< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/07/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تتمة في أركان العرف و العوامل و المناشئ في تأسيسه:

قلنا في الدرس السابق أن المقصود من العرف العملي هو بناء أهل العرف، ويعبر عنه ببناء العقلاء وسيرة العقلاء، وأن المقصود من العرف القولي بناءُ العقلاء في محاوراتهم ومكالماتهم.

والنقطة المهمة هنا أن البناء العملي الجاري بين أهل العرف ليس عبارة عن فهمهم ومرتكزات أذهانهم من العناوين والألفاظ في الخطابات؛ بل إنه يتفاوت جداً مع فهمهم، لأنّ البناء العملي هو من قبيل الجري العملي بين أهل العرف، وإن لم يكن مرتكزاً في أذهانهم، أما فهمهم فهو من قبيل التبادر والارتكاز الذهني.

ويتفاوت البناء العملي مع الفهم والمرتكزات من جهة أخرى وهي جهة الملاك في كل منهما؛ لأن الملاك في البناء العملي هو سيرة العرف الفعلي المعاصر والمقارن لزمان الاستنباط، بينما الملاك في الثاني (أي فهمهم ومرتكزاتهم) هو فهم أهل العرف المعاصر لزمان الشارع وزمان صدور الخطاب، حيث أن الشارع كان يخاطب الناس كأحد أفراد العرف، وهو ملتزم بقواعد عرف زمانه، والخطابات في الحقيقة هي محاورات ذلك الزمان، فهما إذاً متفاوتان من أكثر من جهة.

وكما قلنا فإنّ العرف العملي هو عبارة عن منهج عملي في سلوك الناس، وليس المنشأ فيه هو العامل الطبيعي، وهذا العرف العملي يمكن تطبيقه على عدة موارد مثل ما يمارسه العقلاء في مجتمعهم؛ كالتعاطي في المعاملات، لأن التعاطي في المعاملات إنما يكون من بناء العقلاء وسيرتهم.

ولا شك في أنّ العرف قد يُكشَفُ به الحكم الشرعي الإمضائي في مختلف أبواب الفقه، وفي تعيين مصاديق الأمور الجارية بين أفراد المجتمع، فقد قال الإمام الخميني (قدس‌ سره) في مقام الدليل على صحة المعاطاة:

تدل على صحتها السيرة المستمرة العقلائية من لدُنْ تحقق التمدن والاحتياج إلى المبادلات إلى زماننا، بل الظاهر أن البيع معاطاة أقدم زماناً وأوسع نطاقاً من البيع بالصيغة، فلا ينبغي الشبهة في أن البشر في أول تمدُّنهِ واحتياجه إلى التبادلات كان يبادل الأجناس بالأجناس من غير إنشاء المعاملات باللفظ أو الالتزام بإيقاعها به، وكان الأمر كذلك في جميع الأعصار، سواءٌ كانت المعاملة بين الأجناس أو بينها وبين الأثمان في زمان تعارفها ورواجها، وكانت الأسواق من كل ملةٍ جاريةً على المعاطاة، وقلما يتفق الإنشاء اللفظي في إيقاع نفس المعاملة، وإنْ كان التقاول قبل إيقاعها متعارفاً، وقد كانت متعارفة في عصر النبوة وبعده بلا شبهة، فلو كانت غير صحيحة لدى الشارع أو غير مفيدة للملكية مع بناء العقلاء عليها ومعاملة الملكية مع المأخوذ بها مطلقاً لكان عليهم البيان القابل للردع، ومعه كان اشتهاره كالشمس في رابعة النهار، لأنّ ردعها موجِبٌ لتغيير أسواق المسلمين في المعاملات كما هو واضح([1] ).

و مثل التصرف في مثل الأراضي الوسيعة والأنهار الكبيرة، كما قاله السيد الخوئي بعد ذكر الأدلة المتنوعة، ومن جملتها الروايات والنصوص:

والمتحصل: عدمُ إمكان الاستدلال على هذا الحكم بشيء من الأُمور المتقدِّمة، فالعمدة هي السيرة القطعية المستمرّة، حيث إن الناس يتصرّفون في الأراضي الوسيعة بمثل الاستراحة والتغذي أو الصلاة، وفي الأنهار الكبيرة بالشرب والاغتسال والتوضؤ كما هو المشاهد في الماشين إلى زيارة الحسين (عليه السلام) راجلاً. ولم يَرِدْ ردعٌ عن ذلك كما عرفتَ، فلو كان ذلك من التصرفات المحرمة لردعوا عن ذلك‌ لا محالة. وعلى هذا فإنْ أحرزنا جريان السيرة على ذلك في مورد فلا بدّ من أن نحكم بجواز التوضؤ والصلاة أيضاً كبقية التصرفات فيه، وأما مع الشك في قيامها في موردٍ - كما إذا كان المالك صغيراً أو مجنوناً أو منع الغير عن التصرف في مائه ونهره- فلا مناص من الحكم بحرمة التصرفات الواقعة فيه، لعدم قيام السيرة فيها على الجواز.

والحاصل: أن حرمة التصرف في أموال الناس وأملاكهم مما قد أطبقت عليه الأديان كما قيل، وهو الصحيح المحقق في محله، لأنّ التصرف في أموال الناس من دون إذنهم ظلم وعدوان، وعليه جرت سيرة المتدينين وبناء العقلاء، بل هو من ضروريات الدين الحنيف، مضافاً إلى الأخبار الدالة على عدم جواز التصرف في مال الغير إلّا بطيبة نفسه.

إذن لا بدّ في جواز التصرّف في أموال الغير من العلم برضى المالك وإذنه. نعم إذا أذنَ المالك الحقيقي - وهو الشارع - في التصرّف في مال الغير كما في حق المارّة مثلاً أيضاً يجوز التصرّف فيه، سواءٌ رضي به المالك الصوري أم لم يرض به...

والمقدار الذي يتيقن بقيام السيرة فيه على الجواز إنما هو الأنهار الكبيرة والأراضي المتسعة، فيما إذا كانت بيد ملّاكها وكانوا متمكِّنين من التصرّف فيها، ويسمع إذنهم وإجازتهم فيه ولم يظهر منهم عدم الرضا به([2] ).


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo