< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/24

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى ثمرة البحث السابق.
وقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه‌الله أنّه يمكن أن يُقال بظهور الثمرة في مقامين:
المقام الأوّل: يُبنى فيه ظهور الثمرة على مبنى المحقّق القمّيّ رحمه‌الله صاحب القوانين الذي ذهب إلى اختصاص حجّيّة الظهورات بمن قُصد إفهامه. فإذا قلنا بأنّ الخطابات الشفاهيّة مختصّة بالمشافهين، فلا تشمل الغائبين، فضلاً عن المعدومين، فالمقصود بالإفهام هم خصوص المشافَهين، وغيرهم غير مقصود بالإفهام، فإذا لم يكن غيرهم مقصوداً بالإفهام فلا يمكن أن نتمسّك بإطلاق الدليل للشمول إلى غيرهم؛ ذلك أنّهم لم يكونوا مقصودين بالإفهام.
وهذا الكلام أوّلاً مبنيّ على هذا المبنى، وأنّ الإنسان الذي يشمله الخطاب إذا لم يكن مقصوداً بالإفهام، لكنّه سمع اتّفاقاً، أو بلغه الخبر كذلك بلوغاً يمكن الاعتماد عليه وجداناً أو تعبّداً، فإنّ المحقَّق في محلّه ـ وسيأتي في مباحث حجّيّة الظهور ـ أنّ الظهور يكون حجّة بالنسبة له ما دام الخطاب يشمله، وإن لم يكن مقصوداً بالإفهام بالخطاب مباشرةً، بل حتّى لو قُصد عدم إفهامه مع كون الخطاب شاملاً له، وكونه فرداً من أفراده، وينطبق في حالته موضوعه، فإنّه يكون مشمولاً للتكليف حينئذٍ. وتمام البحث في هذه الجهة، من ناحية القصد أو عدم القصد بالإفهام، هناك.
وأجاب المحقّقون بأنّ لنا أن نمنع عن كون المعدومين، فضلاً عن غير الحاضرين، غير مقصودين بالإفهام؛ إذ يُدّعى أنّ كلّ من يشمله الحكم الشرعيّ فهو مقصود بالإفهام في قضايانا التشريعيّة؛ إذ قضايانا التشريعيّة ـ والتوضيح منّا ـ هي من قبيل القضايا الحقيقيّة وإن صُدّرت بأدوات الخطاب، كما تقدّم شرح مبنى المحقّق النائيني رحمه‌الله. وحينئذٍ: فحتّى لو بنينا على مبنى المحقّق القمّيّ رحمه‌الله، فإنّ المسألة حينئذٍ تبتني على القول بأنّ غير المشافَه غير مقصود بالإفهام، فإذا أثبتنا أنّ غير المشافَه مقصود بالإفهام، في مثل التشريع الإسلاميّ والقرآنيّ، فإنّه حينئذٍ يكون مشمولاً للخطاب حتّى على مبنى المحقّق القمّيّ رحمه‌الله، فلا تظهر الثمرة حينئذٍ.
نعم، أصل الربط هنا ـ في تقديرنا ـ لم يكن ينبغي؛ إذ بحث المقصود بالإفهام لا بدّ أن يُنقَّح المراد منه على وجه الحقيقة؛ إذ على بعض الوجوه الظاهرة قد يُراد منه نفس المراد بعنوان بحثنا هنا، فيُقال: إنّ المقصود بالإفهام هو المشافَه في الخطابات المشتملة على أداة الخطاب، وأمّا غيره فيحتاج إلى التشبّث بأذيال قاعدة الاشتراك وما ناظرها. فإذا كان هذا هو المقصود بالإفهام، فهذا تكرار لمحلّ بحثنا، وليس شيئاً آخر ليُربط به ثمرة محلّ بحثنا حينئذٍ. وأفضل ما قيل في هذا المجال حينئذٍ هو كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله، كما تقدّم شرحه، وهو أنّ القضايا إذا كانت خارجيّة، وصُدّرت بأدوات الخطاب، فلا محيص لنا إلّا بالقول بأنّ نفس الخطاب لا يشمل الغائبين، فضلاً عن المعدومين. وأمّا إذا كانت من قبيل القضايا الحقيقيّة، التي لا تُصدَّر عادةً بأداة الخطاب، أو صُدّرت بها لكن علمْنا أنّها قضايا حقيقيّة، كعمومات الكتاب والسنّة، فإنّها حينئذٍ سوف تكون شاملةً بهذه القرينة، بالتخريج المتقدّم، لكلّ من تشمله، ونقول: إنّ كلّ من تشمله فهو مقصود بالإفهام حينئذٍ؛ لأنّه لا نتصوّر أن يشرّع شارعنا تشريعاً يعمّ جميع المكلّفين (وهذا معنى كون القضيّة حقيقيّة) ولا يكون تشريعه يُقصد منه إفهامهم جميعاً. نعم، بعضهم يُقصد إفهامه بلا واسطة، أو بواسطة واحدة، كالنبيّ الأعظم-، وبعضهم يُقصد إفهامه بالوسائط الموصلة إليه، نظير تلقّي بطون الوقف اللّاحقة من البطون السابقة. وهذا لا إشكال فيه على الإطلاق.
فالظاهر: أنّه على التحرير والتخريج الصحيح لهذا البحث، فلا يبقى أيّ تأثير لكلام المحقّق القمّيّ رحمه‌الله في المقام.
الأهمّ من هذا هو ما ذُكر في المقام الثاني، وهو الثمرة الثانية.
حيث أفاد المحقّق الخراسانيّ رحمه‌الله أنّنا إن قلنا باختصاص الخطابات بالمشافَهين، فإنّ من الصعب جدّاً أن نتمكّن من التمسّك بالإطلاق لشمول الخطاب لغير المشافَهين، مع عدم اتّحاد الصنف فيما بينهما، أي: بين المشافَهين وغير المشافَهين. ومُثّل من قِبَل جماعة من المحقّقين لذلك بما لو جاء الخطاب شفاهيّاً، من قبيل الآية الآمرة بإقامة صلاة الجمعة، أو العمومات الخطابيّة الآمرة بإقامة صلاة الجمعة، والتي لا شكّ في أنّها عند صدورها هي والروايات، كانت تخاطب أناساً مشتملين على خصوصيّة أنّهم موجودون في عصر الحضور، وهم صنف يُقابلهم صنف آخر، وهم الذين يعيشون في عصر الغيبة، وهم بالغون مكلّفون بشرائط التكليف العامّة، فإذا قلنا باختصاص الخطابات بالمشافَهين لا نستطيع أن نتمسّك بإطلاق الخطاب للشمول إلى غير المشافَهين الذين لا يتّحدون مع المشافَهين في الصنف. قد نستطيع أن نتمسّك بإطلاق الخطاب للشمول إلى غير المشافَهين الذين يتّحدون مع المشافَهين في الصنف، كالغائبين عن مجلس التخاطب من الذين عاشوا عصر الحضور. لكنّ التمسّك بهذه الإطلاقات لمن يعيش عصر الغيبة، يشكل الأمر معه من جهة التشكيك في شمول إطلاق الخطاب لهم؛ لعدم اتّحادهم معهم في الصنف.
مثّل بعض المحقّقين بمثالٍ آخر: يا أيّها المؤمنون تصدّقوا على الفقراء. وفي زمن صدور هذا الخطاب، كان المؤمنون جميعاً هاشميّين. ويُحتمل أن يكون المراد إكرامهم لفقرهم ولهاشميّتهم، ولكن لم يرِد ذكرٌ للهاشميّة في الدليل. فهل نتمسّك بإطلاق دليل الخطاب للشمول لفقيرٍ غير هاشميّ. (هذا المثال لا علاقة له بالمكلّف، لكنّ الفكرة هي نفسها).
صاحب الكفاية رحمه‌الله قال: هذا الشكّ إنّما يتأتّى وتكون له صورة بناءاً على كون الخصوصيّة التي فقدها الصنف الثاني هي خصوصيّة دخيلة وقيد في موضوع الحكم، إمّا على سبيل الشرطيّة، أو انتفاء المانعيّة. ولا يَثبت للحكم شرط من الشرائط إلّا إذا بيّنه المولى، فإذا ترك المولى بيان ذلك، فهذا يكشف عن عدم كونه دخيلاً في حكمه.
وبعبارةٍ أُخرى: إذا شككنا في وجود حكم من الأحكام، نبني على عدمه، حتّى يتبيّن ويصل بإحدى أدوات الإيصال التي يُحتجّ بها. وكذا إذا شككنا في قيد حكمٍ من الأحكام، فما لم يبيّنه الشارع ويصل إلينا بإحدى أدوات الإيصال التي يُحتجّ بها نبني على العدم. وبناءاً على هذا، فإذا شككنا في دخالة الصنف المذكور، أي: الخصوصيّة التي صنّفت، وهي كونهم في عصر الحضور، أو كونهم هاشميّين، فنتمسّك بالإطلاق لنفي هذه الخصوصيّة.
وعلى هذا، انتهى صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى إنكار الثمرة الثانية أيضاً، ولم يقبل بها.
ما جعل غير واحدٍ من المحقّقين يتصدّون للمناقشة في المقام.
ما أراد أن يقوله المحقّق الخراسانيّ رحمه‌الله هو أنّه سواء قلنا بالاختصاص بالمشافَهين أم لم نقل به، فإنّ الكلام واحد في هذه الثمرة؛ إذ حتّى لو قلنا بعدم الاختصاص وشككنا في دخالة الصنف، فإذا كان هناك مانع من جريان الإطلاق، فهو في الاثنين معاً. وإذا كان غير مانع، ففي الاثنين معاً أيضاً.
وهذا الكلام تصدّى غير واحد من المحقّقين له، وأفضل من بيّن النكتة في هذا الجانب هو الشهيد الصدر رحمه‌الله في تقريراته، وهو أنّ الخصوصيّات التي ترتبط بالإطلاق، ليتنقّح موضوع الإطلاق، على نحوين:
خصوصيّات مظنّة التغيّر والتبدّل، حتّى في العصر الواحد، وحتّى في الفرد الواحد، كالعدالة والفسق، والعلم والجهل، والتلبّس بأفعال معيّنة، كمن يصلّي صلاة اللّيل ولا يصلّي، أو الصغر والكبر. فالمشافَه نفسه قد يكون عادلاً ثمّ يصير فاسقاً، أو قد يكون فاسقاً ثمّ يتوب ويصير عادلاً، فهنا، مقتضى الحكمة أنّ الشارع عليه أن يبيّن؛ لأنّه حتّى بالنسبة للمشافَهين يحصل التغيّر والتبدّل. فإذا احتملنا دخالة خصوصيّة العدالة، ذلك أنّ المشافَهين أو موضوع التكليف كانوا عدولاً، فاحتملنا مدخليّة العدالة، هنا، مقتضى الحكمة أنّ الشارع عليه أن ينبّه على ربط حكمه بالعدالة؛ إذ من الممكن في أيّ واحدٍ من هؤلاء أن يتغيّر حاله.
وأمّا إذا كانت الخصوصيّة المشكوك دخالتها سنخ خصوصيّة يشتمل عليها جميع المشافَهين، ولكنّها غير قابلة للتغيّر والتبدّل، كخصوصيّة عصر الحضور وغير عصر الحضور، أو كونه هاشميّاً وعدم كونه هاشميّاً، فإذا خاطب الشارع أُناساً خطاباً شفاهيّاً، وكانوا مشتملين على صفةٍ كذلك لا تقبل التغيّر والتبدّل في العادة، فلا تقتضي حكمته أن يُنصّص على دخالة قيدٍ هو يعلم أنّه موجود فيهم.
فإذا كان الخطاب خطاباً شفاهيّاً، وشككنا في شموله لغير المشافَهين، فحينئذٍ: إن اتّحدوا معهم في الصنف يصحّ التمسّك بالإطلاق، وإن لم يتّحدوا معهم في الصنف فلا يصحّ أن نقول: إنّه يصحّ التمسّك بالإطلاق؛ لأنّه أساساً لم يأتِ بقضيّة حقيقيّة كلّيّة كبرويّة، وإنّما جاء بخطاب شفاهيّ، والذين شافههم كلّهم مشتملون على هذه الخصوصيّة غير القابلة للتبدّل والتغيّر، فالتعدّي منهم إلى غيرهم حينئذٍ يكون من قبيل القياس، لا من قبيل التمسّك بالإطلاق.
لا يُقال: لو أراد الشارع هذه الخصوصيّة لذكرها في دليله.
فإنّه يُقال: الكلام في الخطاب الشفاهيّ، لا في القضيّة الحقيقيّة الكبرويّة الكلّيّة، وعليه: فهذه الثمرة ثمرة ظاهرة.
لكن، ما أردنا قوله: إنّه في الخطابات الشفاهيّة إذا كانت من قبيل القضايا الخارجيّة، فلا نستطيع أن نتمسّك بالإطلاق لغير المشافَهين من الغائبين والمعدومين حتّى لو اتّحدوا بالصنف، إلّا بالتمسّك بمثل قاعدة الاشتراك وإلغاء الخصوصيّة، أو التمسّك بارتكازٍ عامّ لا يفرّق بينهما، إلى ما هنالك، فنحتاج إلى إضافة وضميمة لكي يصحّ التمسّك بالإطلاق، ولا نستطيع أن نتمسّك به مباشرةً. وإذا انضمّت هذه الضميمة فلا نحتاج إلى التمسّك بالإطلاق أصلاً.
وإذا كانت القضيّة من قبيل القضايا الحقيقيّة، فحينئذٍ: وجود الخصوصيّة في الحاضرين مع عدم التنصيص عليها من قبل الشارع تحتاج إلى بيان لكونها ذات خصوصيّة؛ لأنّ الكلام في قضيّة حقيقيّة، وإن صُدّرت شكليّاً بأداة الخطاب، مثل عمومات الكتاب والسنّة، لكن علمْنا أنّ أداة الخطاب لا يُراد منها تصيير القضيّة خارجيّة، فحينئذٍ: كون الرعيل الأوّل قرشيّين أو هاشميّين ـ مثلاً ـ ونحو ذلك من الخصوصيّات، هذا لا يمنع من انعقاد الإطلاق لغير واجد الخصوصيّة؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة أساساً شاملة لهذا الصنف وللصنف الذي سيأتي في الزمان، فلو أنّ الشارع أراد تخصيص صنف خاصّ بصفة كانت موجودة في كلّ الحاضرين، ولكن في القادمين ستنعدم منهم جميعاً، أو ستوجد على نحوين، كمثال الفقير الهاشميّ، ففي المستقبل سيكون هناك فقير هاشميّ وفقير غير هاشميّ، فحينئذٍ: الحكمة تستدعي أن ينصّص على الخصوصيّة لو كانت دخيلة؛ لأنّ خطابه في الأصل شامل للجميع.
خلاصة الكلام: أنّ طريق الحلّ الذي لجأ إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله يُجنّبنا كلّ هذه الإشكالات؛ إذ الخطاب الشفاهيّ إذا كان من قبيل القضيّة الخارجيّة فهو من الأساس غير شامل لغير المشافَهين، لا الغائبين ولا المعدومين، التعميم بحاجة إلى دليل، ولا معنى هنا للتمسّك بالإطلاق ولا بغير الإطلاق؛ لأنّ الخطاب من الأساس لا يشمل غير الحاضرين، وبالنسبة إلى الحاضرين لا نحتاج إلى التمسّك بالإطلاق. وإذا كان من قبيل القضيّة الحقيقيّة، فمن الواضح: أنّ المشافَه وغير المشافَه سواء في هذه القضيّة، ما دام الخطاب شاملاً لهم، فوجود خصوصيّة في الرعيل الأوّل انعدمت في تمام الرعيل الثاني، كخصوصيّة الحضور والغيبة، أو في صنف خاصّ منهم، كالفقير الهاشميّ وغير الهاشميّ، تستدعي من صاحب القضيّة الحقيقيّة، بمقتضى حكمته، أنّه لو أراد الخصوصيّة لنصّص عليها، فيجري الإطلاق حينئذٍ، لكن هذا في طول كون القضيّة الحقيقيّة، ولا يختصّ ببحث المشافَهين وغير المشافَهين حينئذٍ.
ومن هنا ظهر أنّ هذا البحث نظريّاً له أهمّيّة وتترتّب عليه ثمرات في الفقه، لكن عمليّاً وفي العادة لم نعرف له ثمرة، فهذه الثمرة ليس لها واقع خارجيّ، ونزعم أنّه إلى يومنا هذا لم نجد لهذا البحث ثمرة فعليّة. وعليه: فلم يظهر لنا ثمرة عمليّة لهذا البحث. لكنّنا مع ذلك لا ننكرها بالكامل؛ لأنّ هذا يتوقّف على الإحاطة بكلّ فرعٍ في الفقه من أوّله إلى آخره ممّا له علاقة بهذا المبحث. نعم، له ثمرة نظريّة أصوليّة.
نعم، لو كان الحديث عن شارع متعارف، من المشرّعين العقلائيّين، الذين قد تكون قضاياهم حقيقيّة وقد تكون خارجيّة، لظهرت الثمرة. وأمّا بالنسبة إلى شارعنا الذي قضاياه التشريعيّة من قبيل القضايا الحقيقيّة، فلا.
ولا ينبغي أن يُخلط هنا، كما خلط بعض الباحثين، بين باب التشريعات وبين باب الأحكام الولائيّة، فإنّ الأحكام الولائيّة بطبيعتها تختصّ بالمشافَهين، أو بالظرف الخاصّ الذي لأجله شُرّعت، مثل منع بيع فضل الماء والكلاء، أو المنع من أكل لحوم الحمر الأهليّة في بعض الغزوات، والتي حملها بعض الباحثين من أهل السنّة على النسخ ونحوه، مع أنّ هذه كلّها أحكام ولائيّة تدبيريّة، وليست أحكام شرعيّة كلّيّة إلهيّة.
هذا تمام الكلام في الموقف التاسع.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo