< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/07/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: هل الملاكُ في مرجعية العرف عُرفُ زمان الشارع أو عرفُ زمان الاستنباط؟

قد ظهر من المباحث التي قد قدمناها في الدروس الماضية أن الملاك الأساس في تشخيص مقصود الشارع في الكتاب والسنة وتعيين المفاهيم العرفية وتعيين المصاديق هو العرف العام والصحيح والدقيق، وهذا الذي بيناه في السابق فلا نعود إليه،

وأما النقطة المهمة التي لابد من البحث حولها في هذا المجال هي تعيين الزمان في مرجعية العرف ومدخليته في الموارد كلها، والمقصود من الزمان هو زمان الخطاب أو زمان الاستنباط.

وبعبارة أخرى: هل الملاك في مرجعية العرف عرف زمان الشارع الذي يخاطب الناس بألفاظه وزمان الخطاب؟ أو الملاك عرف زمان استنباط الفقيه ولو بعد فصل طويل بينه و بين زمان الخطاب؟ و هل يوجد فرق بين فرض التغيير في عرف زمان الشارع وزمان الاستنباط أم لا فرق؟

هذا بحث مهم لا بد وأن نتعرض له في هذا المقام؛ لأن الفقيه إذا التفتَ إلى الخطابات الواردة في الكتاب والسنة وأراد أن يقف إلى جانب مقصود الشارع من الألفاظ التي استخدمها فيها فإنه يواجه عُرفين: عرف زمان الشارع و عرف زمان الاستنباط، فلا بد له أن يعلم ملاكية أحد العرفين في فهم مقصود الشارع من ألفاظ الخطابات كي يستطيع الاستنباط بدقة.

نعم، في بعض الموارد يجد الفقيه انطباق العرفين على معنى واحد بلا خلاف بينهما، و لا يحتاج الفقيه في هذا الفرض إلى البحث، ولكننا قد نرى في كثير من الموارد فرقاً كبيراً بين المعنى المتعارف في زمان نزول الخطاب وبين المعنى المتعارف في زمان الاستنباط.

والظاهر لمن يتأمل في البحث أنه لا ريب في كون ملاك تعيين مقصود الشارع من ألفاظ الخطابات هو عرف زمان الشارع وزمان نزول الخطاب؛ لأن الشارع - بما قد بينّا سابقاً من كلمات الفقهاء و الأصوليين- هو أحد أهل العرف في خطاباته، و يخاطب الناس بما تعارفوا بينهم آنذاك فيعتبر عرف ذلك الزمان.

و أما في فرض عدم التغيير بتطور الزمان فيمكن التطبيق بين العرفين، لأن مفاهيم بعض الألفاظ المتأصلة في العقل والفطرة ثابتة لا تتغير بتطور الزمان وتبدل الأعصار، كمفهوم العدالة و الظلم والصدق والكذب.

وقد ذكر العلماء هذه النطقة بعنوان الضابطة الأساسية، ولكن قد يعبر عن العرف في بعض الموارد بنفس هذا العنوان و في بعض آخر بعنوان الطريقة العقلائية، وفي موارد أخرى بعنوان الحقيقة العرفية، وإليكم نصوص بعض الكلمات في تلك الضابطة:

قال المحقق النائيني: وقد يعبر عن الطريقة العقلائية ببناء العرف، والمراد منه العرف العام ، كما يقال: إن بناء العرف في المعاملة الكذائية على كذا، وليس بناء العرف شيئاً يقابل الطريقة العقلائية، ولا إشكال أيضاً في اعتبار الطريقة العقلائية وصحة التمسك بها، فان مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو: إما أن يكون لقهر قاهر وجبر سلطان جائر قهر جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم واستمرت إلى أن صارت من مرتكزاتهم، وإما أن يكون مبدئها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت، وإما أن تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظاً للنظام.

ولا يخفى بعد الوجه الأول بل استحالته عادة، وكذا الوجه الثاني، فالمتعين هو الوجه الثالث، ولكن على جميع الوجوه الثلاث يصح الاعتماد عليها والإتكال بها، فإنها إذا كانت مستمرة إلى زمان الشارع وكانت بمنظر منه ومسمع وكان متمكنا من ردعهم ، ومع هذا لم يردع عنها فلا محالة يكشف كشفا قطعيا عن رضاء صاحب الشرع بالطريقة ، وإلا لردع عنها كما ردع عن كثير من بناءات الجاهلية ، ولو كان قد ردع عنها لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله.

ومن ذلك يظهر: أنه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها، فإن عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضاء بها وإن لم يصرح بالإمضاء.

نعم: لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات لأنها من الأمور الاعتبارية التي تتوقف صحتها على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع فلا بد من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الإطلاق. وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان ب‌ ( البهيمة ) فإنها إذا لم تندرج في عموم « أحل الله » و « أوفوا بالعقود » ونحو ذلك ، فلا يجوز ترتيب آثار الصحة عليها.([1] )

وقال صاحب مفتاح الكرامة: و ينبغي أن يعلم أن الحقيقة العرفية يعتبر منها ما کان فی حمل إطلاق لفظ الشارع عليها، فلو تغيرت فی عصر بعد استقرارها فيما قبله فالمعتبر هو السابق و لا أثر للتغيير الطارئ للاستصحاب، والظاهر قوله صلی اللّٰه عليه وآله وسلم: حکمي علی الواحد حکمي علی الجماعة([2] ).

وقال كاشف الغطاء: لمّا اتّضح أنّ فهم الخطاب مبنيّ على فهم اللغة أو العرف العام أو الخاص، وكلّ واحدٍ مرآة للآخر في سائر اللغات، فإن اتّضح الحال بالنسبة إلى زمان صدور الخطاب؛ بأن عُرِفَ الحال بالنسبة إلى وقت الاستعمال، لزم البناء على ذلك العرف، ولا اعتبار بغيره؛ فخطاب كلّ وقت محمول على عرفه.

فإن علم الاتّحاد فلا بحث ، وإن جهل الحال في أحدهما وعلم الأخر بُني المجهول على المعلوم؛ فما صدر من الأوائل محمول على العرف المعلوم عند الأواخر، وبالعكس. وإن علم اختلافهما كان خطاب كلّ وقت محمولاً على عرفه؛ فما ورد من الشرع يُحمل على عرف يوم الورود، فإنْ كان فيه مصطلح شرعيّ عمل عليه، وإلا فعلى الحقيقة العرفيّة العامّة، ثمّ اللغة.

ففي مسألة الغناء قد ظهر في العرف الجديد تخصيصه بما لم يكن في قران أو تعزية أو ذكر أو دعاء أو أذان أو مدح النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمّة (عليهم‌السلام) ... فلا يحمل لفظ الغناء على المعنى الجديد؛ كما لا تحمل ألفاظ التربة؛ والقهوة، واللبن، والنهر والكرّ، والبحر، والحجر، والساعة والكعب والمئزر، والمثقال، والوزنة، والرطل، والأوقية، والفرسخ، والسيّد، والمؤمن، والفاسق، ونحوها على المعاني الجديدة؛ لأنّها إن نقلت أو غلط العرف فيها لا يحمل لفظ زمن الخطاب عليها([3] ).


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo