< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

37/12/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : أهمية التفقه وأخلاق الفقيّه

المقدمة الأولى

بعد التأمل والتدقيق لم أعثر - حسب وسعي والوقت المتاح- على دين أو مذهب أو قانون يدافع عن العلم ويدعو إليه ويرغّب الناس فيه كالدين الإسلامي ومذهب أهل البيت علیه السلام؛ ففي أوّل سورةٍ نزلت على نبينا الأعظم في القرآن الكريم بدأ المولى عزّ وجلّ کلامه بـ: [الأمر] بالقراءة والتعلّم.

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 5﴾[1]

وقد نزلت هذه الآيات في بداية بعثة الرّسول الأعظم -لا خلاف بين المسلمين في نزول هذه الآيات كذلك- وقد حثّت على القراءة والتعلم والتعليم، وقد جعل الله تعالى فيها إشعاراً وتنويهاً إلى أنّ العلم والتعليم هما علَتان لتوصيف الله تعالى نفسه بأنه الأكرم.

تأملوا ودققوا في هذا فهي نقطة نحوية وأدبية لأنه قد ثبت في النحو والأدب العربي أن الوصف مشعر بالعلية[2] [3] ، أي لأنّه سبحانه علَّم بالقلم فالحقُّ أن يوصف بالأكرم.

وأيّا يكن؛ فإنّ الإسلام قد حثّ النّاس على التعلم والتعليم [مطلقاً من كلّ الحيثيّات الزمانيّة والمكانيّة و.. غيرهما في المتعلّم وكل ما هو مرتبط بشأن التعلّم][4] .

أمّا من حيث عدم التقيد الزماني فهو قول النبي: "اطلبوا العلم من المهد الي اللحد"[5] .

وأمّا من حيث الإطلاق المكاني؛ فيدلّ عليه النبوي الشريف: "اطلبوا العلم ولو بالصّين"[6] .

أمّا الإطلاق من حيث جنس [المتعلّم] يقول النبي: "طلب العلم فريضة على کلّ مسلمٍ و مسلمة[7] . و إن كان المذكور في أکثر المصادر المسلم فقط إلّا أنّ هذا التعبير شاملٌ أيضاً لکلّ من يصدق عليه اسم المسلم رجلاً كان أم امرأة.

وأمّا الإطلاق من حيث العقيدة؛ فيقول الإمام علي علیه السلام: "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ‌، فَاطْلُبُوهَا وَ لَوْ عِنْدَ الْمُشْرِك"‌[8] [9] .

ومهما يكن من أمر فيمكن القول: إنّ الإسلام قد ميّز موضوعاً مهمّاً في طلب العلم بالفضل والشّرف على سائر الموضوعات حتى لا يشمل غيره ألا وهو >موضوع الفقه والأحكام الشرعيّة< وبيَّن أنه أشرف العلوم. وجعل للعالم الفقيه أيضاً فضلاً خاصّاً على جميع العلماء حتى ورد في حقه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: "إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ الْفَقِيهُ ثُلِمَ‌ فِي‌ الْإِسْلَامِ‌ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيْ‌ءٌ"[10] .

وقد جعل الكليني في كتابه "الكافي"کتاباً بعنوان: "کتاب فضل العلم" وجعل فيه باباً بعنوان >باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه<، و أورد فيه تسعة أحاديث، ونحن نذكر في هذا الدرس اثنين منها:

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ‌ عَلَيْكُمْ‌ بِالتَّفَقُّهِ‌ فِي دِينِ اللَّهِ وَلَا تَكُونُوا أَعْرَاباً فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللَّهِ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلًا[11] .

وسنبحث في المباحث الآتية حول معنى كلمة "الفقه" إن شاء الله.

مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى‌ يَتَفَقَّهُوا[12] .

وهو حديث معروف، وأكبر الظنّ أنّ سنده صحيح إلا أن هناك سؤالاً يطرح هنا وهو: لأي سبب وما العلة التي خص الله تعالى العالم الفقيه والتّفقه في الدّين بهذا الفضل العظيم، وميّزه على سائر العلوم وعلى سائر العلماء؟ فهل يعود ذلك إلى أنّها طائفة وفرقة خاصة بين الخلق؟

من الوضوح بمكان أن هذا التمييز والتفضيل يعود إلى أنّ هذه الطائفة هي طائفة ذات أوصاف خاصّة، وقد بيَّن القرآن الكريم هذه الأوصاف ومن جملتها الخشية من الله تعالى، وكذلك ذُكرت في روايات كثيرة أوصاف الفقيه[13] .

أمّا الآية القرآنية فهي قوله تعالى:﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾[14] .

وهناك کلمتان متشابهتان وهما "الخوف" و"الخشية" وقد تستعملان مترادفتين ولکن الحقيقة أن بينهما فرقاً خفياً لا يظهر الا لمن تأمل فيهما.

أما معني الخوف فهو واضحٌ؛ ولذلك نذكر لكم نص تعريف اللغويين لمعني الخشية:

قال الراغب صاحب المفردات: "خشي: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصَّ العلماء بها في قوله عز اسمه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)"[15] .

والفرق بينهما بأنّ الخشية تكون من عظمة الـمَخشيّ وإن كان الخاشي قوياً، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً يسيراً.

فخذ مثلاً توضيحياً وهو: قد يقترح على إنسان ما الحضور في محضر عالم ديني کبيرَکالمرجع الديني والسيد القائد الإمام الخامنئيدام ظله والتکلّم بحضرته، وكلنا نعلم أننا في مثل هذه الحال قد نضطرب ونخاف من هذا الاقتراح، وإن سألَنا أحدُهم لأي شيء تخاف؟ قلنا لهيبة وجوده المبارك، وإن كنا نعلم طبعاً بأن عالم الدين هذا ليس شخصاً مخوفاً بل هو رجل شفيق وأب رحيم.

وسيرة الأئمة المعصومين في عبادة الله تعالى من هذا النوع من الخشية، لأنهم إذا توضئوا تغيرت ألوانهم وإذا دخلوا في الصلاة ارتعشت أبدانهم.

والخشية في العلماء أکثر وأعظم لأنهم أعرف بوجود الله تعالى، وكلما كان العلم اکثر كانت الخشيةکذلك، و لذلك قال الله تعالى: علیه السلام ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاْء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾[16] وقال الإمام علي علیه السلام: سبب الخشية العلم[17] .

و قال: "إذا زاد علم الرجل زاد أدبه وتضاعفت خشيته لربّه"[18] .

و لا ريب أنّ الخشية تنشأ من القلب، قال الله عز وجل لعيسى علیه السلام : "يَا عِيسَى هَبْ‌ لِي‌ مِنْ‌ عَيْنِيكَ‌ الدُّمُوعَ‌ وَ مِنْ قَلْبِكَ الْخُشُوعَ وَ اكْحُلْ عَيْنَكَ بِمِيلِ الْحُزْنِ إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ وَقُمْ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ‌ فَنَادِهِمْ بِالصَّوْتِ الرَّفِيعِ لَعَلَّكَ تَأْخُذُ مَوْعِظَتَكَ مِنْهُمْ وَ قُلْ إِنِّي لَاحِقٌ بِهِمْ فِي اللَّاحِقِينَ"[19] .

و يمکن أن نقول: إن الخشية نفس العبادة کما قال علي علیه السلام: نِعْمَ‌ الْعِبَادَةُ الْخَشْيَةُ[20] .

و إذا ورد في الأحاديث والروايات الوصية بمجالسة العلماء ومخالطتهم فهو لأجل هذه الحالة التربوية.

وسُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ علیه السلام عَنْهُ فَقَالَ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ ذَكَّرَكَ‌ الْآخِرَة[21] [22]

وقال المفيد في إرشاده: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا جَدِّي‌ قَالَ حَدَّثَنِي إِدْرِيسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى‌ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَعْقُوبَ جَمِيعاً قَالُوا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ ع تَأْمُرُنِي أَنْ أَجْلِسَ إِلَى خَالِي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ × فَمَا جَلَسْتُ‌ إِلَيْهِ‌ قَطُّ إِلَّا قُمْتُ بِخَيْرٍ قَدْ أَفَدْتُهُ إِمَّا خَشْيَةً لِلَّهِ تَحْدُثُ فِي قَلْبِي لِمَا أَرَى مِنْ خَشْيَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ عِلْمٍ قَدِ اسْتَفَدْتُهُ مِنْه‌[23]

كلمة حول کتاب "تحرير الوسيلة"

بعون الله وتوفيقه سنبدأ بحثنا في الفقه من "کتاب النكاح" من تحرير الوسيلة للإمام الخميني, والسبب في اختياره:

أولاً: إنّ للإمام الخميني حقاً عظيماً على الحوزات العلمية وطلابها وعلمائها بل على المراجع الدينيةکلّهم، لأنه قد أحيا بجهاده وثورته جميع الحوزات والعلماء والمراجع.

ولهذا ينبغي للعلماء والفقهاء أن يعتنوا بالإمام ، وبأقواله وأفعاله وكتبه وآثاره في دراساتهم ودروسهم في الفقه والأصول والتفسير والفلسفة وغير ذلك، ليتمكنوا من تأدية حقوق الإمام على المجتمع الإنساني والإسلامي.

وبطبيعة الحال فإن اختيار كتاب "تحرير الوسيلة" موضوعاً للدرس ليس معناه أن نقلد الإمام الخميني بل من الممكن أن نرد قول الإمام أو نستشكل عليه، فالمهم أن يبقى كتاب الإمام في الحوزات حياً وحاضراً أداءً لحقّ من حقوق الإمام.

ثانياً: إنّ كتاب تحرير الوسيلة ليس کتاباً فقهياً مختصراً فقط أو رسالة عملية فقط، بل هو مجمع و ملخّص من ثلاثة کتب فقهية.

إنّ السيد اليزدي ألفَ کتاباً بعنوان "ذخيرة الصالحين" في زمنه، وقد علّق عليه العلماء في عصره وبعد عصره بتعليقات كثيرة ومتنوعة؛ منهم العلامة السيد أبو الحسن الأصفهاني حيث علّق على هذا الكتاب مطابقا لفتاويه، وبعد مُضيِّ فترة من الزمن أراد السيد أبو الحسن أن يجعل جميع تعليقاته في متن الكتاب فجعلها كتاباً مستقلّاً تحت عنوان "وسيلة النجاة" في مجلدين.

ولأنّ بين الإمام الخميني والسيد أبي الحسن الأصفهاني محبة وافرة قام بالتعليق على کتاب السيد أبي الحسن تعليقات متعددة، وفي فترة إبعاده من بلده إيران بيد الشاه وإقامته في ترکيا، أراد أن يجعل التعليقات في متن الكتاب فجعلها أيضاً كتاباً مستقلاً وسمّاه "تحرير الوسيلة" ومن العجيب أنّه في حين تأليف هذا الكتاب لم يكن لديه من المراجع إلا القليل من الكتب الفقهية.


[2] انظر: كنز العرفان في فقه القرآن، مقداد بن عبد الله السيوري، ج2، ص110، دار النشر: المرتضوي، الطبعة: الأولى، ايران-قم، عام الطباعة:(1425 هـ ق)؛. حيث قال: تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة عند الأكثر يقول الشهيد الثاني: [وقد تقرّر في أصول الفقه: أن ترتّب الحكم على الوصف مشعرٌ بكون الوصف علّة، وهذا يدل على أن الله سبحانه اختص بوصف الأكرمية، لأنه علم الإنسان العلم، فلو كان شيء أفضل من العلم وأنفس لكان اقترانه بالأكرمية المؤداة بأفعل التفضيل أولى]، زين الدين العاملي، منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، ص8، مكتبة دار المجتبى، العراق – النجف الأشرف، الطبعة: الأولى، 2014م
[4] أي لم يعيّن لهما زماناً خاصاً ولا مكاناً خاصاً بداية ونهاية، وما عيّن لهما جنسًا خاصًا من الرجال والنّساء ولا عقيدة خاصة.
[8] الأمالي، للطوسي، ج1، ص625.
[13] الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص36، ط الاسلامية (من جملتها: أَ لَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ‌ مَنْ‌ لَمْ‌ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَ لَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِه‌).
[15] مفردات ألفاظ القرآن، ج1، ص149.
[21] مجموعة ورام، ج1، ص84.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo