< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/04/01

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى تحقيق القاعدة الثانية من القاعدتين، وهي أنّه يلزم في مورد التخصيص بالمنفصل تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو قبيح.
ولا بدّ لنا أوّلاً من بيان الموضوع، ثمّ نعقّب بعد ذلك ببيان المحمول.
أمّا الموضوع، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة تارةً يُطلق ويُراد منه تأخير جعل الحكم عن وقتٍ بات فيه الملاك والمصلحة الملزمة موجودتين اقتضاءاً على يدي غلمانه#؛ إذ مقتضى كون الشارع حكيماً أنّه عندما يشخّص الملاك اللّزوميّ اقتضاءاً، تنقدح لديه إرادة لبعث المكلّف نحو هذا العمل، فإذا تمّ كلّ شيءٍ ثبوتاً، ولم يتصدّ للبيان إثباتاً، أي: لم يتصدّ لإيصال مطلوبه إلى المكلّف، سواء بنحو الإيصال المتعارف القانونيّ، أم بتصدٍّ من نحوٍ آخر، كإلهامٍ أو وحيٍ، بقسمٍ من أقسامه؛ فإنّ هذا قبيح.
الاحتمال الثاني لتأخير البيان عن وقت الحاجة، هو نفس الحالة السابقة، فيكون ذلك داعياً للبيان، فيبيّن، ولكن ببيانٍ قاصرٍ عن البيان، أي: أنّه يستخدم في مقام البيان ما لا يكون بياناً، بل يكون إجمالاً أو إهمالاً. وهذا واضح لا كلام فيه.
الاحتمال الثالث: أن يكون المولى قد شرع الحكم، (وقد يُعدّ هذا قسماً من الثاني)، لكنّه شرعه بطريقةٍ لا تكون وافيةً بتمام مراده، بمعنى: أنّها تبيّن الحكم، والكلام بيان، لا إهمال ولا إجمال، بل استُخدمت فيه أدوات البيان المتعارفة لدى أهل البيان. لكنّه لا يريد كلّ ما بيّنه، أو يريد خصوصيّةً زائدةً لم يبيّنها بعد، فمقتضى الطريقة العقلائيّة في البيان أن يبيّن تمام مراده بشخص كلامه، ولو بالشخص السياقيّ، لا شخص الجملة تحديداً. فتأخير البيان عن وقت الحاجة يتحقّق فيما لو كان هذا البيان مطلقاً غير معلّق على شيء، فهو فعليّ. أو معلّقاً على أمرٍ استقباليّ، فأُخّر البيان عن وقتٍ يمكن فيه إيصاله إلى المكلّف عند تحقّق الشرط، أو أُخّر البيان عن تحقّق الشرط، والأمر أوضح هنا؛ إذ بالإضافة إلى مخالفة الطريقة العقلائيّة هنا، سوف يكون هناك إغراء للمكلّف بالجهل؛ إذ هو لا يريد منه إكرام العالم الفاسق، وأمره بإكرام كلّ عالم، وكان في العلماء من هو فاسق، ما جعل المكلّف يُعنى بإكرام الفاسق، لا لداعٍ عقلائيّ بحسب الفرض؛ إذ فرضنا أنّ الاقتضاء تامّ والموانع مفقودة. وهذا الثاني ليس سبباً مستقلّاً عن الطريقة العقلائيّة، بل إنّما يعتمد العقلاء ذلك في مثل هذه الحالات لكيلا يُغرى المكلّف بالجهل، وفي بعض الحالات يزداد المحذور، يكون هناك طبيعيّ الملاك، كما لو كان العامّ ترخيصيّاً، وكان التخصيص منه إلزاميّاً، فلا شكّ في أنّه يلزم تضييع الملاك اللّزوميّ.
وهذا الثالث هو المراد هنا في هذا البحث، في محلّ الكلام؛ إذ الكلام في عامٍّ يُراد أفراده في الجملة إرادة جدّيّة واقعيّة، لكنّ بعض الأفراد أو الأصناف أو الأنواع لا تُراد؛ ذلك أنّ التخصيص يكشف عن أنّ مورده غير مرادٍ للمولى من الأوّل.
فيُقال: إذا جعل المولى العامّ أو المطلق وهو لا يريد جدّاً وواقعاً كلّ أفراده التي شملها خطابه، وحضر وقت العمل، فإنّ ذلك ممّا يقبح. وبهذا نكون قد بيّنّا الموضوع والمحمول.
وعليه: فمقتضى القاعدة في العامّ أنّ المخصِّص إذا كان بعد حضور وقت العمل فلا بدّ وأن يكون ناسخاً، لا مخصّصاً؛ لأنّه لا يلزم الإغراء بالجهل، ولا أيّ نوع من أنواع القبح، ولا مخالفة الطريقة العقلائيّة، فيما لو كان ناسخاً؛ إذ الناسخ يرفع الحكم من حين وروده عن الموضوع الذي هو مورد دليله. طبعاً، لا يكون النسخ إلّا لمصلحةٍ في رفع الحكم إثباتاً، الذي هو دفعٌ ثبوتاً، فهو رفع على مستوى البيان، ودفع ثبوتاً؛ إذ الملاك أمده إلى هذا الحدّ، فقد انتهى أمده، حتّى لو لم يأتِ الناسخ، فعدم النسخ حينئذٍ يُصبح قبيحاً؛ لأنّه حينئذٍ إغراء في الجهل، أو تضييق على المكلّف، أو تضييع مصلحةٍ عليه، وهكذا.
وعلى هذا الأساس، قيل: إنّ التخصيص يلزم منه القبيح، فاستحكمت الشبهة؛ إذ عامّة المخصّصات في الشريعة هي في الغالب من قبيل المخصّصات المنفصلة، والتي وردت بعد العمومات؛ فإنّ غالب المخصّصات جاءتنا في زمن الصادقين'، وغالب العمومات جاءتنا قبل ذلك، فماذا نصنع حينئذٍ؟
هنا، لا بدّ وأن يُثار بحث واضح، وهو أنّ هذا القبح هل هو قبح ذاتيّ لا يتغيّر بالوجوه والاعتبارات، مثل قبح الظلم، أم أنّه قبح في نفسه، كما يُصطلح عليه، قابل للتغيّر بالوجوه والاعتبارات، كقبح الكذب ونحوه؟
ومن الواضح: أنّ وجه القبح هو الذي يُنبئنا عن كون هذا القبح ذاتيّاً أم غير ذاتيّ. ولا شكّ في أنّه لو وُجد داعٍ عقلائيّ، وهو لا يكون في العادة قصوراً في المقتضي، بل يكون سببه وجود مانعٍ من الموانع، فإنّه حينئذٍ يصبح الأمر عقلائيّاً، فإذا بات عقلائيّاً لمصلحةٍ غالبة، أو لمفسدةٍ أعظم لو بُيّن تمام المراد أوّلاً، فلا شكّ في أنّ القبح يكون مرتفعاً، والعقلائيّة على مستوى البيان والخطاب وحفظ الملاكات والأغراض تكون منحفظةً، ويكون الضيق الذي وقع فيه المكلّف بلحاظ بعض الأفراد، أو تفويت بعض المصالح اللّزوميّة فيما لو كان العامّ ترخيصيّاً والمخصّص لزوميّاً، يكون لجلب مصلحة أعظم أو لدفع مفسدة كذلك، أو لضرورةٍ استدعت ذلك.
ومن الواضح: أنّ الأمر من هذا القبيل، بلا شكّ ولا ريب.
يبقى حينئذٍ بحثٌ إثباتيّ، وهو أنّه بعد الفراغ عن كون شريعتنا قد استخدمت المخصّصات المنفصلة بكثرة، كما أوضح ذلك أئمّة الهدى( وتسالم عليه أصحابهم والفقهاء في جميع العصور، ولم يكن النسخ موجوداً أصلاً في أحاديثهم بلحاظ القرآن الكريم، أو إن وُجد ـ على بعض المباني ـ فهو نادر، ومن أهمّ القرائن على كون هذه المخصّصات مخصّصات، لا نواسخ، مضافاً إلى وضوح الأمر في نفسه، أنّ شريعةً شارعها هو الله سبحانه، والمخبر عنه هو المعصوم علیه‌السلام، لا شكّ في أنّ لو كانت تُكثر من النسخ بهذا المستوى لأفضى ذلك إلى رمي الشريعة بالجهل، بل الجهل الفظيع، وعدم الثبات فيها، بحيث لا يُقبل هذا من مشرّعٍ عقلائيّ متعارف يقبح في حقّه الجهل والإلقاء به، حتّى في التشريعات العقلائيّة يُقبل نسخ وتغيير الأحكام من قِبَل المشرّعين العقلائيّين بقَدَر، وأمّا لو كان كثيراً، بل غالباً، فلا شكّ في أنّ مثل هذا الإنسان يسقط عن الصلاحيّة لأصل التشريع؛ لأنّ المشرّع العقلائيّ يجهل في الخفايا والخبايا، لا في عموم الأشياء. ولتقريب الفكرة نقول: لو أنّ مجتهداً يطالعنا كلّ يوم بتغيير فتواه، فأصلاً لا يبقى لدينا وثوق باجتهاده. وأمّا التغيّر العاديّ والقليل، فهذا عاديّ في حقّه، فكيف إذاً فيما لو كان هذا الذي أكثر من التخصيص هو الشارع الأقدس، والذي أكثر من المخصّصات المنفصلة هو المعصوم المنبئ عنه، فلا شكّ في أنّه لو كان نسخاً لانسلب الوثوق بالشريعة، وهذا قرينة قطعيّة على أنّ المقام من قبيل المخصّص، لا الناسخ.
لكن يبقى أنّه ما هو الوجه العقلائيّ المستدعي لهذا؟ فإنّ بين كونه نسخاً وكونه تخصيصاً طريقاً لا يأتي فيه أيّ من المحذورين، لا محذور تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا محذور الإغراء بالجهل ونحوه، ولا محذور تذبذب الشريعة وعدم الوثوق بها، وهذا الطريق هو أن لا تعتمد الشريعة على النسخ الكثير، ولا المخصّصات المنفصلة، بل تبيّن من بداية الأمر موادّها القانونيّة بقدر تشريعاتها الواقعيّة، فلماذا تلجأ إلى هذا الأسلوب الذي يُفرغ في كثيرٍ من أحكامها بعض مدلولاتها عن كونها مرادةً جدّاً وواقعاً لمشرّعها. بمعنى: أنّ مورد المخصِّص يكشف عن أنّه من البداية غير مشمول للعموم والإطلاق الذي يشمله. ولذلك وجدنا الشيخ الأنصاريّ وصاحب الكفاية والمحقّق النائيني+ وغيرهم، اتّفقوا على أنّه إنّما يقبح التخصيص لو كان الحكم المجعول عموماً أو إطلاقاً يشمل مورد التخصيص المنفصل فيما لو كان المراد منه التشريع الواقعيّ، وأمّا لو كان المراد منه التشريع الظاهريّ، فإنّه لا مشكلة فيه في البين.
لكنّ السؤال: أنّه إذا كان التشريع ظاهريّاً، لا واقعيّاً، أفلا يلزم منه إغراء المكلّف بالجهل وإيقاعه في المفسدة أو تفويت الأغراض اللّزوميّة عليه أو التفريط بالملاكات الترخيصيّة أم لا يلزم؟ والجواب: أنّه يلزم قطعاً. فيعود السؤال جدعاً، وأنّه لماذا يلتجئ الشارع أصلاً إلى هذا الأسلوب من البيان، ولماذا لا تكون أحكامه دائماً بقدر ملاكاته؟ فالكلام هو الكلام.
والجواب عن ذلك هو بكشف حكمة اللّجوء إلى مثل هذا الأسلوب. والظاهر: أنّه لا يوجد في هذا المجال كلام منطقيّ يمكن أن يُقال سوى بعض المقاربات لهذا الأمر، من قبيل أنّ شريعة الإسلام ليست شريعةً تمكّنت من بيان تمام مراداتها دفعةً واحدة. ولا أقلّ من جهة سببين:
الأوّل: أنّها شريعة كثيرة الأحكام وتمسّ جميع جوانب ووقائع الحياة، فنفس الحكمة التي استدعت تأخير بيان بعض الأحكام التي ملاكاتها اللّزوميّة موجودة من الأوّل، كتحريم الخمر أو إيجاب الصلاة، فقد يُقال: إنّ كيفيّاتها وأحكامها التفصيليّة وشرائطها وموانعها كذلك، اقتضت الحكمة التدرّج في بيانها.
والثاني: هو المعاناة الاستثنائيّة التي مُنيت بها هذه الشريعة في أسسها، بحيث أُريد من اليوم الأوّل القضاء عليها واغتيالها في مهدها.
قد يقال: إنّ هذا قد يحلّ لنا مشكلة المخصّصات المنفصلة في زمن النبيّ-. لكن ما معنى أن يبقى بيان كثيرٍ من المخصّصات، أو التركيز على بعض الأحكام، أو إبلاغها بشكلٍ يليق بها، مثل خمس أرباح المكاسب إلى زمن الإمام الصادق عليه‌السلام، أو إلى زمن الإمام الجواد عليه‌السلام ؟
والجواب: هو الجواب، لكن نضيف إليه: أنّ هذا الظرف الاستثنائيّ بقي مستمرّاً. يُضاف إليه: أنّه من قال النبيّ الأعظم- قد بيّن معظم هذا، أو كلّه؟ غاية ما هنالك: أنّ سنّة النبيّ- قد ضُيّعت، ولم تصل إلينا موثوقة، وقد أراد المنهج الأمويّ محو ذكر النبيّ- من أساسه لو استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومُنعت سنّته- من التدوين سبعة وتسعين عاماً، وأُتلف ما أُتلف ممّا دُوّن منها، وهذا قطعيّ في التاريخ الإسلاميّ. مضافاً إلى إبعاد أهل الأمر عن ساحتهم، وشَغْلهم بأمورٍ ترتبط بأساس الدين والشريعة، فتأخير البيان عن وقت الحاجة كان لأسباب قاهرة، ولم يكن شارعنا في راحةٍ من وضعه فأخّر البيان، كما هو أوضح من أن يحتاج إلى البيان.
وهذا هو السبب المنطقيّ الوحيد الذي يفسّر لنا ظاهرة كثرة التخصيص بالمنفصل، خصوصاً في زمن الأئمّة(؛ إذ التدرّج في بيان الشريعة لو كانت مرتاحةً على وضعها، كان ينبغي أن ينتهي بانتهاء حياة النبيّ الأعظم-، وربما انتهى، لكنّه لم يُفصَّل ولم يُبيَّن على مستوى الوصول، لا الصدور؛ فإنّ الظاهر من جملة من الروايات أنّه- بيّن كلّ شيء، لا بمعنى: أنّه بيّن مخزوناً عند أهله فقط، بل بيّنه لمن يعنيهم الأمر، لكن أكثر الناس كانت تلهيهم الخوض في الأسواق عن سماع حديث رسول الله-. وهذا أمر طبيعيّ بالنظر إلى الواقع الذي عاشته الشريعة الإسلاميّة.
فالقدرة على بيان هذا الكمّ الهائل من خصائص الشريعة، ولو بُيّن بالمخصّصات المنفصلة، هو الذي يسترعي الانتباه في هذه الظروف الاستثنائيّة، لا عدم بيانها مبكّراً. وهذا يحلّ لنا أصل المعضلة. وإلّا، فلو أنّ مشرّعاً حكيماً جلس ليشرّع، وما كان يمنعه مانع، فلا بدّ وأن يهتمّ بالقاعدة الأوّليّة في البيان، وأن لا يعتمد كثرة التخصيص أو كثرة النسخ في بيانه. مضافاً إلى حِكَمٍ تفصيليّة قد تُذكر، كحكمة الامتحان، كما في جعل القبلة في باب النسخ. ونحو ذلك.
وعليه: فلا مشكلة في البين.
يبقى حينئذٍ أصل البحث في محلّ الكلام، وبات قسمان منه واضحين:
القسم الأوّل: النسخ قبل حضور وقت العمل. وقلنا: إنّه ممتنع، ودفعنا كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله.
القسم الثاني: التخصيص بعد حضور وقت العمل، وأنّه لا بدّ وأن يكون نسخاً على مستوى القاعدة الأوّليّة، لولا الظروف الاستثنائيّة التي صاحبت الشريعة.
وما يقابل هذا هو تقديم الخاصّ على العامّ، وهو ما لا يوجد له أمثلة عادةً. طبعاً، إذا كان الخاصّ متقدّماً على العامّ، وتأخّر العامّ عن وقت الحاجة، فالكلام نفس الكلام فيما لو تقدّم العامّ وتأخّر الخاصّ، فهو قبيح إذا كان نسخاً، فلا بدّ وأن يكون مخصّصاً.
نعم، تبقى شبهة دوران الأمر بين النسخ والتخصيص، وهذا لا واقع خارجيّ في شرعنا؛ إذ رواياتنا واضح منها ما هو مخصّص، وهو المعظم، وواضح منها ما هو غير مخصّص. وليكن هذا هو مراد الشيخ الأنصاريّ وصاحب الكفاية والمحقّق النائيني+ من كون الأحكام ظاهريّة في مورد التخصيص، لكن هم لم يبيّنوا الفحوى لهذا الكلام.
هذا تمام الكلام فيما أردنا بيانه في هذا المبحث.
وبهذا نأتي إلى ختام البحث في العامّ والخاصّ.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo