< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تتمة في أركان العرف والعوامل والمناشئ في تأسيسه:

تحدثنا في الدرس الماضي حول أركان العرف، وقلنا أنّ من جملة أركانه القول والفعل وقسمنا العرف إلى قسمين: العرف القولي والمحاوري، والعرف العملي.

وقلنا أنّ المقصود من العرف العملي هو بناء أهل العرف، ويعبر عنه ببناء العقلاء وسيرة العقلاء، وأن المقصود من العرف القولي بناءُ العقلاء في محاوراتهم ومكالماتهم.

وقلنا أن النقطة المهمة هنا أنّ البناء العملي الجاري بين أهل العرف ليس عبارة عن فهمهم ومرتكزات أذهانهم من العناوين والألفاظ في الخطابات؛ بل إنه يتفاوت جداً مع فهمهم، لأنّ البناء العملي هو من قبيل الجري العملي بين أهل العرف، وإن لم يكن مرتكزاً في أذهانهم، أما فهمهم فهو من قبيل التبادر والارتكاز الذهني.

وأشرنا إلى أنه يتفاوت البناء العملي مع الفهم والمرتكزات من جهة أخرى؛ وهي جهة الملاك في كل منهما، لأنّ الملاك في البناء العملي هو سيرة العرف الفعلي المعاصر والمقارن لزمان الاستنباط، بينما الملاك في الثاني (أي فهمهم ومرتكزاتهم) هو فهم أهل العرف المعاصر لزمان الشارع وزمان صدور الخطاب؛ حيث أن الشارع كان يخاطب الناس كأحد أفراد العرف، وهو ملتزم بقواعد عرف زمانه، والخطابات في الحقيقة هي محاورات ذلك الزمان، فهما إذاً متفاوتان من أكثر من جهة.

وهذا البحث يحتاج إلى مزيد من البيان، ولا مجال هنا للإطالة في البحث، ولا بد من مراجعة المباحث والمباني الأصولية المختلفة؛ من الاعتماد على المباني الكلامية - كما يظهر من مبني السيد الإمام الخمنيي- أو عدم الاعتماد عليها كما ذهب إليه البعض.

والاعتماد في الأصول على المباني الكلامية هو من خصائص منهج الإمام الخميني في أبحاثه الفقهية والأصولية، حيث يصل اهتمامه بالمباني الكلامية في بعض الأحيان إلى حدّ يكون فيه واضحاً جداً في ساحة البحث الأصولي؛ فمثلاً يمكن أن يكون الاعتقاد بحكمة اللّه‌ سبحانه وهدايته ورحمته من المصادر لاستنباط القواعد الأصولية .

إنّ من المسائل المهمة جداً تعيين حدود صلاحيات الشارع، إذ ذهب البعض إلى أنّ صلاحيات الشارع واسعة جداً بحيث لا بدّ من الرجوع في كلّ مسألة إلى الشارع وامتثال أمره فيها. وذهب آخرون إلى عكس ذلك؛ فجعلوا صلاحيات الشارع محدودة جدّاً لا تشمل إلاّ تشريع الصوم والصلاة وأمثال ذلك .

ولا شك في أنّه لابدّ من الرجوع إلى المباني الكلامية؛ ليتبين في ضوئها حكم هذه المسألة الخطيرة والمهمة، وهي معرفة حدود صلاحيات الشارع، وقد ذكر الإمام الخميني بعض المسائل وحكم بأنّها خارجة عن حدود صلاحيات الشارع؛ بناءً على أحد المباني الكلامية، فقال:

اعلم أنّ الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحققين كلّها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع أمورهم؛ بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختلّ نظام المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجيّة له وجعله كاشفاً محرزاً للواقع بعد كونه كذلك عند كافة العقلاء، وها هي الطرق العقلائية ـ مثل الظواهر وقول اللغوي وخبر الثقة واليد وأصالة الصحة في فعل الغير ـ ترى أنّ العقلاء كافّة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل على حجّيتها بحيث يمكن الركون إليه إلاّ بناء العقلاء، وإنّما الشارع عملَ بها كأنّهُ أحدُ العقلاء([1] ).

وكذلك نشير إلى ما قاله الشيخ المظفر في سيرة العقلاء وحجيتها:

وعلى هذه السيرة العملية قامت معايش الناس وانتظمت حياة البشر، ولولاها لاختل نظامهم الاجتماعي، ولسادهم الاضطراب؛ لقلّةِ ما يوجب العلم القطعيَّ من الأخبار المتعارفة سنداً ومتناً.

وكذلك ما قاله المحقق النائيني:

الطرق المبحوث عنها فى المقام كلّها طرق عقلائية عرفية عليها يدور رحى معاشهم ومقاصدهم ومعاشراتهم، وليس فيما بأيدينا من الطرق ما يكون اختراعية شرعية ليس منها عند العقلاء عينٌ ولا أثر، بل جميعها من الطرق العقلائية، وتلك الطرق من حيث الإتقان والاستحكام عند العقلاء كالعلم، أي حالها عندهم حال العلم من حيث الإصابة والخطأ، والشارع قرّر العقلاء على الأخذ بها ولم يردع عنها([2] ).

وقال السيد البروجردي في نهاية الأصول:

إنّ حجية الخبر ليست من تأسيسات الشارع قطعاً، بل العمل بالخبر مما استقرّتْ عليه سيرة العقلاء، والدليل عليه هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية القطعية، من غير اختصاصها بطائفة خاصةٍ كالمسلمين([3] ).

فالمبنى الكلامي للإمام و غيره في هذه المسألة هو : أنّ الشارع هو سيد الحكماء و سيد العقلاء، وبالنتيجة لا يحتاج إلى كشف رضى الشارع ورضى الامام المعصوم، لأنّ الشارع بما هو سيد العقلاء ففي بناء رضاه ملحوظ بناء العقلاء.

ولا يمكن أن نتصور أنّ الشارع بما هو أحد الحكماء يعمل عملاً أو يصدر أمراً يؤدّي إلى اختلال نظام المجتمع، وتوقّف رحى الحياة الاجتماعية؛ لأنّ العقل يحكم بأنّ هكذا عمل يؤدّي إلى الفوضى .

فبناءً على هذا المبنى الكلامي استنبط الامام بعض المسائل الأصولية مثل: كون العلاقات الاجتماعية في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها تبتني على الأمارات العقلائية، من قبيل: الظواهر، قول اللغوي، خبر الثقة، قاعدة اليد، أصالة الصحة.. إلخ.

وبناءً على هذا، لا معنى لأنّ يجعل الشارع الحجية لهذه الأمارات؛ لأنّ جعل الحجية في موردٍ يتوقف على أن يكون ذلك المورد فاقداً لها قبل هذا أو أنّه قابلٌ للردع، والحال أنّ الأمارات المذكورة ليست كذلك .فهذا مختصر من المطول الذي يحتاج مراجعة المطولات.

 

تتمة ذكر نماذج من المسائل الفقهية التي يمكن الاستدلال فيه ببناء العقلاء و أهل العرف:

و تطبيق هذا النوع من البناء العملي من أهل العرف موجود في كثير من الموارد الفقهية، مثل سلوك المتشرعة الذي نسميه السيرة المتشرعة؛ وهو نوع من العرف الخاص في غسل الوجه في الوضوء من الأعلى إلى الأسفل، و هذا هو بناء العقلاء في حياتهم الدينية والشرعية، أي أن العقلاء في سيرتهم يغسلون الوجه من الأعلى إلى الأسفل.

وهذا البناء قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً لبعض البلاد الخاصة. مثل بيع بعض المبيعات بالعدد، في حين أن هذا المبيع يباع في بلد أخر بالكيل أو الوزن، كما هو المتعارف اليوم بالنسبة إلى بيع البيض، إذ يباع في بعض البلاد بالوزن وفي البعض خاصة بالعدد... وأمثال ذلك.

وكموضوع تعيين نوع المهر وكيفية أدائه في أمر النكاح، فبعضٌ يعيّنون المهر من الذهب والفضة وبعض آخر يشخصونه من الأراضي والبيوت، وفي مكانٍ آخر يقوم العرف في بعض المناطق على التعامل بالدينار أو الدرهم أو الدولار، وفي كيفية الأداء كذلك يتفاوت بتفاوت الأعراف كقيام العرف بشكل مطرد في بعض المناطق على أخذ قسمٍ من المهر معجلاً وقسماً آخر مؤجلاً، وفي مناطق أخرى يؤدّون المهر بشكلٍ تدريجيٍّ أو عند المطالبة.

فكل هذه الأمور هي مصاديق للعرف العملي الذي يعتمد عليه الشرع، ومصاديق للموارد التي أناط الشارع أمر تشخيصها سعة وضيقاً بيدِ العُرف، ولم يتدخل في تحديدها كالموضوعات الخارجيّة العرفية.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo