< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/03/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تتمة الاستدلال بالروايات على القول بالسببية:

الإشكال على الطائفة الثالثة:

قلنا في الدرس الماضي أن الطائفة الثالثة من الروايات هي ما دل على أنّ إنكار كل أمر تكويني أو تشريعي، عقائدي أو عملي يوجب الكفر.

مثل ما رواه محمد بن يعقوب ((عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ :عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنى مَا يَكُونُ الْعَبْدُ بِهِ مُشْرِكاً؟ قَال: فَقَالَ: مَنْ قَالَ لِلنَّوَاةِ : إِنَّهَا حَصَاةٌ، وَلِلْحَصَاةِ: إِنَّهَا نَوَاةٌ ثُمَّ دَانَ بِه))([1] ).

ويستدلُّ بهذه الرواية على أنّ المراد منها التدين بغير الواقع، والرواية بإطلاقها تشمل كل من أنكر الواقع وتدين بغيره وتحكم بكفره. ومن الواضح أن من أنكر ضروري الدين وتدين بغيره فقد تدين بغير الواقع وهو كافر.

فنقول: النقاش في الاستدلال بهذا الدليل كذلك يقع في جانبي السند والدلالة.

أما سنداً فيردُ الإشكال من جهتين:

الجهة الأولى: وجود محمد بن عيسى، وهو محمد بن عيسى بن عبيد الذي تعارض فيه التوثيق والتضعيف؛ حيث ضعفهُ الشيخ الطوسي واتهمه بالغلو([2] )، ووثّقه النجاشي و اعتبره كثير الرواية وحسن التصانيف.

الجهة الثانية: رواية محمد بن عيسى عن يونس، فقد قال الكشي بشأنه: إن محمد بن عيسى بن عبيد بن بقطين أصغرُ في السنِّ أن يروي عن ابن محبوب([3] ).

ومن المعلوم أنّ صغر سنهِ إذا منع من روايته عن ابن محبوب فبطريقٍ أولى أن يمنع من روايته عن يونس؛ لأن يونس متأخر عن ابن محبوب بست عشرة سنة. ولعله لم يكن موجوداً أصلاً، أو في سنٍّ لا تُمكّنهُ أن يروي عن يونس.

و أما دلالةً فليس المراد من الشرك في الرواية هو الشرك الذي يوجب الكفر؛ لأن الشرك الموجب للكفر هو الشرك في مقام الألوهية فقط، لا الشرك الذي له مراتب عديدة ومتفاوتة كالوارد في هذه الرواية "قَالَ لِلنَّوَاةِ : إِنَّهَا حَصَاةٌ، وَلِلْحَصَاةِ : إِنَّهَا نَوَاةٌ ثُمَّ دَانَ بِهِ". فلو قلنا بأنّ مطلق الشرك يوجب الكفر، لَلَزِمَ القول بكفر كل من تدين بغير الواقع؛ سواءٌ كان الأمر ضرورياً أو غير ضروري، وسواءٌ علمَ به المكلف أم لم يعلم، وسواءٌ كان إنكاره عن قصور أو تقصير. ففي مطلق هذه الموارد يطلَقُ عليه تديُّنٌ بغير الواقع، ولا يمكن القول به، وقد أشار إلى هذا الإشكال الشهيد الصدر في مباحثه([4] ).

فالاستدلال بهذه الرواية غير صحيح.

الطائفة الرابعة: ما دل على كفر أو وجوب قتل من أنكر حكماً من الأحكام، مثل وجوب الحج أو الصلاة أو الزكاة وغيرها. وتشمل هذه الطائفة الكثير من الروايات ونشير لبعضها فقط:

مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى أَهْلِ الْجِدَةِ فِي كُلِّ عَامٍ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَ‌{وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‌} قَالَ قُلْتُ: فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنَّا فَقَدْ كَفَرَ، قَالَ لَا؛ وَلَكِنْ مَنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا هَكَذَا فَقَدْ كَفَرَ))([5] ).

ومثل صحيحة بريد العجلي قال: ((سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ أَنَّهُ أَفْطَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. قَالَ: يُسْأَلُ هَلْ عَلَيْكَ فِي إِفْطَارِكَ إِثْمٌ ؟ فَإِنْ قَالَ لَا فَإِنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَإِنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْهَكَهُ ضَرْباً))([6] ).

و مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله قَالَ: ))مَنْ مَنَعَ قِيرَاطاً مِنَ الزَّكَاةِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَ لَا مُسْلِم))‌[7]

فهذه الروايات وإن كان بعضها ضعيفاً من جهة السند، ولكنَّ لكثرتها و بلوغها حد الاستفاضة لا حاجة للبحث في أسانيدها، و أما من جهة الدلالة فهي غير صالحة للاستدلال في المقام؛ لأن القول بها يستلزم القول بكفر الملايين من المسلمين الذين ينكرون بعض الواجبات وهذا ما لم يقل به أحدٌ، وهو يناقض الروايات التي تدل علي كفاية الشهادتين في صدق الإسلام.

لذا لابد من معاملتين في مقام التعامل مع هذه الروايات:

الأولى: حمل الكفر فيها على الخروج من الايمان، لا الخروج من الاسلام، وهذا الحمل يفيد في بعضها، وأما البعض الذي ورد فيه ((فليس بمؤمن ولا مسلم)) فلا يفيد معه هذا التوجيه.

الثانية: حملها على مورد العلم كما حملنا بعض الطوائف المتقدمة على مورد العلم. والقرائن على هذا التوجيه موجودة في بعض روايات هذه الطائفة نظير ما ورد فيها: ((قلت فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر)) ومثل ما ورد في الرواية الثانية: ((عن رجل شهد عليه شهود أنّه أفطر في شهر رمضان ثلاثة أيام ؟ قال: يسأل هل عليك في إفطارك إثم؟ فإن قال لا، فإنَّ على الإمام أن يقتله وإن قال نعم فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً)).

فيظهر من السؤال والجواب في هاتين الروايتين وأمثالهما أن الانكار الذي يوجب الكفر ليس مطلق الإنكار؛ بل المراد هو الإنكار الذي يكون عن علم، وكما قلنا سابقاً أنّ أكثر موارد الإنكار من موارد العلم تستلزم تكذيب النبي وإنكار الرسالة، فلا تدل على المدعى بل تؤول إلى القول الثاني وتدلّ عليه؛ وهو القول بأمارية إنكار الضروري.

مضافاً إلى ذلك فإنّ القول بدليلية هذه الطائفة يوجب القول بإنكار مطلق الأحكام ولا يختص بإنكار الضروري.

فالخلاصة:

يظهر بالتأمل في هذه الطوائف الأربعة من الروايات أنها وقعت محلاً للبحث والمناقشة من جانب الفقهاء، خصوصاً المتأخرين والمعاصرين منهم كالفقيه الهمداني (مصباح الفقيه، ج1، ص566) والسيد الخوئي (دروس في فقه الشيعة:3،115) والسيد الحكيم (مستمسك العروة،1، 379) والشهيد الصدر (بحوث في شرح العروة: 3، 295) والشيخ الأعظم الأنصاري (كتاب الطهارة، ج2، ص442) وغيرها، وجلُّ هذه الروايات - أو كلها- مبتليةٌ بإشكالات عديدة بعضها من جهة السند وأكثرها من جهة الدلالة على المدعى، والنقطة المشتركة بينها هي بعدها عن مقام الاستدلال على المدعى.

فلذلك نقول: لا يوجد دليل على القول بالسببية المستقلة لإنكار الضروري للكفر.

الحمد لله ربّ العالمين


[4] بحوث في شرح العروة الوثقى، ج3 ص296.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo