< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/01

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام فيما ما مهّدنا به للحديث عن المراد من مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.
وكان الكلام في مفهوم الموافقة، قبل الحديث عن تخصيص العامّ بالمفهوم توطئةً وتمهيداً له. وقد تحدّثنا عن مفهوم الأولويّة، وذكرنا أنّه ينقسم إلى قسمين:
أوّلهما: مفهوم الأولويّة القائم على الفحوى العرفيّة. وقد تمّ الكلام فيه.
وقد ختمنا البحث السابق بنكتةٍ ثمينة أفادها المحقّق النائيني رحمه‌الله، وهي أنّ مفهوم الأولويّة في باب الفحوى العرفيّة يكون قائماً على أساس أنّ المفهوم من الدليل أنّ المجعول كبرى يُعدّ المنصوص عليه هو المصداق الأضعف بين مصاديقها بالقياس إلى ما فوقها.
ونضيف نحن إلى ما ذكره: أنّه إذا كان المذكور من مصاديق العامّ المفهوم من الخطاب ليس أدون المصاديق على الإطلاق، فلا نستطيع أن نقتنص كبرى كلّيّة تشمل مصداقاً أضعف من المصداق المذكور في الخطاب، مثلاً: في باب الإيذاء أو الإهانة، قد يُقال عرفاً: إنّ كلمة (أفّ) في موضع التذمّر والتضجّر من الأبوين هي أضعف المصاديق. لكن لو افترضنا وجود مصداق أضعف منها، وكان هذا المصداق يستوجب الإيذاء أيضاً، لكن بدرجة أضعف من كلمة (أفّ)، فلا نستطيع أن نكتشف من ﴿لا تقل لهما أفّ﴾ حرمة مطلق الإيذاء الشامل حتّى للمصداق الأضعف، حينئذٍ: لا بدّ أن تتقيّد الكبرى بما نقطع بكونه مساوياً للمذكور، فضلاً عمّا لو كان أعلى منه فيما يشتركان فيه من المصداقيّة لعنوانٍ يَثبت في المقام. طبعاً، المصداق المساوي لا يُطلق عليه اصطلاحاً مفهوم الأولويّة.
لكن يتّضح بهذا: أنّ ما سُمّي في الكلمات بإلغاء خصوصيّة المورد في كثيرٍ من حالاته هو ينضوي تحت هذه الكبرى التي نتحدّث عنها؛ فإنّ معنى إلغاء الخصوصيّة أساساً هو نفس هذه النكتة التي تُذكر في مفهوم الأولويّة حيث يكون المفهوم يُنتقل إليه عرفاً من الكلام.
نفس هذه النكتة هي التي تُذكر في باب إلغاء الخصوصيّة، فعندما يقول زرارة للإمام عليه‌السلام ـ مثلاً ـ : أصاب ثوبي دم رعاف، فيُدّعى فقهيّاً أنّه تُلغى خصوصيّة الرعاف؛ إذ دم الرعاف ليس سوى دم، وتُلغى خصوصيّة ثوب زرارة؛ إذ هو ليس إلّا ثوباً، بل يُلغى أيضاً عنوان الثوبيّة، ويقتنص حينئذٍ من ذلك كبرى كلّيّة وهي أنّ الدم يُنجّس ما يلاقيه، ويُكتشف من هذا أيضاً أنّ الدم نجس، بالملازمة بين المنجّسيّة والنجاسة. وهذا يُقال له إلغاء الخصوصيّة، وبعضهم يسمّيه قاعدة الاشتراك الصغرى (وأمّا قاعدة الاشتراك المتعارفة، فهي قاعدة الاشتراك بين المكلّفين، فإذا كُلّف شخص ما بتكليف فتُلغى خصوصيّة المكلّف، وأمّا هنا، فهو اشتراك على مستوى الموضوع أو المتعلّق) لكنّه لا يُسمّى في الاصطلاح مفهوم الأولويّة.
فحينئذٍ نقول: لماذا تُلغى الخصوصيّة؟ والجواب: وهو أنّ هناك كبرى كلّيّة فُهمت من هذا الخطاب، وهي: أنّ الدم نجس، وأنّه ينجّس ما يلاقيه.
من هنا، يصبح ثوب غير زرارة وغير الثوب والدم غير الرعافيّ مصاديق لهذه الكبرى الكلّيّة المفهومة من الخطاب، لكنّ الانتقال هنا هو من المساوي إلى المساوي. وعندما نحلّل هذه الدلالة، سواء في باب الأولويّة أم في باب إلغاء الخصوصيّة (ولا بأس بإطلاق مفهوم الموافقة في باب إلغاء الخصوصيّة، لأنّ مفهوم الموافقة أعمّ من المساوي، لكنّ الانتقال هنا من المساوي إلى مساوٍ يُنتقل إليه بالفحوى العرفيّة، لا بدلالة عقليّة، فالعرف هنا لا يرى خصوصيّة لدم الرعاف، ولا لثوب زرارة، بل كلّها يحملها على المثال فقط)، إذا أردنا أن نحلّل دلالة جملة المنطوق على مفهوم الموافقة، سواء ما يُنتقل إليه بدلالة عرفيّة من نفس الخطاب، والمقصود من الدلالة العرفيّة ليست علاقة الألفاظ بالمعاني فقط، قد يكون مدلول التزاميّ للّفظ هو الذي أوجب الانتقال، وقد يكون أمر خارج عن اللّفظ، لكنّ الارتكاز يُلغي خصوصيّة الملفوظ. الدالّ دائماً هنا هو الألفاظ؛ لأنّه لا يتعامل مع ما يجول في نفس عقل المولى، بل يتعاطى مع ظاهر خطابه، فهو في البداية يواجه منطوقاً، ثمّ ينتقل من هذا المنطوق إلى المفهوم بواسطة الانتقال من المنطوق إلى المعنى، (وإلّا، فالألفاظ بما هي لقلقة لسان لا يُنتقل منها إلى شيء)، فانتقل من اللّفظ إلى المعنى، وبعد ذلك، فمن الواضح: أنّه في العادة فالمنتقَل إليه ليست بينه وبين المنتقَل منه علاقة على مستوى الوضع اللّفظيّ، بل هنالك واسطة للانتقال هي التي تستوجبه، وهي ارتكاز قائم لدى المخاطَب الموضوعيّ النوعيّ المتعارف على أنّ مورد الخطاب لا خصوصيّة ولا موضوعيّة له؛ ذلك أنّ كلمة (أفّ) بحسب ارتكازنا عقلائيّاً ومتشرّعيّاً من الواضح أنّه لا موضوعيّة لها لتكون محرّمة بعنوانها بالخصوص، ولا تحتمل شيئاً من هذا القبيل، وإلّا، لو احتُملت الموضوعيّة فلا يمكن الانتقال منها إلى شيء آخر، حتّى لو كان مظنون الأولويّة، بل نقع في أحضان القياس حينئذٍ كما هو واضح.
الفرق بين مفهوم الموافقة وبين القياس هو أنّنا نقطع بأنّ المذكور في المنطوق لا موضوعيّة له، وأنّ الموضوع هو أمر كلّيّ وراءه لا توجد علاقة لفظيّة مفهوميّة في العادة بين ما نُطق وبين الموضوع الملحوظ (مقابل الموضوع الملفوظ)، بل العلاقة بينهما هي علاقة مصداق مع مفهوم في الحقيقة. فإذا اكتشفنا من (أف) حرمة إيذاء الأبوين ولو كان في مستوى كلمة (أف)، وهي من خارج الخطاب نعرف أنّها مصداق للإيذاء، فالانتقال إلى حرمة إيذائهما بالضرب ـ مثلاً ـ، ونحو ذلك من المصاديق التي هي مصاديق أشدّ عرفاً من (أفّ)، ما كنّا لننتقل إليها إلّا ضمن انتقال من اللّفظ إلى معناه، وهو كلمة (أفّ)، ومن المعنى إلى الكبرى الكلّيّة التي بواسطتها ننتقل إلى بقيّة المصاديق التي هي أَوْلى من المذكور أو مساوية له. وذلك بتوسّط الارتكاز الذي يجعلنا ننتقل من مورد الخطاب بعد درك معناه وملاحظة المراد منه بحسب مناسبات الحكم والموضوع، فنجد أنّه لا يُحتمل أن يكون هناك موضوعيّة لمورد الخطاب بخصوصه، وإذا لم يكن هناك موضوعيّة لمورد الخطاب بخصوصه، فيعني هذا أنّه مصداق لموضوع ملحوظ وإن لم يُلفظ، فلماذا عُدل عن ذكر المفهوم الكلّيّ إذاً وجيء بهذا؟
هذا له دواعٍ: إمّا أنّه بُيّن أضعف المصاديق، وهذا أبلغ في بيان سعة وشمول المفهوم الكلّيّ؛ لأنّه لو قال: لا تُؤذهما، لأمكن أن يُشكّ في إطلاقها لمصداق (أفّ)؛ لأنّه مصداق خفيّ للإيذاء، لكن عندما أراد أن يقول: (لا تؤذهما)، فقال: (لا تقل لهما أفٍّ)، فهمنا أنّ مراده حرمة إيذائهما بالمعنى الواسع الشامل حتّى لهذه المصاديق الخفيّة، فإذا افترضنا أنّ هذا أضعف المصاديق المتصوّرة في العادة عرفاً فنفهم حينئذٍ أنّ كلّ المصاديق داخلة تحت هذه الكبرى الكلّيّة غير الملفوظة، فهذه الكبرى غير الملفوظة انتقلنا إليها في الحقيقة بتداعي المعاني، لا بواسطة الألفاظ، أي: انتقلنا من مدلول كلمة (أف) إلى مدلول كلمة (لا تضرب)، لكن لم ننتقل إلى الضرب من كلمة (أف) بالمباشرة، بل بواسطة اقتناص العنوان الكلّيّ الذي تمثّله كلمة (أف). هذا ما لم يذكره كثير من الأصوليّين، ونبّه عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله.
ومن هنا نفهم بشكلٍ واضح أنّه في غالب الحالات (احتياطاً نقول: في غالب الحالات، وإلّا، فلا يحضرنا غير ذلك) مفهوم الموافقة يكون الأمر فيه انتقالاً من المدلول إلى المدلول، فإذا كان الارتكاز الذي نَقَلَنا ارتكازاً عرفيّاً فالانتقال عرفيّ، غاية الأمر: ليس بمعنى وجود علاقة بين لفظين على مستوى المواضعة اللّغويّة، وإذا لم يكن هناك علاقة، فلا يكون هناك انتقال أبداً من كلمة (أف) إلى كلمة (ضرب)، بل ننتقل من كلمة (أف) إلى المفهوم الكلّيّ الذي يكون (أف) والضرب كلاهما مصداقين له، والضرب أشدّ في المصداقيّة له من كلمة (أف)، هكذا تكون الأولويّة.
وفي باب أيضاً التساوي الكلام هو الكلام، فعندما تكون الفحوى فحوى عرفيّة، وانتقلنا من كلمة (أف) إلى كلمة (آخ) ـ مثلاً ـ (إذا كان يُخاطَب بها الوالدان ـ مثلاً ـ، وكانت تفيد إيذاءاً أيضاً)، فالانتقال أيضاً لم يكن لعلاقة مفهوميّة، وليس الانتقال ممكناً هنا إلّا في حالة واحدة، وهي إحراز التساوي في المصداقيّة للعنوان الكلّيّ الذي تنقلنا إليه كلمة (أف)، وإلّا، لو احتملنا عدم كونها مصداقاً للعنوان الكلّيّ، وهي ليست مصداقاً لكلمة (أف)؛ لأنّها موازية لها مفهوماً ومصداقاً، أو احتملنا كونها مصداقاً مخفّفاً عن كلمة (أفّ)، فلا نستطيع حينئذٍ أن ننتقل إليها، أي: في حالات إحراز الأضعفيّة من المذكور لا يمكن الانتقال، وكذا لا يمكن الانتقال في حالات الشكّ في التساوي (فإنّه يكون عملاً مغلّفاً بالقياس).
وقد كان الكلام في الأولويّة، وإنّما جرّنا البحث إلى التساوي لأنّهما ارتكازاً من بابٍ واحد هنا.
بقي الكلام في القسم الثاني من مفهوم الأولويّة، وهو لا يُعبّر عنه بمفهوم الأولويّة عادةً، حيث يكون الانتقال عقليّاً، لا لفظيّاً، كما لو ورد الخطاب: سابّ الإمام كافر. فيُقال: ليس المناط في كفر سابّ الإمام أنّ الإمام بشر؛ فإنّ سبّ البشر بمجرّده لا يكفّر، ولا كونه قائداً؛ فإنّ سبّ القائد بمجرّده أيضاً لا يكفّر، بل إنّما هو بمناط كون الإمام عليه‌السلام صاحب الحرمة العظيمة من الله لكونه منصوباً من قِبَله خليفةً على أرضه، بالسبر والتقسيم، لا نجد سبباً لتكفير سابّ الإمام سوى هذه الجهة القدسيّة في الإمام. فإذا كان سابّ الإمام كافراً من باب الحرمة، فمن هو الأعظم حرمةً؟ الإمام أم رسول الله-؟ واضح أنّ رسول الله- أعظم حرمةً منه، فسابّ رسول الله- حينئذٍ يكون كافراً، لكنّ هذا الانتقال ليس انتقالاً عرفيّاً، بل احتاج إلى ضمّ مقدّمات، وهي تتفاوت بين حالة وحالة، وبين مثال ومثال، بل هي قد تكون في بعض الأمثلة عقليّة نظريّة خفيّة تعتمد على مقدّمات وبراهين كلاميّة أو فلسفيّة، وإذا كان الأمر كذلك، فلكي يحصل الانتقال لا بدّ من معرفة خصوصيّات الإمام، ولا بدّ من إلغاء احتمالات الخصوصيّة التي تجمعه مع غيره، حتّى تُحرز الأولويّة، فهنا حتّى ننتقل إلى الحرمة، وحتّى نُحرز أنّ الحرمة في المصداق الثاني موازية أو أعلى، فكلّها تعتمد على براهين ومبانٍ قد يختلف فيها الناس، وكلّ في مقام الاستدلال والاستنباط يعتمد على متبنّياته التي ساقته الأدلّة إليها، إمّا في نفس العلم المبحوث، أو في العلم الذي يمثّل أصلاً موضوعاً لهذه المسألة. فهذا الانتقال ليس انتقالاً عرفيّاً، وحيث لا يكون الانتقال عرفيّاً وفحوى خطاب، بل بضميمة براهين ومقدّمات عقليّة، فهو لم يعد من شؤون الخطاب، فيمكن أن يُقال هنا: إنّه لا علاقة لهذا الجانب من البحث حينئذٍ بالأدلّة اللّفظيّة، فلا يمكن طرح تخصيص مفهوم أو تقييد مطلق بمفهوم موافقة تمحّضت الدلالة عليه في أنّها عقليّة، يعني: الانتقال في الحقيقة من مورد الخطاب إلى كبرى كلّيّة تنطبق على هذا بالأولويّة كان بواسطة براهين عقليّة، لا بواسطة فحوى عرفيّة، حيث يكون كذلك، فحينئذٍ: قد يُقال: من الواضح جدّاً بأنّه لا مجال للتقييد والتخصيص، وقد يقول قائل: بل نخصّص هنا ونقيّد؛ لأنّ المسألة برمّتها ترجع إلى مورد التخصيص اللّفظيّ. وسيأتي البحث في ذلك.
نفس الكلام الذي ذكرناه في الفحوى العرفيّة يأتي هنا، في الانتقال من مصداق إلى مصداق مساوٍ، والانتقال من مصداق إلى مصداق أعلى، وبنفس الوتيرة والطريقة. غاية الأمر: هناك يوجد ارتكاز عرفيّ عاديّ، وهنا لا يكفي فيه الارتكاز العرفيّ العاديّ، بل يحتاج إلى ضمّ مقدّمة تَثبت بأدلّتها وبراهينها العقليّة والنقليّة (وإن كانوا لا يمثّلون عادةً إلّا بالمقدّمات العقليّة)، مثلاً: من ثبت عنده تساوي حرمة الإمام عليه‌السلام مع حرمة الرسول-، ودلّ الدليل ـ مثلاً ـ عند المسلمين جميعاً على تكفير سابّ الرسول-، وثبت لدينا أنّ مستوى الحرمة واحد تماماً، فمن الواضح: أنّنا هنا ننتقل ونُفتي بكفر سابّ الإمام؛ لروايةٍ وردت في سبّ الرسول، بينما من لا يعتمد على نفس هذه المباني الكلاميّة، فلن يقبل بكفر سابّ الإمام، فهو لا يرى حرمته موازية لحرمة الرسول-، فلا يمكنه الانتقال.
من هنا، فليس نفس الدليل هو الذي يجعلنا ننتقل هنا، ولا ارتكاز أو فحوىً عرفيّة عقلائيّة، بل ابتنت على براهين ومقدّمات علْميّة، قد تكون عقليّة وقد تكون نقليّة. وسنبحث مدى أثر هذا على التخصيص بعد المقدّمة إن شاء الله.
هذا مفهوم الموافقة في باب الأولويّة وفي باب المساواة التي يكون الانتقال فيها من دليل إلى دليل.
ومن أمثلة هذا، (وليس قسماً جديداً كما توهمه بعض الكلمات) ما لو كان الدليل قد نصّص على العلّة، كما لو قال: حُرّم الخمر لإسكاره.
فهنا، الاحتمالات البدويّة هي: أن يكون عنوان الخمريّة هو السبب المستقلّ للتحريم، أو أن يكون الإسكار هو السبب المستقلّ للتحريم، أو أن يكون لكلّ منهما مدخليّة في التحريم.
مثال آخر: لو قيل: أطعم هذه الرمّانة ابني لأنّها كبيرة، فهنا، لا يحصل انتقال من هذا التعليل إلى كلّ فاكهة كبيرة، فهذا هنا ليس من مداليل الألفاظ، مع أنّ التعليل موجود هنا كما وُجد هناك، فما هو الميزان في هذا؟ يأتي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo