< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/29

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا في البحث السابق إلى أنه لا بدّ من تحقيق قاعدتين تدوران في كلمات الأصوليّين:
القاعدة الأُولى: عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل.
والقاعدة الثانية: عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
أمّا القاعدة الأُولى فالمراد منها واضح. لكنّ الكلام في وجه هذه الدعوى المشتهرة على ألسنة الأصوليّين. والظاهر: أنّنا لسنا بحاجةٍ إلى الإطالة والتفصيل في بيان الوجه؛ ذلك أنّ جعل الحكم من قِبَل المشرّع العقلائيّ الحكيم، إمّا أن يكون لملاكٍ في الجعل، أو امتحاناً، أو اقتضت الحكمة أن يكون حكماً صوريّاً، وهذا خارج عن محلّ الكلام. وإمّا أن يكون حكماً واقعيّاً صدر لأجل إيجاد الداعي اقتضاءاً لدى المكلّف للعمل، وهذا هو محلّ كلامنا.
فحينئذٍ: إن نُسخ الحكم قبل حضور وقت العمل، فإنّ جعله يكون لغْويّاً؛ إذ لا توجد حكمة تدعو إلى هذا الجعل في الفرض سوى إيجاد الداعي الفعليّ اقتضاءاً للامتثال، ولا شكّ في أنّ هذا الداعي قبل حضور وقت العمل، وقبل تحقّق شرائط التكليف الفعليّ بالحمل الشائع، فإنّه لا قابليّة له ليوجد الداعي لدى المكلّف، فيكون جعله في الظرف لغواً؛ إذ المفروض أنّه لا تترتّب عليه أيّة فائدة وليس وراءه أيّ غرضٍ سوى تكليف المكلّف به وجعل الفعل على ذمّته.
نعم، قد يصحّ ذلك فيمن يجوز في حقّه البداء بالمعنى الحقيقيّ، وهو العلم بعد الجهل، فيتصوّر نفسه جادّاً ثمّ ينكشف له أنّه لم يكن كذلك، لكنّه لا يصحّ بوجهٍ في مشرّعنا الحكيم، كما هو واضح.
وهذه الدعوى بهذا الشكل البسيط تلقّاها معظم المحقّقين بالقبول، بلا كلام.
نعم، ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى تفصيلٍ في محلّ الكلام، حاصله: أنّ القضيّة التشريعيّة إمّا أن تكون من قبيل القضايا الخارجيّة، بالمصطلح الأصوليّ، وإمّا أن تكون قضيّة حقيقيّة. والقضيّة الحقيقيّة على قسمين: إمّا أن يكون الشارع قد جعل حكمه موقّتاً بوقت، ومعلّقاً على شرط، وإمّا أن يكون قد جعله منجَّزاً على معلَّق على شرط، فأفاد: أنّ هذه القاعدة تامّة بلا كلامٍ في القسمين الأوّل والثالث، أي: في القضايا الخارجيّة، وفي القضايا الحقيقيّة غير الموقّتة؛ إذ إنّ برهان اللّغْويّة واضح لا كلام فيه. وأمّا في الموقّت بوقتٍ، المعلّق على شرطٍ، فلا مانع فيه من نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل؛ إذ المجعول فيه ليس سوى الملازمة، ولا لغْويّة في جعل الملازمة. وفرّع على هذا في باب الأوامر صحّة آمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه؛ إذ المجعول هو الملازمة بين حصول الشرط وجعل الحكم، وليس جعل حكمٍ فعليّ.
وهذا الكلام ظاهر في أنّه لا ينتهي إلى محصّل؛ ذلك أنّ مطلق جعلٍ لا تتحقّق الحكمة من جعله ويعلم الجاعل أنّها لن تتحقّق، فإنّه لا يعدو كونه لَغْويّاً؛ إذ الجعل فعل اختياريّ للمولى، فإذا لم يكن يترتّب عليه أيّة حكمة، سواء كان المجعول حكماً فعليّاً أم معلّقاً، فلا شكّ في أنّه يكون الجعل حينئذٍ لغويّاً.
نعم، بعض الأحكام قد تصدر بداعٍ جدّيّ إذا ما تحقّق الشرط، لكنّ المولى يعلم أنّه بتشريعه لها سوف ينعدم الشرط؛ لأنّ المكلّف سيرعوي عن تحقيق هذا الشرط، فيما لو كان الشرط ـ مثلاً ـ فعلاً اختياريّاً للمكلّف. فلن يحصل الحكم، وهو التالي في الملازمة؛ لأنّ جعل الحكم سيفضي إلى ردع المكلّف عن تحقيق الشرط، كما في جعل عقوبة القصاص ـ مثلاً ـ. لنفترض أنّ المولى كان يعلم أنّه بتشريع القصاص لن يُقدم أحد على قتل أحد، فلن يحصل اقتصاص، لكنّه بجعل القصاص يكون قد نفى موجبه، وهو القتل، فيكون الحكم المجعول بداعٍ جدّيّ، بحيث لو أنّ شخصاً قتل شخصاً عامداً لاقتصّ منه، فإنّ الحكم حينئذٍ يكون لحكمةٍ، وما أعظمها من حكمة! ولا يكون حكماً صوريّاً، كما هو واضح. فهذا الحكم بطبيعته نوعاً ينفي تحقيق شرطه، لكنّ حكمته عظيمته، وليس لغواً. وأين هذا من تعميم المحقّق النائيني رحمه‌الله لكلّ حكمٍ موقّتٍ مشروط من قبيل القضايا الحقيقيّة؛ إذ لقائلٍ أن يقول:
أوّلاً: ما الفرق بين الموقّت بوقتٍ ومطلق المشروط، ولو كان الشرط تحقّق الموضوع، وهو القسم الأوّل من قسْمَي الحقيقيّة؛ إذ في الاثنين تُجعل الملازمة؛ إذ قول القائل: أكرم العالم، على سبيل القضيّة الحقيقيّة، في قوّة الشرطيّة، كما يعترف به المحقّق النائيني رحمه‌الله نفسه، وهو يجعل أنّه لن يُوجد عالم، فالمجعول هو الملازمة بين العالم وبين وجوب الإكرام، فلا فرق بين الموقّت وبين مطلق المشروط.
وثانياً: ما الفائدة من جعل الملازمة؟ ولماذا يُعنّ المولى نفسه بجعلها وهو يعلم أساساً بأنّها لن تنتهي إلى مرحلة العمل، ولن يكون وراءها حكمة، لا في الجعل ولا في المجعول الكلّيّ؛ لأنّه لن ينتهي إلى مجعول فعليّ في الخارج. وكلامنا إنّما في الحكم الحقيقيّ الواقعيّ؛ فإنّ هذا لا يعدو كونه لغْويّاً.
نعم، نستثني حالة ما لو كان النسخ لبعض ما يشمله الحكم المجعول، كما لو كان الأوّل عامّاً والثاني خاصّاً، وهذا الخاصّ ناسخ، وليس مخصّصاً، فهو لا يرفع مورده من تحت حكم الأوّل من أساسه، بل من حينه. وكانت ضرورة البيان (وهي ضرورة عرفيّة لا عقليّة) تستدعي التعميم ثمّ الاقتطاع بهذه الطريقة، وكان مورد الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالنسبة إليه، فتكون حكمة التعميم هي التسهيل على المولى في مقام البيان، كما هو واضح.
لكنّ هذا الاستثناء، كما ترى، استثناء منقطع؛ لأنّ الحكم بالنسبة لمورد الخاصّ الناسخ لن يكون حكماً واقعيّاً من بداية الأمر، وإنّما عمّمه المولى لحكمة البيان؛ لأنّه لو لم يعمّم فكان عليه أن يبيّن ببيانات كثيرة بعدد الأنواع أو الأصناف التي تنضوي تحت العامّ، فلكيلا يُبتلى بإطالة البيان التجأ إلى التعميم. وإلّا، فلكونه علّام الغيوب هو لا يريد منذ البداية الشمول للمورد الذي شمله الخاصّ، ولذلك جعلناه استثناءاً منقطعاً، وهو خارج عن محلّ البحث، وهو مشار إليه في كلمات المحقّقين، بل هو في الحقيقة داخل فيما ذُكر في صدر الحالات قبل هذه الحالة التي هي محلّ البحث.
إذاً، فالصحيح صحّة الدعوى التي قال بها المشهور بلا هذه التفاصيل.
نعم، توجد هنا فكرة تعرّض لها الإمام الخميني رحمه‌الله في بحث اشتراط التكليف بالقدرة، ولم يتعرّض لها هنا؛ إذ لم يتعرّض أساساً لهذا البحث، تبعاً لأستاذه المحقّق البروجرديّ رحمه‌الله؛ ذلك أنّ المدّعى للسيّد البروجرديّ رحمه‌الله أنّ هذا البحث لا ينتهي في مقام العمل إلى ثمرة؛ إذ لا يوجد في كلمات المعصومين( ما يدور أمره بين النسخ والتخصيص.
لكن، لديه كلام خلاصته: أنّه في الخطابات القانونيّة العامّة، أي: القضايا الحقيقيّة العامّة، لا القضايا الخارجيّة الشخصيّة، لا مانع من التكليف بغير المقدور من طرف المولى، وإن كان لا ينتهي إلى مرحلة التنجيز على العبد؛ ذلك أنّ العبد إنّما يصدر ويتنجّز عليه الحكم بحكم عقله، وهي من صغريات العقل الحاكم بلزوم إطاعة المولى، المعبّر عنها في علم الكلام بقاعدة وجوب شكر المنعم، وإن كان التعبير أعمّ من واقع القاعدة؛ إذ المراد من الشكر هنا هو العبوديّة والعبادة، والمراد من المنعم هو المنعم المطلق، لا مطلق المنعم، أي: قانون الربوبيّة والعبوديّة.
فيقول رحمه‌الله ببيانٍ موجز: إنّ القضايا الخارجيّة أو الشخصيّة يقبح فيها توجيه الخطاب لمن كان عاجزاً، لكن في القضايا التي فيها تعميم، فيخاطب الجميع بصياغةٍ واحدة، وإن كان يعلم بأنّ بعضهم لن يصدر عن هذا، إمّا عصياناً، عند بعضهم، وإمّا عجزاً، عند بعضهم الآخر، فهنا، لا مؤونة زائدة في البيان ليُقال: إنّ كلامه لَغْويّ.
بهذا المقدار، لا بأس بهذا الكلام، لكنّه يرجع إلى ما ذكرناه؛ إذ نسأل السيّد الإمام رحمه‌الله، الذي ظاهر كلامه أنّ التكليف الحقيقيّ يكون شاملاً للعكس في القضايا القانونيّة، أنّ مرادكم هل هو الشمول على مستوى الصياغة التعبيريّة القانونيّة، أم على مستوى عالم ثبوت الحكم، أي: على مستوى الإرادة والتصدّي المولويّ تبعاً لوجود الملاك؟
فإن كان المقصود الأوّل، فنقول: لا مانع من ذلك، فهذا لا يلزم منه جعل الحكم على العاجز، بل يكون ظاهر اللّفظ بدواً شمول الحكم للعاجز، وليس في شموله مؤونة زائدة، فلا لغْويّة، لكنّ لبّ وحقيقة الحكم لا تكون شاملةً للعاجز وغير القادر.
وإن كان المقصود الثاني، كما هو ظاهر الكلمات، فإنّ الجواب: أنّ كون الإرادة شاملةً للعاجز لا يُفرَّق فيها بين جعلٍ وجعل؛ إذ العبرة ثبوتاً بإمكان إيجاد الداعي لدى العاجز، والعاجز لا يمكن أن يوجد الداعي الفعليّ للانبعاث عنده؛ لأنّ عجزه يمنعه من ذلك، وإن كان يحبّ امتثال هذا الحكم على تقدير كونه غير عاجز، لكنّ هذا لا يحلّ المشكلة في المقام. وبعبارةٍ أوضح: فإنّ الخطاب القانونيّ ينحلّ ثبوتاً إلى تكاليف عديدة بعدد الأفراد، فهي أحكام عديدة صيغت في القضيّة القانونيّة بصياغةٍ واحدة، وإلّا، فهو ليس حكماً واحداً، فعندما يُقال: أقم الصلاة، فهذا ليس حكماً واحداً في عالم اللّبّ والحقيقة، بل هو مجموعة أحكامٍ عديدة بُيّنت دفعةً واحدة.
وهذا البحث ليس مجرّد خلاف لفظيّ، بل رُتّب عليه ثمرات في بحث اجتماع الأمر والنهي وفي غيره. حتّى عُدّ هذا البحث عند بعض تلامذة السيّد الإمام رحمه‌الله ـ كالشيخ اللّنكرانيّ رحمه‌الله ـ من المباني التي أبدعها رحمه‌الله.
لكنّ أحداً فيما نعلم على هذا التفصيل في عالم الحقيقة واللّبّ.
أقول: لو تمّ هذا المبنى في محلّه كأصل موضوعيّ فقد يصلح تخريجاً هنا للتفصيل الذي فصّله المحقّق النائيني رحمه‌الله، لكن يصلح حينئذٍ تفصيلاً بين القضيّة الحقيقيّة وبين القضيّة الخارجيّة مطلقاً، وليس بين خصوص أحد قسمَي القضيّة الحقيقيّة، كما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله.
ولا داعي للإطالة بأكثر من هذا في هذه القاعدة.
فاتّضح أنّ كلّ حكمٍ جُعل فلا يمكن ـ قاعدةً ـ نسخه قبل حضور وقت العمل. لكن هل هذا له مورد أم لا؟ الجواب: لا يوجد له مورد. حتّى الحكم المعروف الذي يُمثّل فيه في المقام، وهو وجوب تقديم صدقة بين يدي نجواهم لرسول الله-، حتّى هذا أيضاً لم يُنسخ قبل حضور وقت العمل، بل حضر وقت العمل وامتثله أمير المؤمنين عليه‌السلام.
وأمّا القاعدة الثانية، فتأتي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo