< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموقف الثاني عشر: في الاستثناء المتعقِّب لجملٍ متعدّدة.
وهذا البحث لا يختصّ بالعموم، بل يشمله والإطلاق على حدٍّ سواء.
وقع البحث منذ القدم بين المحقّقين في علم الأصول، في أنّه إذا تعدّدت الجمل وذُيّل آخرها بالاستثناء المشتمل على ما يقبل الرجوع إلى الجميع، إمّا مضمراً أو مظهراً، فهل يكون الاستثناء راجعاً إلى خصوص الجملة الأخيرة التي هي القدر المتيقّن على كلّ حالٍ في العادة، أم أنّه يرجع إلى الجميع، أم نُبتلى بالإجمال، فلا يُتمسّك حينئذٍ إلّا بالقدر المتيقّن؟
وهذا البحث ليس له مثال شائع في الفقه فيما نعلم، لكنّها مسألة لفظيّة واضحة قابلة لأن تكون محلّ الابتلاء فقهيّاً.
وممّن تعرّض لهذا البحث مقتضباً على عادته صاحب الكفاية رحمه‌الله. وقد اشتملت عبائره المختصرة على مدّعيات متعدّدة. وخلاصة ما يُفاد في المقام:
أنّ البحث يرجع إلى مقامين: مقام الثبوت، ومقام الإثبات؛ إذ:
يقع البحث أوّلاً عن إمكان وصلاحية الاستثناء للرجوع إلى الجميع.
ويقع البحث ثانياً عمّا هو المستظهر من الكلام إثباتاً؛ إذ موضوع حجّيّة الظهور لا يكفي فيه المقام الأوّل.
نعم، لو انتهينا في المقام الأوّل إلى امتناع الرجوع إلى أكثر من جملة، فحينئذٍ: لا يُصار إلى البحث الإثباتيّ إلّا في بعض الحالات النادرة؛ إذ في بعض الأمثلة قد يتردّد المرجع بين الجملة الأُولى والجملة المتوسّطة والجملة الأخيرة، وإلّا، ففي العادة في الأمثلة المتعارفة الجملة الأخيرة هي القدر المتيقّن للمرجع.
الذي يظهر من صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّه لا داعي للبحث في المقام الأوّل؛ إذ لا ينبغي البحث في صلاحية الاستثناء للرجوع إلى الجميع.
وأوّل ما يأتي إلى الذهن نتيجة هذا الكلام هو أنّ الأمر يرتبط بوضع الحروف، وأنّ الحروف هل هي موضوعة لعين ما وُضعت له الأسماء، أي: الوضع عامّ والموضوع له عامّ والمستعمل فيه عامّ، إلّا أنّ الخصوصيّة جاءت من قِبَل طور الاستعمال، كما هو رأي صاحب الكفاية رحمه‌الله.
لكنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله يصرّح هنا بأنّ الأمر هنا لا يرتبط بمبناه في باب وضع الحروف، بل سواء بنينا عليه أم على أنّ الوضع في الحروف خاصّ والموضوع له خاصّ أيضاً، فإنّ الأمر كذلك.
وجه ارتباط هذا بمحلّ الكلام هو من جهة دعوى أنّ الوضع العامّ والموضوع له العامّ يخوّل أداة الاستثناء بالرجوع إلى جميع الجمل، ولا يلزم من هذا استعمال اللّفظ في أكثر من معنى؛ إذ يكون الرجوع إلى الجميع من باب الكلّيّ والمصداق، فيكون مصداق الاستثناء متعدّداً، ولا يلزم منه أيّ تعدّدٍ آخر. بينما على القول بأنّ الموضوع له خاصّ (سواء كان الوضع عامّاً أم خاصّاً)، فلا محالة سوف يكون المستعمل فيه خاصّاً، فإذا كان خاصّاً، ورجع إلى خصوص جملةٍ من الجمل، ولو الأخيرة منها، فلا يلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى. بينما إذا رجع إلى أكثر من جملة فيلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً، وهو ممتنع عقلاً، أو خلاف الظاهر جدّاً.
يقول صاحب الكفاية رحمه‌الله: لا يَفْرق الأمر في مقالتنا هنا في صلاحية الاستثناء للرجوع إلى الجميع بين كوننا قائلين بأنّ الوضع في الحروف من قبيل الوضع والموضوع له العامّين أو الخاصّين؛ إذ الاستثناء إخراج، والإخراج في الكلّ واحد، وإن كان المُخْرج أو المُخْرَج منه متعدّداً، ولا تعدّد في مفهوم الإخراج في المقام، وليس دور الاستثناء أكثر من ذلك، وهو الدلالة على الإخراج، وإنّما يأتي التعدّد من جهة الأطراف، لا من جهة نفس الإخراج.
بيان ذلك: أنّك لو قلت: أكرم العلماء وأطعم الفقراء واحترم السادة إلّا الفاسق منهم، فهنا يوجد جمل متعدّدة تعدّد فيها المحمول (الإكرام والإطعام والاحترام) والموضوع (العلماء والفقراء والسادة)، فلمّا قيل: إلّا الفسّاق منهم، فهو في قوّة قوله: أستثني الفسّاق منهم. فالضمير له في حدّ نفسه قابليّة الرجوع إلى الجميع؛ فإنّه مبهم يتخصّص ويتحصّص بحسب مرجعه، فيمكن إرجاعه إلى الجميع ولو بدعوى: إيجاد جامع انتزاعيّ، ولو كان هو عنوان (الجميع)، منهم، أي: من جميع ما ذكرنا.
فيقول صاحب الكفاية رحمه‌الله: إنّ (إلّا) مستعملة فيما يوازي (أُخرج) أو (أستثني)، (بما يناسبها على مستوى المعنى الحرفيّ) وحينئذٍ: فلا يُراد منها أكثر من هذا. وأمّا كون المُخرج مُخرجاً من إكرام أو مُخرجاً من علماء أو فقراء أو سادة، هذا إنّما تحدّد ببركة الطرفين، الموضوع والمحمول، وإلّا، فإنّ الإخراج في الجميع إخراج واحد، ومفهوم الإخراج ومعناه لم يتعدّد، بل الذي تعدّد هو مصداق الإخراج، ليس أكثر. لذلك، لا نجد مانعاً من رجوع الاستثناء على مستوى القابليّة والصلاحيّة إلى الجميع بهذه النكتة، ولو كنّا قائلين بأنّ الوضع والموضوع له في الحروف خاصّ. (كلامه رحمه‌الله صريح في أنّه يتحدّث عن الحروف، حتّى لا يقول قائل إنّه يتحدّث عن الاستثناء الاسميّ).
وهذا الكلام منه رحمه‌الله وقع موقع البحث والإشكال عند المحقّقين؛ إذ أفادوا أنّ هذا البحث ـ لكي نقول بالإمكان ـ يرتبط بأمرين:
أوّلهما: في بيان حقيقة النسب والروابط.
والثاني: في جواز أو عدم جواز استعمال اللّفظ في معنيين.
والصحيح في محلّه أنّ المقصود من النسب والروابط ومن كونها شخصيّة، هو أنّ النسب التي تحتاج إلى طرفين، كالظرفيّة والاستعلائيّة ونحوهما، المقصود من شخصيّتها هو تشخّصها بتشخّص طرفيها، وهي غير قابلة للتعدّد والتكثّر والتغيّر والتكرّر، بل لو كُرّرت الجملة مرّتين، فهذه وجوديّاً تكون نسبة ثانية، لا عين النسبة الأُولى؛ إذ النسبة متمحّضة في الربط الفعليّ بين أمرين بالحمل الشائع الصناعيّ، فلا مانع من أن تكون كلّيّة بكلّيّة طرفيها، لكنّها شخصيّة بهذا المعنى الذي ذكرناه. وهذا معنى ما يُقال من أنّ النسب والروابط إيجاديّة، لا إخطاريّة.
وبناءاً على هذا، فالاستثناء نسبة من النسب؛ إذ هو يُخرج من المستثنى منه المستثنى (الكلام في الاستثناء المتّصل، لا المنقطع، الذي هو إضراب حقيقةً، لا استثناء). وحينئذٍ فنقول: إنّ الاستثناء من الجمل المتعدّدة لا يكون استثناءاً واحداً بالحمل الشائع، بل هو استثناءات متعدّدة؛ لأنّ كلّ جملة فلها نسبة ورابط خاصّ، فنحن نحتاج إلى نسبٍ متعدّدة بالحمل الشائع بتعدّد الجمل، فيُقال: إنّ الاستثناء المتعقّب للجملة الأخيرة هو استثناء واحد، ولا يوجد جامع حقيقيّ وجوديّ بين الحروف، وإذا لم يوجد جامع حقيقيّ، فحينئذٍ: يأتي الإشكال في المقام.
ومن هنا، ذهب بعض المحقّقين إلى التسليم بالإشكال بلا كلام.
لكنّ بعضهم سعى إلى حلّ الإشكال على أساس أنّهم يجوّزون استعمال في أكثر من معنىً.
لكن، لا بدّ لنا أن نرى أنّ هذا هل يحلّ المشكلة أم لا؟
إذ حتّى من يجوّز استعمال في أكثر من معنىً عقلاً، بناءاً على مسلك العلاميّة في الوضع، وأنّها ليست من باب إفناء اللّفظ في المعنى، فهو يسلّم بأنّه خلاف الظاهر؛ إذ الكلام هنا هو على مستوى القاعدة، حيث لا توجد قرينة خاصّة. فالجواز العقليّ وإن كان ثابتاً، لكنّه يبقى خلاف الظاهر، فنحتاج إلى قرينة خاصّة لو ثبت الإمكان في حدّ نفسه.
في المقابل، نفس القائلين بأنّ الوضع في الحروف والموضوع له فيها خاصّان، حاول بعضهم أن يُوجد مخارج في المقام تلتقي مع القول بأنّ الموضوع له خاصّ في النسب والروابط، ومع ذلك، هنا في الاستثناء يجوز ويمكن رجوع جملة الاستثناء إلى الكلّ، لا إلى خصوص واحدة من الجمل.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo