< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/01/24

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الشكّ في خروج الدم

إذا شككنا في خروج الدم فلا شكّ ولا إشكال في لزوم استصحاب بقائه في الداخل وعدم خروجه، وبالتالي يجب الحكم بطهارته .
ـ إذا علمنا بخروج بعضه ثم بدخوله ثانيةً فهو نجس لا محالة، فإنّ النجس إذا دخل إلى باطن البدن لا يطهر .
ـ إذا بقي الدم في الباطن ولكنه لم يخرج ولو لردّ النفس أو لكون رأس الذبيحة إلى الأعلى فلا شكّ في طهارته وذلك لعدم اشتراط خروج المقدار المعتاد من الذبيحة، وإلاّ لحرمت الذبيحة المريضة أو المتردّية ونحوُهما إذا لحقها صاحبُها فذبحها قبل موتها ولم يخرج منها المقدار المعتاد منها لشدّة ضعفها كما هو المشاهَد في الطيور أيضاً، فإنه لا دليل أصلاً على وجوب أن يخرج المقدار المعتاد من الذبيحة، بل السيرة على عكس ذلك، فالصياد كثيراً ما، يلحق على الطير على آخر أنفاسه فلا يخرج منه دم إلاّ أقلّ القليل .
ـ إنك إذا نظرت إلى روايات موردِ ما إذا تعذّر ذَبْحُ الحيوان أو نحرُه ترى بأنّ الروايات الصحيحة المستفيضة تقول بأنك تنحره أو تذبحه حيث تستطيع، كما لو وقعت الدابّة في بئرٍ ورأسُها إلى الأعلى ولم تستطع أن تذبحها أو تنحرها في مذبحها فإنه يجوز لك أن تجرحها كيفما تستطيع وأينما تستطيع، وبتعبير الروايات المستفيضة "فإنه يُحِلُّها ما يُحِلُّ الوحشَ" طبعاً بعدما يسمّي،
عن محمد بن يعقوب عن أبي على الأشعري عن محمد بن عبد الجبار وعن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن صفوان عن ابن مسكان عن محمد الحلبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): في ثور تعاصى فابتدره قوم بأسيافهم وسموا فاتوا عليا عليه السلام فقال: هذه ذكاة وحية ولحمه حلال.[1]
مع أنه قد يبقى بعضُ الدمِ في عنق الدابّة في هكذا حالةٍ ولو لشدّة ضعف الدابّة أو لردّ نفسها أو لكون الرأس إلى الأعلى ومع ذلك لم ينبّهنا الأئمةُ المعصومون (عليهم السلام) على نجاسة الدم واللحم في هكذا حالة .
فإن قلتَ : لكنْ هذا الذبحُ أو النحر في غير المحلّ الأوّلي لا يحلّل الدابّة إلاّ في حالة الضرورة.
قلتُ : هذا صحيح، ولكن الضرورات لا تطهّر الدمَ واللحمَ . وعلى قول القائل بلزوم خروج مقدار الدم المعتاد ينبغي القول بأنه لا يَحِلّ الأكلُ في هذه الحالة ما لم يكن مخمصة .
ولذلك ينبغي القول بطهارة دم الدابّة الذي بقي في عنق الذبيحة ولم يخرج أصلاً ولو لردّ النفس ونحو ذلك من الحالات الشبيهة بحالة التردّي في البئر والرأسُ من فوق .
واعلم أنّه يُستبعَدُ فرضُ رجوعِ الدم من الخارج إلى الوريدين لعدم ملاحظة هذا الأمر عادةً مِن قِبَلِ القصّابين، إضافةً إلى أنّ النفَس لا دخل له بمجرى الدم ـ أي الوريدين ـ ليجذبه إلى داخل الوريدين، فلا شكّ إذن أنّ مرادهم هو أنّ النفَس هو الذي جذب الدم الخارجي إلى مجرى الهواء .
ولا بأس أن نذكر ما علّقه السيد محسن الحكيم في مستمسكه على قول المصنّف (إذا رجع دم المذْبَح إلى الجوف لِرَدّ النفسِ أو لكون رأس الذبيحة في علوٍّ كان نجساً) لما فيه من فوائد فنقول قال : "كما نصّ عليه جماعةٌ منهم المحقّق والشهيد الثانيان والمقداد والصَيْمَري[2] على ما حُكِيَ عنهم . أما في صورة الرجوع من الخارج إلى الداخل بالنفَس ونحوه ـ كما هو ظاهر المفروض في المتن ـ فلأن الدم الخارج نجس قطعاً، فإذا رجع إلى الجوف بقي على نجاسته، بل ينجس به كل ما يلاقيه من دم وغيره . وحينئذ فإن عُلِم المتخلِّفُ بعينه، ولم تُعلم ملاقاتُه لما خرج ودخل إلى الجوف ثانيةً فهو طاهر، ولو علم بملاقاته له فهو نجس . ولو لم يعلم بعينه، فتردد بين كونه من المتخلف الطاهر وكونه من الداخل إليه (النجس)، فإن كان طرفاً لعلم إجمالي جرى عليه حكم الشبهة المحصورة، وإلا جرى عليه حكم الشبهة البدوية الآتي في المسألة السابعة .
وأما في صورة الرجوع ثانيةً من الداخل إلى الخارج فالمظنون أنه لا كلام في نجاسة الراجع .. نعم في صحيح الشحام ( إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به) ومقتضى ظهوره في خروج الدم على النحو المتعارف حرمة الذبيحة مع عدم خروج المقدار المتعارف، وكونها ميتة"(إنتهى بتصرّف قليل للتوضيح) .

قولُ السيد اليزدي في عروته (ويشترط في طهارة المتخلِّف أن يكون مما يؤكل لحمُه على الأحوط، فالمتخلّف من غير المأكول نجس على الأحوط )[3] الوجه في نجاسته هو أنّ المراد من تذكية غير مأكول اللحم هو طهارة خصوص جلدها للإستفادة منه !! ولا دليل على استفادة طهارة دمها المتخلّف فيها أيضاً، وأنّ المتبادر من الدم المتخلّف في كلام الأصحاب هو من مأكول اللحم !! إضافةً إلى لزوم الرجوع إلى عموم نجاسة الدم !!
أقول : هنا عدّة كلمات :
أوّلاً : قال الله تعالى﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[4]
قد يقال بأنّ الدم المتخلّف في الذبيحة المحلّلة الأكل طاهر بالإجماع، والدمُ المسفوح كلّه نجس وشربه حرام ـ أي من مأكول اللحم ومن محرّمه ـ، وأمّا في غير ذلك فيجب الرجوع إلى عموم نجاسة الدم . أقول : هذا ليس دليلاً، إنما اَوردناه لِذِكْرِ بعضِهم هذه الآيةَ في هذا المجال، فإنّ النظر في الآية الكريمة إنما هو إلى حليّة الأكل، وكلامُنا في الطهارة والنجاسة .
ثانياً : سبق الكلام في عدم صحّة ادّعاء (عموم نجاسة الدم، إلاّ ما استثني)، وقلنا إنه لا دليل على ذلك أصلاً .
ثالثاً : من المعلوم أنّ الكلام فيما عدا الكلب والخنزير .
رابعاً : إنّ تذكية السباع الغير مأكولة اللحم إشارةٌ عرفية إلى طهارة دمها المتخلّف أيضاً، وليس فقط إلى طهارة جلودها، هكذا يفهم الناس من عروض التذكية الشرعية عليها.
فقد روى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن (محمد)ابن أبي عمير عن (عبد الله) ابن بكير (بن أعين، فطحيّ المذهب إلاّ أنه ثقة من أصحاب الإجماع، وهو ابن أخ زرارة) قال : سأل زرارةُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفَنَك[5]والسنجاب[6] وغيرِه من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنه إملاء رسول الله (ص)« أنّ الصلاة في وبر كل شيء حرامٌ أكلُه فالصلاةُ في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تُقبَل تلك الصلاة حتى يصلّيَ في غيره مما أحلّ اللهُ أكلَه»، ثم قال : « يا زرارة، هذا عن رسول الله (ص)، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإنْ كان مما يؤكل لحمُه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكِيّ قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نُهِيت عن أكله وحرُم عليك أكلُه فالصلاة في كل شيء منه فاسد، ذكّاه الذبحُ أو لم يذكِّه» [7] موثّقة السند، وتخصيصُ الطهارةِ بجلودها فقط إدّعاءٌ بغير دليل .
خامساً : لا شكّ ـ وهو المشهور أيضاً ـ في طهارة جلد السباع المذكّاة ولو قبل الدبغ مع أنها لا تخلو من الدم .
سادساً : إنّ من يريد أن يسلخ جلدَ الذبيحة فسوف يلوّث نفسَه كثيراً بدمها المتخلّف، فإن كان طاهراً ـ كما في الحيوان المأكول اللحم ـ فهو مرتاح، لأنّ القصّاب ينظّف نفسه فقط، وأمّا إن كان الحيوان غير مأكول اللحم وفرضنا نجاسة الدم المتخلّف فيه فيا ويلتاه ! خاصّةً في تلك الأيام السابقة حيث لم يكن يوجد مياه في البيوت، فكيف لم ينبّه أئمّتُنا(عليهم السلام)على نجاسته ـ لو كان نجساً ـ ولو في رواية واحدة ؟!
ولذلك يجب أن يكون الدم المتخلّف في السباع بعد تذكيتها طاهراً ـ ولم أعرف المستشكل في طهارة السباع بعد تذكيتها ـ ولذلك غيّرتُ نفسَ المتن لوضوح بطلانه .
ولعلّه لما ذكرنا قال السيد اليزدي والمعلّقون العشرة على عروته[8] (بأنّ جلد السباع ولحمها ـ أي الغير مأكولة اللحم ـ بعد تذكيتها طاهرة)، أقول : على هذا يجب القول بطهارة الدم المختلط باللحم لكون ذلك من اللوازم العقلية وليس فقط من اللوازم العرفية .
قال الشهيد الثاني في مسالكه "المشهور بين الأصحاب وقوع الذكاة على السباع، بمعنى إفادتها جواز الإنتفاع بجلدها لطهارته، ذهب إلى ذلك الشيخ وأتباعه وابن إدريس وجملة المتأخرين[9]"(إنتهى)، وكذا ادّعى الفاضلُ الهندي ـ في كتابه (كشف اللثام) الشهرةَ على طهارة الحيوان الغير مأكول اللحم إن ذُكّي، وكذا ادّعى الشهرةَ في المسالك والكفاية والمفاتيح وشرحه، بل عن الشهيد وغيره أنه لا يعلم في ذلك مخالف، وفي المفاتيح : أنه مذهب الكل، وادّعى ابنُ إدريس في السرائر الإجماعَ على طهارته إن ذُكّي .
أقول : إن استعمال المسلمين قاطبة لجلودها ـ من الصدر الأول إلى زماننا هذا ـ من غير نكير، وسلخَها وعدمَ الإلتفات إلى نجاسة دمها المتخلّف فيها ! مع اعتبار لحمها طاهراً ! لهُوَ دليلٌ على طهارته، ذلك لأنّ الناس تفهم من تذكيتها طهارتها كلّها، أو قل يتبادر من حكم الشارع بتذكيتها طهارتها كلّها بما فيها الدم المتخلّف، كالدم المتخلّف في المذكّى المأكول اللحم، بحيث يمكن فهم انعقاد الإجماع العملي عليه ـ أي السيرة المتشرّعية ـ وهو أقوى من الإجماع الفتوائي .

ونِعْمَ القولُ ما قاله العلامة الطباطبائي في منظومته قال :
والدمُ في المأكول بعد قذف ما * * * يُقْذَفُ طُهْرٌ قد اُحِلَّ في الدما
والأقربُ التطهيرُ فيما يُحرَمُ * * * مِنَ المذكَّى، وعليه المعظمُ

وأمّا إن احتملت أنّ التذكية تفيد طهارة خصوص الجلود للإستفادة منها فليس لك ح أن ترجع إلى أصالة طهارة الدم المتخلّف في ذبيحة السباع المذكّاة، ذلك لأنّ استصحاب نجاسة دمها قبل التذكية ـ بالإجماع ـ وارد على هذه الأصالة .

وإليك سائر الروايات :
1 ـ فقد روىفي التهذيب بإسناده الصحيح عن الحسين بن سعيد عن (أخيه)الحسن عن زرعة(بن محمد الحضرمي ثقة واقفي) عن سَماعة(بن مِهْران ثقة) قال : سألته عن جلود السباع ينتفع بها ؟ قال : ( إذا رَمَيْتَ وسَمَّيتَ فانتفع بجلده، وأما المَيتة فلا ) موثّقة السند. ولا يضرّ إضمارُها بعد الوثوق بكون المسؤول هو الإمام (عليه السلام)، والمظنون قوياً ـ بحسب سياق روايات التهذيب ـ أنه الإمام الصادق (عليه السلام)، ويحتمل ضعيفاً أن يكون الإمام أبا إبراهيم (أي الكاظم) (عليه السلام) .
وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام)عن جلود السباع فقال : اِركبوها، ولا تلبسوا شيئاً منها تُصَلّون فيه.
فترى الإمام (عليه السلام) يذكر الجلود أو التذكية في الروايات من دون تعرّض لنجاسة الدم المتخلّف فيها، ومن دون تعرّض للزوم دباغة جلدها، وتركُ الأمر هكذا من دون تنبيه فيه شيء من التضليل، وحاشا لأئمّتنا(عليهم السلام)ذلك.


[2] هو ا.لفقيه الجليل الشيخ مفلح بن الحسن بن رشيد بن صلاح الصَيمري البحراني من أعلام القرن السابع صاحب كتاب (تلخيص الخلاف وخلاصة الإختلاف) . قال في الأعيان : الصَيمري نسبة إلى صَيْمَرة . وفي معجم البلدان "هي كلمة أعجمية وهي في موضعين : أحدهما بالبصرة على فم نهر معقل، وفيها عدة قرى تسمى بهذا الإسم، وبلد بين ديار الجبل وديار خوزستان هي مدينة بمهرجان قذف، وهي للقاصد من همدان إلى بغداد عن يساره" . وفي أنساب السمعاني "الصَيْمَري، تطلق هذه النسبة على أهل موضعين : أحدهما منسوب إلى نهر من أنهار البصرة يقال له الصيمري عليه عدة قرى، وأما الصيمرة فبلدة بين ديار الجبل وخوزستان، وسألت بعضهم عن هذا النسب فقال : صيمرة وكوه دشت قريتان بخوزستان" . وقال الشيخ سليمان البحراني "اِنّ المترجَم له أصلُه من صيمر البصرة، وانتقل إلى البحرين وسكن قرية سنم آباد" . وقال الشيخ البلادي البحراني في أنوار البدرين "أخبرني جملة من الثقاة أنه رحمه الله سكن في قرية سلماباد في محلة منها يقال لها صيمر"، فلعل هذا الشيخ قدس سره منها، اِلاّ أن علماءنا المتصدين لذكر العلماء يذكرون أنه في صيمر البصرة ثم انتقل إلى البحرين . وقال في الروضات "وصَيْمَرْ بلد بين خوزستان الأهواز وبلاد الجبل التي هي الواقعة بين آذربيجان وعراق العرب وخوزستان وفارس وبلاد الديلم، وقاعدتها دار السلطنة إصفهان" .
[4] سورة الأنعام.، آية145 .
[5]الفَنَكُ نوع من الثعلب أو من جراء الثعلب التركي، ويطلق أيضاً على فَرخ إبن آوى، وهو غير مأكول اللحم، يُفْتَرَى جِلْدُها أي يُلْبَسُ جِلْدُها فَرواً، وأيضاً الفَنَك هو جِلْدٌ يُلْبَس، وكانوا يُبَطّنون به ثيابَهم . .
[6] السِنجاب حيوانٌ على حدّ اليربوع، أكبر من الفأرة، شَعرُه في غاية النعومة، يُتّخذ من جلده الفراء . .
[8] طبعة الستة مجلّدات/بحث المطهرات/الثامن عشر : غيبة المسلم/مسألة 4 .ص 283 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo