< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/04/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في المحطّة السادسة، من محطّات الحديث في تنقيح الضوابط العامّة للظهورات اللّفظيّة.
وصل الكلام إلى ما يصطلح عليه الأصوليّ بـ الإطلاق والتقييد.
والكلام في مواقف.

الموقف الأوّل: في التعريف وبيان الضابطة.
ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّ الإطلاق قد عُرّف بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه. وعند المراجعة إلى هذا التعريف في كلمات القوم نجده تعريفاً قديماً جدّاً لدى علماء الأصول. ولعلّ الأصل فيه من المختصر لابن الحاجب. وعلى هذا جرى القوم.
وقد علّق صاحب الكفاية رحمه‌الله ـ كعادته ـ على هذا التعريف بأنّه ممّا لا ينبغي الخوض فيه طرداً وعكساً؛ ذلك أنّه من قبيل شرح الاسم. وازدلف مباشرةً إلى الحديث عمّا يُعنى به الأصوليّ، وهو عمدة مجرى أبحاثهم في مباحث الإطلاق والتقييد. أعني: الكلام عن اسم الجنس والخلاف المعروف فيه بين المتقدّمين إلى سلطان العلماء ومنه ومن تابعه، وهم عموم من تأخّر عنه.
ونحن علّقنا في نظائر هذه التعليقات لصاحب الكفاية رحمه‌الله.
على أنّ هذا الكلام الذي أفاده خارج عن مصطلح الصناعة؛ إذ التعريف الاسميّ هو ما يبدَّل فيه لفظٌ بآخر يكون الثاني أوضح في أذهان المخاطَبين به من الأوّل، فهو أشبه ما يكون بتبديل لفظٍ بمرادفه لتوضيح المراد من معنى اللّفظ الأوّل.
ولا يخفى: أنّ التعريفات في العلوم الاعتباريّة، ومنها علم الأصول، وإن لم يكن ما يُحدّ فيها أمراً حقيقيّاً ليُطلب التعريف بالحدّ أو الرسم، التامّ أو الناقص، لكن توجد واسطة بين كون التعريف حقيقيّاً وبين كونه لفظيّاً. وهو أنّ المطلوب من التعريف في مثل هذه المقامات أمران:
أوّلهما: أن يعطي التعريف تصوّراً إجماليّاً عن مواطن الأبحاث المنضوية تحت العنوان من جهةٍ.
والثاني: أن يُذكر فيه قيدٌ أو أكثر يميّزه عمّا قد يلتبس به من الأبحاث التي تشبهه في نفس العلم، والتي قد يختلط أمره بها.
فكلّ تعريفٍ في العلوم الاعتباريّة إنّما يُذكر لأجل هذين الأمرين. وقد نستغني عن الثاني منهما حيث لا يكون في عناوين العلم ومعنوناته ما يُحتمل التباسه بمحلّ البحث.
ونحن هنا أمام عنوانٍ يحتاج إلى الأمرين معاً؛ إذ الأمر الأوّل يُحتاج إليه دائماً ليعطينا تصوّراً إجماليّاً عن مواطن البحث. وأمّا الأمر الثاني، فوجه الحاجة إليه: التشابه بين العموم الاصطلاحيّ والإطلاق كذلك؛ إذ كلاهما قد يكون شموليّاً وقد يكون بدليّاً. وعلى هذا الأساس، وحيث إنّ كلّ واحدٍ منهما ينتهي إلى الأفراد في الخارج، فلا شكّ في أنّنا بتنا بحاجةٍ لما يميّز المطلق عن العامّ في اصطلاح الأصوليّ، لا لمجرّد التمييز الاصطلاحيّ؛ إذ ليس هذا من دأب ولا شأن الأصوليّ، بل لما يترتّب على هذا من ثمرة في باب الاستنباط، كما لو تعارض مطلق مع عامّ. فلا بدّ حينئذٍ من بيان المخرج من هذا التعارض، الذي قد يكون بتقديم أحدهما على الآخر.
وعلى هذا الأساس، نقول: إنّ طبيعة هذه الأبحاث تقتضي ذكر خيوط ومسار البحث قبل التعريف. لا بعده؛ إذ يُطلب من التعريف في مثل المقام أن يكون مستجمعاً للخصائص التي يُبحث عنها في هذا العلم، فقد يصحّ تعريف في عصرٍ من عصور علم الأصول كانت أبحاث محطّةٍ من محطّاته بسيطةً غير مفصّلة ولا مفرّعة، لكنّه لا يصحّ بعد أن باتت كذلك؛ إذ بات بحاجةٍ إلى إضافة بعد القيود لاستجماع المطالب التي يُبحث عنها فيه. وهذا سارٍ في جميع العلوم التي تكون متحمّلةً ومحتملةً للتوسعة والتضييق في مطالبها.
وعلى هذا الأساس، فلا شكّ ـ مدرسيّاً ـ في أنّه في مباحث الإطلاق والتقييد، هناك عدّة مزايا لا بدّ من ذكرها.
المزية الأُولى: أنّ المقام من مقامات الدلالات اللّفظيّة، لا العقليّة ولا اللّبّيّة، فموضوع البحث دلالة لفظيّة.
المزية الثانية: أنّ اللّفظ يُوصف بأنّه مطلق بنحو من أنحاء الإطلاق الشموليّ أو البدليّ أو ربما المجموعيّ، إنّما يوصف بهذا الوصف بما له من المعنى والمدلول، لا بما هو لفظ، أو فقل: بما هو مفهوم يُري مصاديق معناه في الخارج. فيوصف الشيء بأنّه مطلق بلحاظ مدلوله، لا دلالته. وإن وُصف الدالّ فإنّ الحيثيّة التعليليّة لوصفه بذلك هي المدلول والمؤدّى، لا نفس الدالّ.
المزية الثالثة: أنّ القاسم المشترك بين أبحاث الإطلاق على أنحائها أنّها تدلّ على السريان والشمول والاستيعاب، لكنّ هذا السريان والشمول والاستيعاب تارةً يكون سرياناً وشمولاً واستيعاباً على مستوى القابليّة، وأُخرى يكون شمولاً وسرياناً واستيعاباً على مستوى الفعليّة، أي: تارةً يكون في اللّفظ ما هو دالّ على الأفراد، أو الفرد ـ في البدليّ ـ، أو تصيير الأفراد بمثابة الأجزاء ـ في المجموعيّ ـ، وأُخرى لا يكون في اللّفظ دالّ على الفرد أو الأفراد بوجهٍ، بل تكون دلالة اللّفظ على الشمول والاستيعاب بنحو القابليّة، قابليّة الكلّيّ الطبيعيّ للانطباق على أفراده ومصاديقه.
ولا شكّ في أنّ الإطلاق والمطلق هو الثاني، وهذا لا يخفى على أدنى من له اطّلاع على البحث، وهذا هو المائز الأساسيّ بينه وبين العموم الاصطلاحيّ، وإلّا، ففي اللّغة لا يوجد بينهما مزيد فرقٍ. وهذه نقطة مهمّة جدّاً؛ إذ على أساسها يصبح المطلق هو الدالّ على الطبيعة من دون أيّ تحصيص، وأمّا الشمول والسريان والاستيعاب فلا يأتي من جهة نفس الطبيعة، بل الطبيعة لها القابليّة للانطباق، وهذا أمر وراء اللّفظ، بل هو تطبيق عقليّ كما هو واضح. وعليه تتفرّع أمور مهمّة. وأنّه ما هو الأصل حينئذٍ ليُبنى عليه. فقد يُقال: إنّ الأصل هو الشمول، وأمّا البدليّة والمجموعيّة، فتحتاج كلّ منهما إلى حيثيّة إضافيّة للدلالة.
المزية الرابعة: أنّ الإطلاق في الاصطلاح شامل للأقسام الثلاثة بلا إشكال. وإن أشكل المحقّق النائيني رحمه‌الله في عدّ البدليّ إطلاقاً، فإنّ هذا لكلامٍ خاصٍّ به رحمه‌الله، والتعريف الذي نأتي به للإطلاق هو التعريف المدرسيّ العامّ، فيقتضي أن نبحث عن الإطلاق المدرسيّ، (فحتّى الذي لا يسمّيه إطلاقاً بحثه في مبحث الإطلاق) لا الإطلاق على مبنىً خاصّ من المباني، وإلّا، فلقائلٍ أن يقول أيضاً: إنّ الإطلاق المجموعيّ أيضاً ليس إطلاقاً؛ إذ الإطلاق المجموعيّ هو تحويل وتحوير للمفهوم بقرينةٍ خارجيّة من كونه دالّاً على الأفراد إلى كونه دالّاً عليها بما هي محوّلة إلى أجزاء. وقد تكون مقالته هذه صحيحة، لكن مع ذلك، فهذه الأمور تُبحث في مبحث الإطلاق، والمدرسة الأصوليّة تبحثها هنا. وإنّما قلنا هذا لنقول: إنّ التعريف الأصوليّ للإطلاق لا بدّ وأن يشتمل على الأقسام الثلاثة.
المزية الخامسة: الإطلاق كما تُوصف به الهيئات الإفراديّة، أو المفردات، توصف به الجمل بلحاظ الأحكام الموجودة فيها؛ إذ كما يُقال: اسم الجنس غير المحصَّص مطلق يتّصف بالإطلاق، في مقابل ما خُصّ وحُصِّص من اسم الجنس وهو المقيَّد، كذلك الجمل بلحاظ الحكم الموجود بين الموضوع والمحمول، فهو تارةً يتّصف بأنّه حكم مطلق، وأُخرى بأنّه مقيَّد بقيد، وهذا شائع في العرف. فيُقال ـ مثلاً ـ : إنّ الحكم الكذائيّ على الشيء الكذائيّ دائم. وأُخرى يكون الحكم ثابتاً في ظروف وحيثيّات خاصّة. فكما تتّصف الهيئات الفرديّة، أو المفردات، بالإطلاق والتقييد، كذلك تتّصف الجمل التركيبيّة بالإطلاق والتقييد. وهو بالدقّة وصف للمعنى الحرفيّ في الجمل.
لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ البحث عن الإطلاق والتقييد في الجمل لا يُبحث عنه في علم الأصول؛ إذ لا داعي للبحث في هذا الجانب، ولذلك خُصّ الإطلاق والتقييد في هذه المحطّة بلحاظ المعاني الإفراديّة، لا الجمليّة، فلا داعي لجعل التعريف شاملاً للإطلاق الجُمَليّ.
هذه أهمّ المزايا التي نحتاج إليها في تعريف المطلق.
إذ بالمزية الأُولى والثانية والرابعة يكون التعريف جامعاً، وبالمزيتين الثالثة والخامسة يكون التعريف مانعاً. إذ الثالثة كانت تميّز بين العموم الاصطلاحيّ والإطلاق كذلك، وهذه أهمّ ميزة. والخامسة تُخرج ما لا يهتمّ الأصوليّ ببحثه لعدم وجود داعٍ واهتمام به؛ لأنّ أمره واضح مباشرةً من خلال الممارسة في اللّغة؛ إذ الأصوليّ لا يبحث عن كلّ المباحث اللّغويّة التي لا دخل في الاستنباط، بل يحصر بحثه على ما لم يُعطه أهل اللّغة والأدب حقّه من البحث. وإلّا، فإنّ جميع مباحث الألفاظ ينبغي أن تكون أصول موضوعيّة تُؤخذ من علوم العربيّة.
بعد هذا، نأتي إلى التعريف المدرسيّ بشكلٍ موجز، وهو: ما دلّ على شائع في جنسه.
هذا التعريف يحتاج إلى توضيح، وبعد التوضيح نأخذ بنقده. فنقول:
جُعل الإطلاق في هذا التعريف صفة الدالّ، لا صفة المدلول، كما هو ظاهره. وهذه قد تُعدّ جهة لفظيّة من البحث؛ إذ لقائل أن يقول: وُصف به الدالّ بما له من المدلول.
وأمّا الشيوع في التعريف فهو بما له من المعنى اللّغويّ ـ إذ لا اصطلاح أصوليّ خاصّ في الشيوع ـ يفيد الانتشار الفعليّ، كما هو واضح.
وأمّا الجنس في التعريف، فله إطلاقات عديدة، ومن المقطوع به أنّه لا يراد به هنا المصطلح الفنّيّ الخاصّ لعلم من العلوم، ولو كان في علم المنطق؛ إذ من الواضح: أنّه في أسماء الأجناس، فضلاً عن غيرها، التي يُبحث عنها في المطلق الأصوليّ ما هو نوع أو صنف بالاصطلاح المنطقيّ، وحسناً فعل بعض المحقّقين، كالمحقّق العراقيّ رحمه‌الله في نهاية الأفكار من القول بأنّ المراد من الجنس في المقام هو السنخ، أي: الحقيقة، فيصبح المطلق هو ما دلّ على الشيوع في الحقيقة، أي: الحقيقة الشائعة في أفرادها وفيما تُريه من أفراد.
وعلى هذا الأساس، بدأت تتوجّه إلى هذا التعريف ملاحظات عديدة، من قبيل:
الأوّل: أنّه صفة اللّفظ لا صفة المعنى. وهذا قابل للدفع كما أشرنا.
والثاني: أنّه دالّ على الشيوع الفعليّ، وهذا يُلغي المائز بينه وبين العموم؛ إذ المطلق لا يدلّ لفظاً على الأفراد. ولئن صحّ هذا قَبْل مبنى السلطان، حيث كان المعروف، كما يُقال، بأنّ الدلالة على الألفاظ وضعاً من الألفاظ، فإنّه لا يصحّ أبداً بعد السلطان، الذي أسّس لمقدّمات وقرينة الحكمة، فباتت دلالة المطلق على الإطلاق مركّبةً من قابليّة اللّفظ وفعليّة الدلالة بقرينة الحكمة، وليس اللّفظ هو الذي أعطى دلالة فعليّة، وحتّى قرينة الحكمة لا تدلّ على الأفراد بوجهٍ، بل إنّما تدلّ على نفي القيد فقط، فإذا دلّ لفظيّ على الطبيعة، ودلّت قرينة الحكمة على نفي القيد، فمجيء الأفراد بعد الدلالة اللّفظيّة وبعد مقدّمات الحكمة يصبح من باب التطبيق العقليّ، وليس من دلالة الألفاظ بوجه، ولذا يصحّ الإطلاق حتّى لو لم يوجد أيّ فرد في الخارج.
وعلى هذا الأساس، فهذا التعريف أقرب إلى العموم منه إلى الإطلاق؛ لأنّه دالّ على الشيوع الفعليّ.
الثالث: أنّ هذا التعريف ظاهر في كونه تعريفاً للإطلاق أو العموم الشموليّ، ويحتاج إلى تعمّل وتوجيه، لكي ينطبق على الإطلاق المجموعيّ والإطلاق البدليّ، وهذا ما لا يَحسن في التعريفات؛ إذ أيّ شمول في الإطلاق المجموعيّ؟! فإنّ الأفراد فيه قد حُوّلت إلى أجزاء. وأمّا في الإطلاق البدليّ فالجهة شائعة، وليس هناك شيوع على مستوى الأفراد. أي: المعنى شائع في فردٍ واحد غير معيّن.
الرابع: (كان ينبغي أن نشير إليه في المزايا) أنّ الإطلاق لا تُلحظ فيه الأفراد دائماً، بل كما يُطلق على الأفراد بأقسامها الثلاثة، فهو كذلك يُطلق على الأحوال. وعلى هذا الأساس، فلا يَحسن في هذا المجال الاكتفاء بهذا التعريف. وقد توجد إشكالات أُخرى لا داعي لها.
ومن هنا، فلا بأس بأن نصوغ تعريفاً يشتمل على هذه المزايا، ويَسْلم عن مثل هذه الملاحظات.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo