< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/06/10

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: من أحكام تطهير المصحف الكريم

وهنا تبرز مشكلة وهي : إنّنا لم نضمّنْ صاحبَ المصحفِ كلفةَ التطهير ـ لو فرضنا أنّ شخصاً آخر قد تكلّف اُجرةً على تطهير المصحف الذي نجّسه صاحبُه ـ وكان دليلُنا هو أنّ السبب في وجوب التطهير هو المولى تعالى، وليس نفس النجاسة، فإذن يجب أن تكون الاُجرة على الله تعالى ـ لأنّ الله تعالى هو الجزء المتمّمُ للعلّة في إيجاب التطهير ـ لا على مَن نجّسَ مصحفَ نفسِه، لأنّ المنجِّسَ لمصحف نفسه لم يكن العلّةَ التامّةَ لوجوب التطهير، فلِمَ لَمْ تُضَمّنْ صاحبَ المصحف في حالة ما لو نجّس مصحفَه، وضمّنت المنجّسَ لمصحف غيره اُجرةَ التطهير ؟! مع أنّ جزء العلّة لوجوب التطهير هو هنا أيضاً الله تعالى ! ما الفرق بين الحالتين ؟!
الجواب : هو أنّ مصحف الشخص هو صاحبه، وهو نجّسه، وهو لم يطلب من المؤمن تطهيره، لكن المؤمن حينما وجد أنّ صاحب المصحف لا يطهّر مصحف نفسه، وكان الواجب الشرعي هو تطهيره حتى ولو قصّر صاحب المصحف، كان الواجب من قبل الله عزّ وجلّ أن يطهّره كلّ قادر على ذلك، لدفع الهتك والمهانة عن كتاب الله المجيد، فهو لم يعمل شيئاً خدمةً لصاحب المصحف، بل قد يكون صاحب المصحف فاسقاً أو كافراً، وقد تعمّد في التنجيس، فلا وجه لضمان ما تكلّفه المؤمن في تطهير المصحف .
أمّا لو نجّس الشخصُ مِصحفَ غيرِه ـ لا مصحف نفسه ـ فهو قد اعتدى على مصحف غيره، فلصاحب المصحف أن يقول له إنك قد أوقعتني في صرف المال الفلاني لتطهيره، فكان اللازم أن تسأل هل يتوجّب على تنجيسه شيء أم لا ثم تفعل، فالجهل بالقوانين الإلهية أو الوضعية لا ترفع الضمان على الفاعل، فيَضْمَنُ المنجّسُ حتى وإن كان من أوجب تطهير المصحف هو الله .
وكذا لو كان الواجب في القانون الوضعي أن تقف السيارةُ على الإشارة الحمراء، لكنْ كان لا بدّ من قطعها لأنّ سائق السيارة الخلفية كان سكراناً مثلاً فاضطرّ صاحب السيارة الأمامية أن يهرب منه، فقطع الإشارة الحمراء، فترتّب عليه جريمة مالية معيّنة، فعلى السكران أن يدفع هذه الجريمة، لأنه هو السبب التامّ بنظر العرف، وليس السكران جزء السبب، وكان اللازم أن يسأل أنه ماذا يترتّب على هذا الفعل قانونياً .
وكذا لو اعتقد أن صحن الطعام البلاستيك لا ينكسر برميه قليلاً على الأرض فانكسر، فراميه هو الضامن .
وكذا لو اعتقد أنه لا يوجد زجاج خلف البرداية فانطلق نحوها فانكسر الزجاج ... وهكذا .
نعم، لو فرضنا أنّ شخصاً فقيراً عنده أولاد لا يستطيعُ أن يُنفِقَ عليهم، وخِيفَ عليهم من الموت، هنا يجب على كلّ القادرين ـ بنحو الوجوب الكفائي ـ أن يُنقِذوا هؤلاء الأولاد من الموت بالنفقة عليهم، ولكن الأب لا يكون ضامناً لهذه النفقة، وذلك لعدم توكيله للمحسنين أن ينفقوا على أولاده ويحتسبوا ذلك دَيناً عليه، وإنما أقدم المؤمنون بالنفقة بإيجابٍ مِن عند الله تعالى، فإذن هم يستحقّون الأجرَ والثواب منه تعالى .
وبذلك اتّضح الفرقُ بين الصورتين .

مسألة 28 : وجوب تطهير المصحف مختصّ بمَن نَجَّسَه ـ سواءً نجّسه عمداً أو سهواً أو جهلاً ـ، ولو استلزم صرْفَ المالِ وجب على خصوص المنجِّس لأنه هو السبب في التنجيس وفي صرْفِ المال(231)، خاصةً إذا نجّس الشخصُ مصحفَ نفسِه . نعم، إن لم يطهّره المنجّسُ وجب على كلّ القادرين تطهيرُه . وكذا لو ألقاه في البالوعة، فإن مؤونة الإخراج الواجب هي على الملقي فقط، لأن الضرر إنما جاء مِن قِبَلَهِ، حتى وإن كان الجزء الأخَر للعلّة هو التكليفُ الشرعي، ويُجبِرُهُ الحاكِمُ عليه لو امتنع، أو يستأجرُ آخرَ ولكنْ يأخذُ الأجرةَ منه إن لم يَنوِ التبرّعَ، وإن لم يمكن إجباره وجب انتشاله من النجاسة فوراً على كلّ القادرين .

ـــ
لا شكّ في كون وجوب تطهير المصحف ـ بالعنوان الأوّلي ـ كفائياً ولا يختص بمَن نَجَّسَه، ولو استلزم صرف المال وجب، أيضاً بنحو الكفاية .
هذا ولكننا قد ذكرنا سابقاً ـ فيمن نجّس المسجد ـ أنّ الضامن للتطهير والاُجرة هو المنجّس، وقلنا إنه هو مقتضى العدل، وهو المسبّب للنجاسة والاُجرة . وتكليفُ صاحب المصحف بالاُجرة إضرار له بغير جُرْمٍ ارتكبه، يقول اللهُ تعالى[ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ][1]، خاصّةً إذا سبّبت النجاسة نقصاً في قيمة المصحف الشريف، أو سبّب التطهير نقصاً فيه . نعم لو قصّر المنجّسُ في التطهير ولم يطهّره لوجبت الإزالة على كلّ القادرين رفْعاً للهتك والمهانة عن كتاب الله جلّ وعلا .
وكذا لو ألقاه في البالوعة مثلاً لوجب على نفس الملقِي تخليصُه منها لعين ما ذكرناه من أنه هو المسبّب، وأنه هو مقتضى العدالة .. نعم لو قصّر في انتشاله من النجاسة لوجب على كلّ القادرين العمل على انتشاله .
لا يقال : إنّ السبب الحقيقي لوجوب انتشاله هو المولى تعالى، فلولاه عزّ وجلّ لما وجب انتشالُه ولأبقيناه في البالوعة، فدفع إجرة العمّال للإنتشال يجب أن يكون على المولى تعالى لا على الملقي، نعم الملقي يجب عليه أن يعطيه المثل فقط .
فإنه يقال : كان يجب عليه قبل أن يلقي أن يسأل ماذا يترتّب على الإلقاء من آثار، فسيقال له الإنتشال قطعاً ـ رفْعاً للهتك والمهانة ـ حتى ولو اقتضى الأمرُ عمّالاً واُجرة، فجهلُه لا يرفع عنه آثار فعله عقلاً . وقد ذكرنا دليل ذلك قبل قليل، وقلنا إنّ على الإنسان أن يتعرف على ما سيترتّب على فعله من اُمور، وجهلُه لا يرفع عنه الآثار ... ولذلك لا ينبغي أن يقال إنّ السبب الحقيقي في لزوم التطهير هو الله تعالى، فلولا أمْرُه عزّ وجلّ لما وجب التطهير والأجرة، ولاكتفينا بالمثل فقط، فراجع ... المهم هو أنّ السبب الحقيقي والتامّ هو المنجّس وليس المولى تعالى وقانونَه .

مسألة 29 : إذا كان المصحف المتنجّسُ للغَير، فهل يجب تطهيره من دون إذن صاحبه ؟ أو هل يجوز ؟
الجواب هو أنه إن كان في وجود النجاسة هتك لكتاب الله ومهانة له فلا شكّ في وجوب تطهيره فوراً، وعليه فإن أمكن إرشادُ المالك إلى النجاسة ليطهّرها هو بنفسه وجب الإرشاد والتطهير، طبقاً لقاعدة عدم جواز التصرّف بمال الغَير إلاّ بإذنه، وإن رفض التطهير فإن أذن بإزالة النجاسة فح يجب تطهيره فوراً، وإن لم يأذن وجبت إزالة النجاسة عن المصحف مع القدرة فوراً ورغم أنفه، فإنه ليس للإنسان الحريّةُ في إهانة كتاب الله عزّ وجلّ، لا بل إنّ المالك الحقيقي للإنسان وممتلكاته هو الله سبحانه وتعالى، واللهُ أذِنَ لنا بالتصرّف بها إلى حدّ معقول، لا بشكل مطلق(232)، نعم لا شكّ في ضمان مطهّر المصحف لما يحصل من تلف أو خراب .
وأمّا إن لم يكن في وجود النجاسةِ هتْكٌ ـ كما لو وقعت نقطةُ ماء متنجّسة صغيرة على طرف إحدى أوراق القرآن الكريم ولم تصل إلى نفس الآيات ـ ففي هكذا حالة لا شكّ في عدم جواز تطهير المصحف الكريم، لأنّ في هذا تصرّفاً في مال الغَير بغير إذنه وبلا وجه ولا ضرورة .
وكذلك الأمر تماماً بالنسبة إلى أسماء الله تعالى وأسماء أنبيائه وأوصيائهم (عليهم السلام)، وأمّا أسماء الأشخاص المسمّين بالأسماء المحترمة كبعض أسماء وصفات الله المشتركة كـ مالك ورحيم، وبعض أسماء الأنبياء أو أوصيائهم (عليهم السلام) كـ محمد وعلي وحسن وحسين، فلا بأس برميها في النفايات، لكن بقصد إلقاء أسماء هؤلاء الأشخاص لا بقصد أسماء المعصومين (عليهم السلام)، وكذا يجوز إلقاء ترجمة وتفسير آيات القرآن الكريم في النفايات، لكن أيضاً لا بقصد إلقاء كلام الله، وإنما بقصد إلقاء كلام فلان المترجم أو المفسّر . لكن لا يخفى أنّ الأحوط استحباباً والأليق عدم رمي ذلك بالنفايات .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo