< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/07/26

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: فَصْلٌ في الصلاة في النجس
إذا صلَّى في النجس فإن كان عن علم وعمد بطلت صلاته(239)، وأمّا إن كان عن جهل بالنجاسة جهلاً حكميّاً بأن لم يعلم أن حكم الموضوع الكلّي للشيء الفلاني نجس شرعاً، أو عن جهل بشرطية الطهارة للصلاة فصَلاتُه صحيحةٌ ولا إعادةَ عليه(240) . وأمّا إذا كان جاهلاً بالموضوع بأن لم يعلم أن ثوبه أو بدنه لاقَى البولَ مثلاً، فإنْ لم يلتفت أصلاً أو التفت بعد الفراغ من الصلاة صحت صلاتُه ولا يجب عليه القضاء ولا الإعادة في الوقت.
بإجماع العلماء ـ إلاّ فيما استثني كما في الصلاة بالدم الأقلّ من الدرهم، وكما في الصلاة فيما لا تتمّ فيه الصلاة ـ وذلك لكثرة الروايات في ذلك، ويكفي أن نتبرّك بذكر بعضها :
1 ـ فقد روى في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن العلاء(بن رزين القلاء) عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يُصَلّي ؟ قال : ( لا يؤذنه حتى ينصرف ) صحيحة السند .
2 ـ وأيضاً في الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن (عبد الله)ابن مسكان(من أصحاب الإجماع) عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به ؟ قال : ( عليه أن يبتدي الصلاة )، قال : وسألته عن رجل يصلي وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم، قال : ( مضت صلاته ولا شيء عليه ) صحيحة السند .
3 ـ وأيضاً في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم ؟ قال : ( إن كان قد عَلِمَ أنه أصاب ثوبَه جنابةٌ أو دَمٌ قبل أن يصلِّيَ ثم صلَّى فيه ولم يَغْسِلْه فعليه أن يعيد ما صَلَّى، وإن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة ) صحيحة السند، وينصرف الذهن من السؤال والجواب إلى حالة ما لو نسي فصلّى في النجاسة، وذلك لبُعْدِ أن يتعمّد الصلاة بالنجاسة، وإلاّ لما صلّى أصلاً .
4 ـ وفي التهذيبين بإسناده عن علي بن مهزيار عن فُضالة(بن أيوب ثقة فقيه مستقيم) عن أبان بن عثمان(ثقة ناووسيّ من أصحاب الإجماع) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله(ثقة) قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أيعيد صلاته ؟ قال : ( إن كان لم يعلم فلا يعيد ) موثّقة السند .
5 ـ وفي التهذيبين أيضاً بإسناده عن الحسين بن سعيد عن (محمد)ابن سنان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي فنسي وصلى فيه فعليه الإعادة ) مصحّحة السند، لكون محمد بن سنان ثقة عندنا لعدّة قرائن .
6 ـ وروى عبد الله بن جعفر الحِمْيَري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن(من نسل الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب مجهول) عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليها السلام) قال : سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد، كيف يصنع ؟ فقال : ( إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي ولا يَنقُصُ منه شيءٌ، وإن كان رآه وقد صلى فليعتدَّ بتلك الصلاة ثم ليغسله )[1] ضعيفة بعبد الله بن الحسن، وإن كانت تُظَنّ قوياً وثاقتُه .
7 ـ وأيضاً في التهذيبين بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد(بن عيسى) عن حريز عن زرارة قال قلت له (عليه السلام) : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء مِن مَنِيّ .. إلى أن قال : فإنْ ظننتُ أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرتُ فلم أرَ شيئاً ثم صليتُ فرأيتُ فيه ؟ قال : ( تغسل، ولا تعيد الصلاة )، قلتُ : لِمَ ذلك ؟ قال : (لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككتَ فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً )، قلت : فهل عليَّ إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ فقال : ( لا، ولكنك إنما تريد أن تُذهِبَ الشك الذي وقع في نفسك )[2] صحيحة السند . ورواها الصدوق في العلل عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر(عليها السلام) مثله .
اشتهرت الفتوى بذلك، وذلك لأكثر من سبب :
منها : ادّعاء إطلاق الروايات السالفة الذكر وشمولِها للعالِم بالنجاسة سواءً كان عالماً موضوعاً وحكماً، أو عالماً بالنجاسة موضوعاً فقط لا حكماً، حتى ولو كان جهله عن قصور .
ومنها : عدم الدليل على إجزاء هذا العمل الناقص عن الكامل، والأصلُ عدمُ الإجزاء .
ومنها : إنه لا شكّ في أنّ المظنون هو كون المطلوب في الصلاة متعدّداً، أي أنّ المطلوب اثنان : (الصلاة عن طهارة) و(كونها في الوقت)، فإن فات الوقت، بقي المطلوب الأوّل وهو الإتيان بالصلاة عن طهارة ..
ومنها : أنّ وجوب الإعادة على العالم موضوعاً، الجاهل حكماً، هو من باب أن الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني .
ومنها : أنّ وجوب الإعادة عليه هو مقتضى إطلاق شرطية الطهارة الذي يفيدنا أنّ الطهارة شرط واقعي مطلقاً لا شرطاً علمياً .
والجوابُ على كلّ ذلك بالترتيب السابق :
أوّلاً : لا شكّ في أنّ الروايات السابقة ناظرةٌ إلى الجهل الموضوعي، فلا إطلاق للجهل الحكمي قطعاً .
ثانياً : صحيحٌ أنّ الأصل هو عدم إجزاء الناقص عن الكامل، وأنّ الأصل هو عدم الإجزاء، ولكن في هكذا مورد يشكّ المرء في تقيّد المركّب بشرطية الطهارة وعدم التقيّد، والأصلُ هنا البراءة من الزائد المشكوك .
ثالثاً : إن خرج وقت الفريضة فما هو الدليل على وجوب القضاء ؟ وأنت تعلم أنّ وجوب القضاء قد يكون بأمر جديد، وأيضاً أنت تعلم أنّ الأصلَ عدم وجوب القضاء إلاّ بدليل، ولا دليل على وجود هذا الأمر الجديد، مع تأييد ذلك بقبح تكليف الجاهل القاصر .. نعم، المظنون أن وجوب القضاء هو وليدُ فوتِ الفريضة في وقتها، ولكن الظنّ ليس دليلاً شرعياً، وليس عند أحد دليلٌ على كون وجوب القضاء وليدَ فوت الفريضة في وقتها . طبعاً هذا الكلام ناظر إلى خصوص القضاء، ولا يشمل الإعادةَ .
رابعاً : أصالة الإشتغال محكومة بالبراءة عن وجوب الشرط الزائد المشكوك في هكذا حالة، وأيضاً الأصلُ عدم وجوب القضاء إلاّ بدليل، ولا يوجد .
خامساً: لم يتّضح وجود إطلاق شرطية الطهارة حتى لحالة المجتهد الذي بذل جُهْدَه التامّ ولحالة المقلّد الذي يعمل على طبق تقليده . وبتعبير آخر : مع الشكّ في كون الشرط الفلاني شرطاً مطلقاً ـ أي حتى في حال الجهل كالطهارة المعنوية ـ أو أنه شرط علمي فقط، فهل نرجع إلى عموم شرطية الطهارة الماديّة في الصلاة حتى للجاهل ؟ أم ندّعي عدم وجود عموم أعلائي يقتضي الشرطية المطلقة للطهارة الماديّة، فنقول بأنّ القدر المتيقّن أنه شرط في حال العلم، ولم تثبت الشرطية في حال الجهل ؟
الجواب : لا شكّ في وجود عموم أعلائي، وهو كما في صحيحة زرارة السابقة ( لا صلاة إلا بطهور، ويجزيك من الإستنجاء ثلاثةُ أحجار .. )ولكن لا شكّ أنها ليست في مقام البيان من جميع الجهات، وإنما هي في مقام بيان أصل شرطية الصلاة بالطهور، أي هي في مقام بيان الحكم الأوّلي، فيصعب التمسّك بهذا العموم الأعلائي، ولم يثبت لزوم التمسّك بهكذا عموم أعلائي، فيجب الرجوع إلى البراءة عن تقيّد الصلاة بعدم النجاسة في حال الجهل الحكمي .

إضافةً إلى حديث "لا تعاد"[3] وذلك لأنّ المظنون قوياً أنّ المراد من قوله(عليه السلام) "الطهور" في الحديث هو الطهور المعنوي ـ أي من الحَدَث ـ أي الوضوء وأخويه، وخاصّةً وأنّ الجهل بوجود نجاسة في البدن أو الثياب لا يوجب بطلان الصلاة ..
نعم يحتمل أن يكون المراد منه الطهور المادّي ـ أي في مقابل الخَبَث ـ وذلك بقرينة ما رواه في التهذيبين بإسناده ـ الصحيح ـ عن الحسين بن سعيد عن حمّاد(بن عيسى) عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليها السلام) قال : (لا صلاة إلا بطهور، ويجزيك من الإستنجاء ثلاثةُ أحجار، بذلك جرتِ السُنّةُ من رسول الله(ص) ، وأما البول فإنه لابد من غسله )[4]، وذلك بدليل وحدة السياق التي تفيد أنّ المراد من الطهور هنا هو الطهور المادّي، ولكن مع ذلك نعيد ونؤكّد أنّ المظنون قوياً أنّ المراد من (الطهور) في حديث "لا تعاد" هو الطهور المعنوي ـ كما ذهب إلى ذلك المشهور ـ ولو بقرينة أنّ ما ذُكِرَ في الحديث هو أركان أجزاء الصلاة وشرائطها، فهو شرط واقعي، وليس الطهور المادّي من تلك الأركان شرعاً، وذلك أمر واضح، ولذلك هو شرط علمي ـ لا شرط واقعي ـ وذلك لصحّة صلاة مَن صلّى بنجاسة جاهلاً بها، ولصحّة صلاة من صلّى بنجاسة اضطراراً، ولو مع عدم وجود ماء، ولا تصحّ الصلاة من دون وضوء أو غسل أو تيمّم بحال من الأحوال، إلاّ في حالات قد لا تحصل مع أحد من العالمين كحال الغرق مثلاً .
وأمّا احتمال أن يكون المراد من (الطهور) هما الطهور المعنوي والطهور المادّي تمسّكاً بالإطلاق، فبعيدٌ جداً، لبُعدِ أن يُستعمَل لفظٌ واحدٌ في معنيين متغايرين، فإنّ العرف حينما يستعملون لفظة (أسد) مثلاً في التشبيه فيقولون "زيد أسد" لا يقصدون عادةً معنى أنه شجاع وأنّ رائحة فَمِهِ كريهةٌ جداً ـ وإن كان ذلك ممكناً عقلاً ـ وإنما يقصدون عادةً معنىً واحداً، ولذلك لا يمكن ـ عرفاً وبالتالي شرعاً ـ القولُ بإطلاق لفظة (الطهور) .
إذن نعيد السؤال فنقول : إنْ صلّى شخصٌ مدّةً من الزمن بعطر مخلوط بالكحول مثلاً، بانياً على طهارته لاجتهاد أو تقليد، ثم اعتقد بنجاسته بعد حين، أو قُلْ تغيّر رأيُ المرجع وبالتالي تغيّرت وظيفة المقلّد أيضاً، هل يعيدان صلاتهما ولو بعد خروج الوقت، أم لا ؟
الجواب : أفتى أكثر علمائنا المتأخّرين في حواشيهم على العروة الوثقى بوجوب إعادة الصلاة، وأفتى المحقّق الميرزا حسين النائيني(وفاته 1355 هـ) والميرزا السيد عبد الهادي الشيرازي(وفاته 1382 هـ) والسيد محمد هادي الميلاني والسيد الخوئي(1413 هـ) والسيد القمّي بعدم وجوب الإعادة ولا القضاء إذا كان معذوراً لاجتهاد أو تقليد، وهو الصحيح كما اتّضح لك، بل هو القريب إلى العقل ايضاً .
وكلامُنا هذا يشمل ما لو عَلِم بالحكم ضمن الوقت أو خارجَه، بل يشمل ما لو كان يجهل أصل شرطية الصلاة بالطهارة الماديّة، وذلك تمسّكاً بالبراءة من الشرط الزائد المشكوك .
نعم لا كلام في أنه يستحقّ العقاب فيما لو احتمل اشتراط الطهارة ولم يبحث، وذلك لتكليفه عقلاً وشرعاً بلزوم السؤال والبحث والفحص، لكن ليس كلامنا في استحقاق العقاب وعدمه .
أمّا عدم وجوب القضاء فقد ادّعي الإجماع عليه، وأمّا عدم وجوب الإعادة في الوقت فقد قال السيد محسن الحكيم في مستمسكه : ( على المشهور للنصوص الكثيرة .. ثم قال ـ تعليقاً على قول السيد اليزدي "وإن كانت الإعادةُ في الوقتِ أحوط" ـ "لذهاب جماعةٍ كثيرة إليه، كالشيخ في مياه النهاية وابن زهرة في الغنية والمحقّق في النافع والعلاّمة في القواعد وغيرهم في غيرها على ما حكيَ )(إنتهى) .
وقد يستدلّ على وجوب الإعادة في الوقت بالروايتين التاليتين :
1 ـ ما رواه في التهذيبين بإسناده عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين عن ابن أبي عمير عن وهب بن عبد ربه(ثقة له أصل) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم به صاحبه فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك، قال : ( يعيد إذا لم يكن علم ) صحيحة السند . ووهب لم يسأل الإمام عليه السلام إنما نقل الرواية نقلاً، فهل نقلها عن أبي بصير ؟ لا ندري، يحتمل ذلك جداً بقرينة الروايات المستفيضة .
2 ـ وأيضاً روى في التهذيبين بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن الحسين عن وهيب بن حفص(أبو علي الجريري ثقة واقفيّ له كتب) عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام)قال : سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة ؟ فقال : ( علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم )[5] موثّقة السند .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo