< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/02

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: المتنجّس الثاني لا ينجّس وبعض الأحكام الأخرى

مسألة 11 : الأقوى أن المتنجِّسَ ـ إذا كان يحمل نفسَ قذارةِ النجَسِ ولو مخفّفة بالماء أو بغير الماء ـ منجِّسٌ كالنجَس تماماً، ويجري عليه جميع أحكام النجس، فكما إذا تنجس الإناء بالولوغ يجب تعفيره، فكذا إذا تنجس إناء آخر بملاقاة هذا الإناء أو صُبَّ ماءُ الولوغ في إناء آخر فإنه أيضاً يجب تعفيرُه، وذلك لوجود علّة وجوب التعفير فيه، وهو وقوع نفس الجراثيم والقذارة فيه . وكذا إذا تنجَّسَ ثوبٌ بالبول فإنه يجب غسله مرّتين فكذا إذا تنجس ثوب آخر بملاقاة هذا الثوب بحيث وصلت نفس قذارة البول ـ حتى ولو كانت كميّةُ البول قليلة أو كانت مخفّفة بالقليل من الماء ـ إلى الثوب الثاني فإنه أيضاً يجب تعددُ الغسلِ فيه، وكذا إذا تنجس شيءٌ بغسالة البول ووصلت نفس قذارة البول ـ من الغسلة الاُولى ـ إلى الشيء الآخر فإنه بلا شكّ يجب فيه التعدد .
نعم إن غُسّل موضعُ البول مرّةً واحدة ثم عند تغسيله المرّة الثانية تبعثر الماء إلى الثوب مثلاً، فإنه ح يجب غسل الثوب مرّة واحدة فقط، وذلك لوضوح العلّةِ في ذلك، وهو أنه قد غُسّل موضعُ البولِ مرةً سابقاً فيجب تغسيله مرّة واحدة اُخرى فقط، فإذن يجب أن يكون ماء الغسالة ـ أي الماء الذي نُطَهّر به للمرة الثانية ـ له نفسُ حكم الغسلة الثانية . وكذا لو لم يحملِ المتنجّسُ القذارةَ بأن كان صاحبُها قد نشّفَها مثلاً ثم لاقت محلاّ رطباً بالرطوبة المسرية فإنّ الأحوط ح تغسيله كما لو لم تُنَشّفِ النجاسة، وذلك لاحتمال بقاء أجزاء من النجاسة، أو قلْ يجب أن نستصحب بقاء نفس النجاسة، وح يجب تطهير المحلّ الملاقي كما لو كانت عين النجاسة باقية .
نعم لا شكّ في أنّ المتنجّس الثاني لا ينجّس، لكن إذا تنجّستْ يدُك اليمنى فنشّفتَها بمحرمةٍ مثلاً ـ أي أزلْتَ عنها النجاسةَ عُرفاً ـ فوضعتَها على يدك اليسرى الرطبةِ برطوبة مسرية، فإنك يجب عليك الإحتياطُ في هذه الصورة واعتبارُ اليسرى متنجّسةً ـ كما قلنا قبل قليل ـ لكن إن نشّفتَ يدَك اليسرى ـ بمعنى إزالة النجاسةِ المحتمَلة إزالةً عرفية ـ ووضعتَها على ثوبٍ رطبٍ برطوبة مسرية فإنك يجب أن تستصحب طهارةَ الثوب، وهذا يعني أنّ المتنجّس الثاني لا ينجّس .

هذه المسألة عقلية محضة، ولذلك يعرفها كلّ العوامّ، فلا شكّ أنّ العِبرة عقلاً هي في انتقال مادّة النجاسة إلى الطرف الآخر، حتى وإن حصل انتقال النجاسة بعد مئة مرّة من التنقّلات من طرف إلى طرف حتى خفّت كثيراً، وحينما يأمرنا الشارع المقدّسُ بالتطهير بالكيفية الفلانية فإنما يُرشدنا إلى أنّ القذارة الفلانية ـ حتى ولو خُفّفت بالقليل من الماء ـ لا يزيلُها إلاّ التطهيرُ الفلاني، لاحِظْ ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال : سألته عن المكان يغتسل فيه من الجنابة أو يبال فيه، أيصلح أن يُفْرَشَ ؟ فقال : ( نعم، إذا كان جافّاً )[1]، ورواها علي بن جعفر في كتابه . فإنك إن تأمّلتَ فيها وسألتَ نفسَك : لماذا لا يصلح أن يفرش في المكان الذي يُغتسَلُ فيه من الجنابة مثلاً، مع أنّ نجاسة المنيّ قد خَفّت كثيراً لكثرة ما نزل من الماء بالغُسل ؟ ولن ترى جواباً إلاّ أنّ الماء القليل الذي بقي على الأرض والذي فيه شيءٌ من آثار المنيّ ينجّس الثياب والبدن . وهذا يعني أنّ النجاسة المخفّفة، لها نفسُ أحكام النجاسة المركّزة . وبتعبير آخر : لا فرق في النجاسة بين كثيرها وقليلها، أقصد أنّ هذا القليل لو خُفّف بامتزاجه بالماء فلا شكّ في بقاء نفس حكم الكثير المكثّف .
ولسنا بحاجة بعد وضوح الأمر أن نذكر ما قاله السيد محسن الحكيم في مستمسكه ولكن مع ذلك سنذكره لما فيه من فوائد، قال تعليقاً على قول السيد كاظم اليزدي في العروة (الأقوى أن المتنجِّسَ منجِّسٌ) قال : (على المشهور شهرة عظيمة، بل لا خلاف يعرف فيه إلا من الكاشاني وإن كان قد يظهر أيضاً من محكي السرائر، بل عن جماعة نقل الإجماعِ على التنجيس .. بل صريح المحكي من كلام جماعة منهم دعوى الضرورة على أنّ المتنجّس ينجّس . ويشهد به ـ مضافاً إلى استفادته مما دل على سراية نجاسة الأعيان النجسة إلى ملاقيها، فإنّ المرتكز في ذهن العرف أن السراية عرفاً من أحكام مطلق النجاسة لا النجاسة الذاتية خاصة، وكما لا نحتاج إلى دليل على السراية في كل واحدة من النجاسات بالخصوص، بل يُكتفَى بما دل على السراية في بعضها اِلغاءً لخصوصية المورد عرفاً ...
نعم قد يستشهد لمذهب الكاشاني بروايات منها : صحيحة العيص : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر، وقد عرق ذكره وفخذاه قال (عليه السلام): ( يغسل ذكره وفخذيه )، وسألته عمَّن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده، فأصاب ثوبه يغسل ثوبه ؟ قال (عليه السلام) : ( لا )[2]، ومنها : صحيحة حكم بن حكيم قال : قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): أبول فلا أصيب الماء، وقد أصاب يدي شيءٌ من البول فاَمسَحُه بالحائط وبالتراب ثم تعرق يدي فاَمسحُ وجهي أو بعضَ جسدي أو يصيب ثوبي ؟ فقال(عليه السلام) : ( لا بأس به )[3]، ومثلُها روايةُ سماعة قال : قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) : إني أبول فأتمسح بالأحجار فيجيء مني البلل ما يفسد سراويلي ؟ قال(عليه السلام) :( ليس به بأس)[4](إنتهى) .

المتنجّسُ الثاني لا ينجّسُ لكنْ بشروط :
إذا حصل شكٌّ في انتقال مادّة النجاسة من المتنجّس الثاني إلى شيء آخر، فإنك يجب أن تستصحب طهارة الشيء الملاقَى، لكنْ بالتوضيحِ التالي : إذا تنجّستْ يدُك اليمنى فنشّفتَها بمحرمةٍ مثلاً ـ أي أزلتَ النجاسةَ عُرفاً ـ فوضعتَها على يدك اليسرى الرطبةِ برطوبة مسرية، فإنك لن تعلم بانتقال مادّةِ النجاسة إلى اليد اليسرى، ومع ذلك يجب الإحتياط واعتبارُ اليسرى متنجّسةً، وذلك لوجود احتمال عقلائي ببقاء مادّة النجاسة في اليمنى ولو مخفّفة، واحتمال انتقالها إلى اليسرى، لكن إن نشّفتَ يدك اليسرى ـ بمعنى إزالة النجاسة المحتمَلة إزالةً عرفية ـ ووضعتَها على ثوبٍ رطبٍ برطوبة مسرية فإنك يجب أن تستصحب طهارةَ الثوب، وذلك لبُعد انتقالِ مادّةِ النجاسة إلى الثوب، وهذا أمرٌ عقلائي جداً ومقبول عندهم، وهذا يعني أنّ المتنجّس الثاني لا ينجّس، باعتبار أنّ اليد اليمنى بعد تجفيفها تُعتبَرُ المتنجّسَ الأوّلَ، واليسرى تكون المتنجّسَ الثاني .

مسألة 12 : قد مَرَّ أنه يُشترَطُ في تنجس الشيء بالملاقاة سراية النجاسة إليه، فعلَى هذا لو فُرِضَ جِسمٌ لا يتأثر بالرطوبة أصلاً ـ كما إذا دهن على نحو إذا غمس في الماء لا يتبلل أصلاً ـ يمكن أن يقال : إنه لا يتنجس بالملاقاة، ولو مع الرطوبة المسرية، ويحتمل أن تكون أرْجُلُ الزنبور والذباب والبق من هذا القبيل.

ما ذكره في المتن محتمل جداً، وقد تعرّضنا له قبل قليل في الزئبق، ولكننا في موارد وجود احتمال معتدٍّ به بانتقال النجاسة إلى الطرف الملاقي فإننا نحتاط وجوباً . نعم إن كان احتمالُ انتقال النجاسة ضعيفاً فإننا ينبغي أن نستصحب طهارةَ الطرف الملاقي للنجاسة .

مسألة 13 : الملاقاة في الباطن لا توجب التنجيس، فالنخامة الخارجة من الأنف طاهرة وإن لاقت الدم في باطن الأنف، نعم لو أدخل فيه شئ من الخارج ولاقى الدم في الباطن فالأحوط فيه الإجتناب

مسألةُ نجاسة الدم في باطن الإنسان والحيوان المأكول اللحم من مشكلات المسائل الفقهية، ولم أحظَ بتحليل عقلي لها، بمعنى أنّي لم أعرف أنّ ملاقاة الدم في باطن الإنسان هل ينجّس أم لا، أم أن النجاسة تحصل ولكن الدم في باطن الإنسان معفوّ عنه ؟ ولم أعرف بنحو الدقّة أنّ الدم المتخلّف في الذبيحة لِمَ يكونُ دائماً طاهراً وحلالاً ـ حتى وإن خرج منه قليل من الدم لكون الحيوان مريضاً ورأسُه في الأعلى ـ كما لو وقع في بئر مثلاً ـ، والدمُ المسفوح نجسٌ وحرام الأكل حتى ولو خرج منه دم كثير ـ كما لو كان رأسه إلى الأسفل ـ ؟! وهل أنّ القضية مربوطة بالقذارة النفسية ؟ أظنّ قويّاً ذلك . على أيّ حال نحن عبيد الله، وليس لنا إلاّ التسليمُ لأحكامه الشرعية .
قال السيد الحكيم في مستمسكه : ( بل لولا ظهورُ التسالمِ على الحكم بنجاسة الأعيان النجسة في الداخل لأمكن القول بطهارتها ما لم تخرج، لأنّ أدلّة نجاستها لا إطلاق فيها يشمل حال كونها في الداخل ) .
المهم هو أنه يجب الحكمُ ـ ولو بنحو الإحتياط الوجوبي ـ بنجاسة النخامة التي خرجت بعدما لاقت الدمَ في باطن الأنف، وذلك لقذارتها بالوجدان ولو لملامسة الدم في الباطن أوّلاً ثم خروجها، وليس لنا أن نقول غير ذلك .


[2] أقول : هذه مخالفة لكلّ روايات التنجّس بالنجاسة، فلا يمكن الأخذُ بها، إلاّ أن تُحمَلَ الروايةُ على ما لو لم يُعلم بإصابة الثوبِ نفسَ العرقِ المتنجّس، فتُستصحَبُ طهارةُ الثوب . .
[3] ولم يأمرْه بالتطهير، ولن نرى سبباً لذلك إلاّ زوال النجاسة بحيث لن تعود يدُه تنجِّس، وإن كانت هي بنفسها متنجّسة . ولك أن تقول : مع الشكّ في انتقال مادّة النجاسةِ إلى الوجه مثلاً يجب استصحابُ طهارته . وهذه الرواية تذكّرُنا بمطهّرية الأرض .
[4] وهي كالرواية السابقة، فإنك لن تجد سبباً لقوله عليه السلام ليس به بأس إلاّ عدم تنجيس المتنجّس الذي لا يحمل مادّة النجاسة، ومع الشكّ في انتقال مادّة النجاسة يجب استصحابُ طهارة السراويل .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo