< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/11

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: آخر الكلام في مسألة الترتّب

مسألة 4 : إذا رأى نجاسةً في المسجد وقد دخل وقتُ الصلاة تجب المبادرة إلى إزالتها مقدِّماً لها على الصلاة مع سعة وقتها، ومع الضيق قَدَّمَ الصلاةَ . ولو ترك الإزالة مع سعة وقتِ الصلاة واشتغل بالصلاة عصى لِتَرْكِ الإزالةِ، ويستحقّ العقاب، لكن تكون الصلاةُ صحيحة .

ذكرنا دليل ذلك قبل قليل، وهذا أمر يظهر أنّ عليه الإجماع، ويكفي الإستدلال عليه بأنه مع المزاحمة بين المهمّ ـ وهو الواجب الموسّع ـ والأهمّ ـ وهو الواجب المضيّق ـ يجب تقديم الأهمّ عقلاً، وبتعبير اُصولي : مع المزاحمة بين الواجب التعييني بلحاظ الزمان ـ وهو هنا الإزالة الفورية ـ والواجب التخييري بلحاظ الزمان ـ وهو هنا الصلاة المخيّرة بين الزمان الفعلي والزمان الآتي ـ يقدّم الواجب التعييني الفوري، وبتعبيرٍ آخر : دائماً يقدّم الملاكُ الذي فيه اقتضاء ـ وهو وجوب الإزالة الذي فيه اقتضاء الفورية ـ على الملاك الذي لا إقتضاء فيه ـ وهو وجوب الصلاة الذي لا يقتضي السرعة ـ .
وعليه فمع ضيق وقت الصلاة لا شكّ في أنّ الأهمّ هو تقديم الصلاة، مع المحافظة على عدم سريان النجاسة إلى أماكن اُخرى، ثم يطهرون المكان فوراً .
لكن لو فرضنا أنه مع سعة وقت الصلاة قام فصلّى ـ مع العلم بأنّ واجبَه كان التطهيرَ أوّلاً ـ فلا شكّ في صحّة صلاته ح ـ رغم وقوعه في المعصية ـ وذلك بطريقَين :
1 ً ـ طريق التمسّك بإطلاق الأمر بطبيعيّ الصلاة، وذلك بالتقريب التالي :
لا شكّ أن الأمر بشيء ولو كان الأهمّ ـ كالإزالة ـ لا يقتضي النهيَ عن ضدّه الخاص ـ كالصلاة ـ لا نهياً ذاتياً ـ كالنهي عن الظلم ـ ولا نهياً غَيريّاً ـ كالنهي عن البيع عند النداء لصلاة الجمعة ـ، بل لا يقتضي مبغوضيّتَها ذاتاً، فلا يقتضي فسادها أصلاً، بل لا وجه لذلك عقلاً، فلو فرضنا أنّ تارك الإزالة لا يريد الإزالةَ أصلاً، فهل ترى يقول له المولى تعالى "إذَنْ لا تُصَلِّ، فقد سقطت عنك الصلاة بتركك للإزالة" ؟! لا، وألْفُ لا، فإنّ الأمر بطبيعيّ الصلاة يبقى قائماً بشكل فعلي قطعاً، وذلك بدليل إطلاق الأمر بطبيعيّ الصلاة، فإنّ الأمر بالصلاة غير مقيدّ بعدم وجود الأهمّ أصلاً، المهمّ هو أنّ الصلاة ليست مانعةً عن الإزالة بوجهٍ كي يُبغضها اللهُ تعالى، أي أنّ الصلاةَ ليست دخيلةً في علّة عدم الإزالة، وإنما المقتضي للإزالة ـ وهو إرادة الصلاة ـ غير موجود، فعدمُ العلّةِ مستندٌ إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع، فهو لا يريد الإزالةَ من الأصل، لا بل مع تصميمه على ترك الإزالة لا يبعد أن يصير هذا الأمر الفعلي بالصلاة منجّزاً عليه أيضاً، وذلك لعدم المانع عن التنجيز ح، فيَعْمَلُ المقتضي عَمَلَهُ . المهم هو أنه يكفينا التمسّك بإطلاق الأمْرِ بالصلاة ـ أي قوله تعالى[أَقِيمُوا الصلاةَ] ـ المطلق حتى لحال ترك الأهمّ .
فإن قلتَ : مهما قلتَ وقلتَ، فهناك إشكالات ثلاثة :
الأوّل على صعيد الملاك : إنّ فِعْل الصلاةِ مع سعة وقتها مع ترك الأهمّ ـ كالإزالة والإنقاذ ـ تكون مبغوضةً ومبعّدةً عن المولى وتمرّداً عليه جلّ وعلا .
وثانياً على مستوى الجعل والفعلية : ما معنى فعلية وجوب الصلاة مع فعلية وجوب الأهمّ كالإنقاذ أو الإزالة في نفس الوقت ؟! ألا يعني هذا أننا يجب أن نُقَيِّدَ ـ عقلاً ـ فعليةَ وجوبِ المهمّ بعدم فعلية الأهمّ أو بعدم منجّزيّته ؟ أليس الوجوب الفعلي والمنجّز للأهمّ ـ كالإنقاذ والإزالة ـ يدفعُ الأمْرَ بالصلاة ويطردُها ؟! ولو كان للإنقاذ لسان ألا يقول للمكلّف :"اُصْرُفْ جُهْدَكَ الآن لي لا للصلاة" ؟!
وثالثاً على صعيد الإمتثال : يصعبُ التقرّبُ بعبادةٍ يكون المولى يريد غيرها فعلاً، لا بل كيف يصحّ عقلاً أن يأتيَ الشخصُ بالصلاة وهو يرى الغريقَ يَغْرَقُ، والنجاسةَ في بيت الله باقيةً وهو ينظرُ إليها ؟! ثم على فرض تركه لهما معاً فإنهما سيتنجّزان معاً، وهذا من الأعاجيب !
قلتُ : ما ذُكِرَ غيرُ صحيح على الأصعدة الثلاثة،
أمّا على صعيد الملاك : فلا شكّ أنّ الوجوب الفعلي المنجّز للإزالة لا ينهى نهياً نفسياً عن الصلاة فتصير الصلاة مبغوضةً ـ في مرحلة الملاك ـ كشرب الخمر، فلا نهي نفسيّ عن الصلاة، لا، بل لا يوجد نهي غيري عن الصلاة كما ورد النهي الغيري عن البيع عند النداء لصلاة الجمعة، ورغم ورود نهي غيري عن البيع عند النداء لصلاة الجمعة يصحّ البيع بلا شكّ ـ رغم الإثم والمعصية ـ وذلك لعدم النهي النفسي عن البيع، فكيف ولم يُنْهَ عن الصلاة ـ مع وجود الأهمّ ـ لا نهياً نفسياً ولا نهياً غيرياً ؟! بل هذا مستنكر عقلاً، ولم يثبت نقلاً .
وأمّا على صعيد الجعل والفعلية : فإنّنا ذكرنا قبل قليل أنّ الأمر الغَيري ـ بالإزالة مثلاً ـ لا يقتضي النهيَ عن ضدّه الخاصّ ـ كالصلاة ـ لا بل العقلُ يستنكر أن ينهى الأهمُّ عن المهمّ إن لم يرد الإنسان أن يفعل الأهمّ، لا بل العكس هو الصحيح، فإنّ الإنسان إذا كان مصمّماً على ترك الإزالة المحرّم، فإنّ العقل يحكمُ برجوع التنجيز إلى الوجوب الفعلي للصلاة، لعدم المانع ح من تنجيز وجوب طبيعيّ الصلاة عليه، كي لا يقع الإنسانُ في معصيتين وقبيحين . وبتعبيرٍ آخر : إنما لا يتنجز الوجوب الفعلي ـ للصلاة مثلاً ـ لأحد مانِعَين معروفَين وهما : عدم العِلْم، وعدمُ القدرة العقلية أو الشرعية، ومن مصاديق عدم القدرة الشرعية وجودُ مزاحمٍ أهمّ أو مساوي ـ فوجود المزاحم الأهمّ أو المساوي يشكّل معجّزاً عن فعل الضدّ المهمّ ـ فمع العلم بالوجوب الفعلي للصلاة ومع عدم وجود مانع عملي فعلي من الصلاة يجب أن يتنجّز الوجوب الفعلي للصلاة، وبالتالي لو ترك الإزالةَ والصلاة أيضاً فإنه يستحقّ عقابَين.
وبتعبيرٍ آخر : لا شكّ أنك لاحظتَ أننا وإن قلنا بلزوم الإزالة من باب تقديم الأهمّ، ولكن هذا لا يعني أنّ المكلّف إن اشتغل بالإزالة فإنّ الأمر الفعلي بالصلاة يسقط، لا، أبداً، فإنه لا وجه لسقوط فعلية الأمر بالصلاة، لا عقلاً ولا تكويناً، أو قُلْ : لا وَجْهَ لئَنْ يُبْطِلَ لزومُ تقديمِ الأهمّ الجعلَ أو الفعليةَ، وإنما يبقى الأمر الفعلي بالصلاة قائماً باقياً عقلاً، ولذلك لن يكون الإشتغال بالصلاة محرّماً في ذاته أصلاً، بل لا وجه لذلك . وأيضاً لن يحصل تعارض في مرحلة الجعل بين الوجوب التنجيزي للإزالة والوجوب الفعلي الغير منجّز للصلاة .
أمّا ما قد يتوهّم من لزوم تقيّد الوجوب الفعلي للمهم بعدم وجود الأهمّ، فهذا لا يتصوّر إلاّ في مرحلة الجعل، كما نقول إن الوجوب الفعلي للحجّ مقيّدٌ بالإستطاعة، وإنّ الوجوب الفعلي لصلاة الظهر مقيّدٌ بالزوال، فالتقييدات حقيقةً تكون في مرحلة الجعل، فبناءً على التوهّم المذكور يجب أن يكون وجوب الصلاة مقيّداً في مرحلة الجعل بعدم وجود أمر بالأهمّ .
فجوابه :
أوّلاً : إنّه لا مانع عقلاً من فعلية كلا الوجوبين عند تحقّق شروطهما، ولا مشكلة أصلاً في ذلك، على أيّ صعيد،
ثانياً : إنّ تقيّد وجوب الحجّ والصلاة بالإستطاعة والزوال يعني دخالتهما في مَلاكَي الحجّ والصلاة، فالله تعالى لا يحب من الفقير أن يقترض ليذهب إلى الحجّ، ولا يحبّ الإتيان بصلاة الظهر قبل الزوال، وهكذا .. ولكن في مثال المهم والأهمّ فلماذا لا يحب الله تعالى الإتيان بالصلاة في حال وجود الأهمّ ؟! مع أنّ الأهمّ هو خارج عن الصلاة وحقيقتها ـ بخلاف مثالَي الحجّ وصلاة الظهر ـ والمفروض أنّ المكلّف لا يريد الإنقاذ ولا الإزالة ! فما هو الوجه ح في تقيّد وجوب المهمّ بعدم الأهمّ ؟! ألا يعني هذا أن يترك الصلاة أيضاً، أي أن يرتكب معصيةً اُخرى أيضاً بلا أيّ وجه ؟! أليس هذا من أعاجيب الاُمور ؟!
ثالثاً : إن فعلية حكمٍ ما هو إلاّ وليد الجعل وتحقّق كافّة شروط الفعلية، فتتحقّق ح فعليةُ الحكم تكويناً، وذلك لتمامية ملاك فعلية الحكم،
رابعاً : لا دليل ـ إثباتاً ـ على تقييد وجوب المهمّ بعدم وجود الأهمّ .
وأمّا على صعيد الإمتثال : فقد عرفتَ أنه لن يكون الإشتغال بالصلاة محرّماً في ذاته أصلاً، بل لا وجه لذلك، وعرفتَ أنه لا نهي عن الصلاة بوجهٍ، وإنما يوجد أمر فعليّ بالصلاة فقط، غير منجّز، فلا تزاحم أصلاً، حتى لو قلنا إنهما سيتنجّزان معاً، فيجب أن تصحّ الصلاة بلا شك، حتى لو قلنا إنّ وجوب الصلاة لن يتنجّز حتماً، وإنّ المنجّز هو فقط الأهمّ، بمعنى أنّ الأهمّ يكون منجّزاً مطلقاً والمهمّ يكون تنجيزُه غيرَ مطلق، فلن يحصل تزاحم على أيّ حال، فينوي المكلّفُ نيّة التقرّب لأداء مصداق من مصاديق طبيعي الصلاة، فيحصّل طبيعي الصلاة بهذا الفرد الخارجي .
وما ذكرناه من نظرية يعبّرون عنها بـ (نظريّة الترتّب) التي أظنّ أنهم أجمعوا عليها بعد المحقّق النائيني .

2 ً ـ طريق التمسّك ببقاء ملاك الصلاة، وذلك بالتقريب التالي :
إنّ المقتضي لصحّة الصلاة موجود، وهو الملاك، ولذلك يجب إيجادها ـ لولا المانع ـ لتمامية المصلحة فيها عقلاً، مع عدم وجود مفسدة في ذاتها أصلاً، ولذلك مع التصميم على ترك الأهمّ يحكم العقل بترجيح الصلاة على عدمها، فنتمسّك بهذا الملاك لتصحيح الصلاة، ويستحقّ بالتالي الثواب على الإتيان بالصلاة ـ رغم استحقاقه العقوبة على ترك الأهمّ ـ بل لا وجه لسقوط ملاكها ـ لا عقلاً ولا تكويناً ـ بسبب وجود الأهمّ، ذلك لأنّ ملاكها تكويني لا وجه لسقوطه بالغَير[1].
وقد شرحنا هذه الأدلّة في شرحنا على الحلقة الثالثة من حلقات الاُصول في بحثَي الضدّ والترتّب مطوّلاً فراجع .



[1]أرجو العفو عن هذا التطويل، فإنه متعمّد، وذلك لأنّ هذه المحاضرات هي لطلاّب بحث الخارج، لا للفقهاء والمجتهدين، فيجب أن يتعلّموا كلّ المصطلحات، ليفهموا كلّ كلمات العلماء، خاصّةً في الأحكام الخطيرة والمسائل الاُصولية المهمّة .. فحينما قلتُ مثلاً : "وأيضاً لن يحصل تعارض في مرحلة الجعل .." اُريد أن اُذَكّر الإخوةَ الطلبة الأعزّاء أنّ التعارض إنما يكون في مرحلة الجعل ـ لا في مرحلة الإمتثال ـ ولا تعارض بين قول المولى تعالى[اَقيموا الصلاةَ] وقوله[وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] في مرحلة الجعل، وإنما هما في رتبةٍ واحدة في عالم الجعل، وليسا طوليين ـ كما في الأمر بالوضوء والأمر بالتيمّم فإن الأمر بالتيمّم هو في طول الأمر بالوضوء، ولذلك إن وُجِدَ الماء ولم يكن هناك مانع من استعماله ورغم ذلك تيمّم الشخصُ كان تيمّمه باطلاً بالإجماع ـ وإنما يكون التنافي بين الوجوب الفعلي للصلاة والوجوب الفعلي للإزالة، فقط في مرحلة الإمتثال، أي أنه يقع تزاحم فقط، بل إنّ التزاحم يتضمّنُ بقاء الجعلين ويكونان أيضاً فعليين، إنما إن كان أحدهما أهمّ من الآخر فإنه يقدَّمُ على المهمّ، وهذا كاشف عن بقاء الحكم الفعلي الآخر (المهمّ) ... لهذا وذاك أضْطَرُّ أحياناً للتطويل المفيد جداً، فإنه درس اُصول مهمّ، وهذا البحث هو من أهمّ موارد تطبيقات درس الاُصول . .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo