطار الصيني إلى الصين، فهنا قد تقول بأنّ ثوب الرجل الصيني خارج عن محلّ الإبتلاء، لأنّ زيداً قطعاً أو قُلْ عادةً لن يذهب إلى الصين ولن يعرف هذا الرجلَ الصيني هناك على فرض ذهابه، ولن يعرف أين هو، فجريانُ الاُصولِ الترخيصية المؤمّنة في ثوب الصيني لا فائدة منه، ولذلك فجريانها فيه لَغْوٌ محْضٌ، فيبقى أن تَجريَ الاُصولُ الترخيصية في ثوب زيد بلا معارض .
( لكنْ ) هذا الكلامُ ـ وهو جريان الاُصول العملية في ثوب زَيد ـ لا نوافقُ عليه، وذلك لأننا لو فرضنا أنّ الصيني أو ثوبه رجع إلى بلد زَيدٍ صدفةً وعلى خلاف التوقّع واعتقاد زيد، ولو بفرض استخدام أحدِهم الجنَّ مثلاً فجَلَبَ ثوبَ الصيني له، لصار العلم الإجمالي منجّزاً عليه ! ثم لو أرجعه الجنّيُّ إلى الصين ـ بخلاف اعتقاد زيد ـ لبطل تنجيز هذا العلم ! ثم لو جلبه له مرّةً اُخرى ـ بخلاف اعتقاد زيد، بمعنى أنّ زيداً لم يحتمل أن يعيده إليه ثانيةً وإنما كان يعتقد بخروج ثوب الصيني عن محلّ ابتلائه إلى آخر عمره ـ لرجَعَ العلمُ الإجمالي منجّزاً عليه مرّةً اُخرى وهكذا .. هذه الأحكام المتبدّلة بحسب اعتقاد زيدٍ غيرُ محتملة، ولذلك يجب القول ببقاء منجّزيّة هذا العلم الإجمالي، أو قُلْ : يمكن رجوعُ هذا الصيني إلى بلد زيد لكونه قنصلاً مثلاً في السفارة أو لكونه تاجراً، وزَيدٌ لا يدري، فيعود العلمُ الإجمالي منجّزاً، فإذا رجع الصيني إلى الصين واعتقد زيد بخروج ثوبه عن محلّ ابتلائه لبطل تنجيز العلم الإجمالي .. وهكذا .. هذه الأحكام غير محتملة، وإنما يجب علينا أن نتمسّك بإطلاقات الأحكام، وهي هنا وجوب اجتناب زيد عن الصلاة بثوبه المشكوك النجاسة .. هذا الحكم بوجوب اجتناب زيد لثوبه المشكوك النجاسة غير مستهجَن عقلاً أصلاً، وإنما المستهجَنُ هو أن يصلّي فيه .. وقد ذكرنا هذه الأمثلة لنكشف عن لزوم القول ببقاء تنجيز العلم الإجمالي إن لم يَفْنَ الطرفُ المقابلُ حقيقةً .
ـ وتارةً يتردّد زيد في محلّ وقوع قطرة النجاسة بين البحر وبين ثوبه، فحتى في هكذا حالة هناك مجال للإشكال، ولكن مع ذلك لا بأس بجريان الاُصول الترخيصية المؤمّنة في ثوب زيد، وذلك لأنّ العقل لا يمانع من جريانها في الثوب، بخلاف مثال ثوب الصيني، فإنّ العقل يمانع من جريان الأُصول الترخيصية في ثوب زيد، وذلك لبقاء أطراف العلم الإجمالي حقيقةً في مثال ثوب الصيني، أمّا هنا فقد فَنَتِ النجاسةُ عرفاً .
ـ وقد يميّز بين ما لو كان العِلم الإجمالي منجّزاً أوّلاً، ثم طرأ عارض اَخرَج أحَدَ الطرفين عن التنجيز، فهنا قد يقال بلزوم البقاء على تنجيز كلا الطرفين . مثال هذه الحالة : ما إذا عَلِمَ إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثم طُهّر أحدُهما، فإننا يجب أن نجتنب الطرف الآخر، ولو لاستصحاب بقائه على التنجّز . وهذا الكلام صحيح بلا ريب .
أمّا إذا كان أحد الطرفين قد خرج عن أطراف العلم الإجمالي ولو بتطهير أحد الطرفين، ثم ـ بَعد ذلك ـ عَلِمَ الشخصُ بنجاسة أحد الطرفين منذ ساعة، فهنا قد يقال بأنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً لأنه يكون بمثابة الشبهة البدوية . مثالُ هذه الحالة : ما إذا طَهّرتَ أحد الإناءين أوّلاً لسببٍ ما، ولو لعادتك على تطهير الإناء قبل تعبئته ماءً، ثم جاء شخص لا يعرف بتطهيرك لأحد الإناءين الآن ـ ولنفْرِضْهُ إناء رقم (واحد) ـ فأخبرك بأنّ أحدهما كان نجساً منذ ساعة، فأخبرتَه أنت فقلتَ : لكنّي قد طهّرتُ هذا الإناء ـ رقم واحد ـ الآن ! فالسؤال : هل يجوز شرب الإناء رقم (باء) بذريعة أنّ هذا العلم الإجمالي لم يكن منجّزاً عليه من الأصل، أي أنّ الحالة هي بمثابة الشبهة البدويّة، أو لا يجوز شربُه ؟
لا شكّ في لزوم الإجتناب عن الطرف رقم (باء) عقلاً، وذلك لأنه حين عَلِمَ زيدٌ بنجاسة أحدهما منذ ساعة، فإنه تنجّز عليه العلم الإجمالي عقلاً بمقدار الإناء الذي لم يطهّره ـ أي رقم باء ـ وإلاّ فهل تحتمل أنت أن يكون إناء (باء) منجّزاً على المخبِر، ولا يكون منجّزاً على زيد ؟!


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo