< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/07/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مرجعية العرف بين تعيين المفاهيم أو التطبيق على المصاديق:

تحدثنا في الدرس السابق أن أصحابنا - من الفقهاء والأصوليين - ينقسمون بالنسبة إلى دور العرف إلى قسمين:

بعضهم كالمحقق النائيني والمحقق الخراساني والسيد الخوئي و غيرهم يعتقدون بمرجعية العرف في تعيين المفاهيم، وعدم مرجعيته في تطبيق المفاهيم على المصاديق، والسر في ذلك عندهم أنّ المفاهيم بعد تعيُّنها من جانب العرف تطبَّق على المصاديق بحكم العقل، ولا دخل للعرف في ذلك.

فنحتاج في تطبيق المفهوم على المصداق إلى العلم، وفي حصول هذا العلم لا يمكن الاعتماد على العرف الذي يتسامح في طبيعته، بل المفهوم بعد تعينه وإحراز جميع شرائطه يطبق على المصداق بحكم العقل، كتطبيق المعلول على العلة، فكما لا يتخلف المعلول عن العلة كذلك لا يتخلف المفهوم العرفي بعد تعينه عن التطبيق على المصداق، ومثاله الماء بعد تعين مفهومه؛ فإنه لا محالة ينطبق على المصداق الخارجي ولا يحتاج إلى تطبيق العرف.

وفي مقابل هذا القول ثمةَ قولٌ آخر، وهو قول السيد الإمام الخميني (ره) وقول الشيخ عبد الكريم الحائري المؤسس(ره) وتلامذته، وسائر المتأخرين، إذ يعتقدون بمدخلية العرف في تعيين المفاهيم وتطبيقها على المصاديق.

وإليكم عبارة السيد الإمام (ره) في كتابه الرسائل (رسالة الاستصحاب):

الموضوع للأحكام الشرعية ليس ما يتسامح فيه العرف بل الموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة ومن غير تسامح، فالدم الحقيقي بنظر العرف موضوع للنجاسة، فإذا تسامح وحكم بما ليس بدمٍ عنده أنه دم لا يكون موضوعاً لها، كما أنه لو حكم العقل بالبرهان بكون شي‌ء دماً أو ليس بدم لا يكون متبعاً؛ لأن الموضوع للحكم الشرعي ما يكون موضوعاً لدى العرف.

والسر في ذلك أن الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الأمة إلا كسائر الناس، ويكون في محاوراته وخطاباته كمحاورات بعض الناس بعضاً، فكما أن المقنن العرفي إذا حكم بنجاسة الدم لا يكون موضوعها إلا ما يفهمه العرف مفهوماً ومصداقاً، فلا يكون اللون دماً عنده وليس موضوعا لها، كذلك الشارع بالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف، فالمفهومات عرفية وتشخيص مصاديقها أيضا كذلك.

فما وقع في كلام المحقق الخراسانيّ (رحمه اللَّه) و تبعه بعضهم من أن تشخيص المفاهيم موكول إلى العرف لا تشخيص مصاديقها فإنه موكول إلى العقل منظورٌ فيه؛ ضرورة أن الشارع لا يكون في خطاباته إلا كأحد من العرف، ولا يمكن أن يُلتَزَم بأنّ العرف في فهم موضوع أحكامه ومصاديقه لا يكون متبَعاً بل المتبَع هو العقل.

وبالجملة الشرع عُرفٌ في خطاباته، لا أنّ الموضوعات متقيدة بكونها عرفية فإنه ضروري البطلان، فحينئذ يكون قوله "لا ينقض اليقين بالشك" قضية عرفية؛ فإذا رأى العرف أن القضية المتيقنة عين المشكوك فيها وأنّ عدم ترتب الحكم على المشكوك فيه من نقض اليقين بالشك يجري الاستصحاب، ولو لم يكن بنظر العقل من نقضه به لعدم وحدة القضيتين لديه هذا كله واضح([1] )

إنّ ما ذكره الإمام الخميني دقيق ومفيد جداً، وينتفي معه الإشكال، ويُغني عن الالتزام بما التزم به المحقق النائيني وغيره، لأنّ المشكلة عند القائلين بمرجعية العرف في تعيين المفاهيم وعدم مدخليته في التطبيق على المصاديق هي أحد أمورٍ ثلاثةٍ كما ذكرنا:

الأول: عدم الدليل على مدخلية العرف في المصاديق.

الثاني: المسامحة الموجودة في طبيعة العرف، إذ يتسامح في التطبيق والمصداق، ولا عبرة بالمسامحات العرفية.

الثالث: أنّ المصداق هو الواقع في الخارج وهو لا يحتاج إلى التطبيق ولا يتحقق فيه التسامح، بل ينطبق بنفسه على المفاهيم بعد تعينها من جانب العرف.

وجميع هذه الأمور الثلاثة تُحَلُّ ببيان السيد الإمام الخميني؛ فالمسامحة التي تحدث عنها المحقق النائيني انحلت بقول الإمام أنّ المعتمد عليه في هذه القضية هو العرف الدقيق لا العرف المتسامح، فمع ما للعرف من دورٍ في جميع الموارد إلا أن ذلك الدور هو للعرف الدقيق لا للعرف المتهاون.

فلو وصف العرف ما يبلغ وزنه تسعمائة وتسعة وتسعين كيلو بكونه طُناً فلا عبرة به، لأنّه عرف متسامح، وأمّا العرف الدقيق فيقول: إنّه ينقص عن الطن بمقدار كيلو واحد، نعم لونُ الدم وإن كان في العقل الدقيق من أقسام الدم لكنّه عند العرف حتّى الدقيق هو لونه لا نفسه، فيوصف بالطهارة لا بالنجاسة. وإنّ المصداق هو الواقع، ولكن من يعرف الواقع؟ هل يوجد موضع غير العرف في تشخيص المصاديق؟

ولو قلنا بعدم مرجعية العرف في تشخيص المصاديق لواجهنا مشكله كبيرة في قضية بقاء الموضوع في الاستصحاب؛ لأن بقاءه لابد وأن يكون عرفياً، في حين أن هؤلاء لايعتبرون العرف ملاكاً في تشخيص المصاديق.

لذلك نحن مع السيد الإمام فيما قاله من أن العرف الدقيق هو الملاك في تعيين المفاهيم والتطبيق على المصاديق.


[1] - الرسائل (رسالة في الاستصحاب)، ج1، ص183.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo