< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/15

بسم الله الرحمن الرحیم

نختم البحث في الموقف السابق بتذييلين لهما علاقة بما تقدّم من البحث.
التذييل الأوّل ـ ونختصر فيهما لعدم أهمّيّتهما، وإن حاول بعض المحقّقين المعاصرين الإطالة فيهما ـ: في دوران الأمر بين التخصّص والتخصيص.
كما لو ورد عامّ (أكرم كلّ عالم)، وورد خاصّ ينهى عن إكرام زيد، ولدينا في الخارج زيدان، زيد العالم، وزيد الجاهل، ودار أمر زيد المُخرَج بالخاصّ بين كونه زيداً الجاهل، الذي هو خارج تخصّصاً عن العامّ؛ إذ ليس بعالم، وبين كونه زيداً العالم، فيكون إخراج زيد إخراجاً تخصيصيّاً من العامّ.
ولا ينحصر الأمر بما كان نتيجة تشكّل علم إجماليّ، كما في المثال، بل يجري، وتجري نكتة البحث في غيره أيضاً. كما لو ورد (كلّ ملاقٍ للمتنجّس ينجس)، (وهو متصيَّد من الروايات)، وورد أيضاً (كلّ متنجّس ينجّس)، وورد أنّ (ماء الاستنجاء لا ينجّس) (ولو كان ماءاً قليلاً حينما لاقى الموضع). فهنا يدور الأمر في (ما الاستنجاء لا ينجّس) بين كونه طاهراً فلا ينجّس، فيكون تخصيصاً لـ (كلّ ملاقٍ للنجاسة ينجس)، أو كونه متنجّساً، فلم يُخصَّص (كلّ ملاقٍ للنجاسة ينجس)، بل المخصَّص هو (كلّ متنجّس ينجّس)، فيكون ماء الاستنجاء متنجّساً، لكنّه لا ينجّس. وتظهر لذلك ثمرات. كما لو وُجد دليل رابع، وقال: (كلّ متنجّس يحرم شربه). فبناءاً على كون ماء الاستنجاء متنجّس ولا ينجّس، يحرم شربه؛ لأنّ (كلّ متنجّس يحرم شربه) قد تحقّق موضوعه. وبناءاً على أنّه تخصيص لـ (كلّ ملاقٍ للنجاسة ينجس)، يكون ماء الاستنجاء طاهراً، فلم يتحقّق موضوع النجاسة، فلا مانع حينئذٍ من جواز شربه؛ لأنّه لا يكون موضوعاً للنجاسة.
فبلحاظ الدليل (كلّ متنجّس ينجّس) يدور أمره بين التخصيص، وبين التخصّص. أمّا التخصّص، فلكونه ينضوي تحت لواء الماء الطاهر، وأمّا التخصيص، فلأنّه نجس، ومع ذلك لا ينجّس، فيتخصّص حينئذٍ دليل (كلّ متنجّس ينجّس). وقد يحصل المتتبّع على موارد من هذا القبيل.
السؤال هنا، أنّه إذا علمْنا بالنتيجة، كما لو علمْنا بخروج الفرد، ولم نعلم أنّه من قبيل التخصيص أم التخصّص، (في الفقه لدينا عادةً عموم وخصوص، ولا نجد أمثلةً يتشكّل فيها علم إجماليّ كالمثال الأوّل، هذا يختصّ بالقضايا الخارجيّة). فحينئذٍ يُقال: هل يوجد أصل يُفيد أنّ المقام هو من قبيل التخصّص لا التخصيص، بعد أن كان الفرد الخارج يمكن أن يكون من قبيل التخصّص ويمكن أن يكون من قبيل التخصيص؟
أفاد صاحب الكفاية رحمه‌الله، وتبعه على ذلك جماعة، ومنهم السيّد الخوئي رحمه‌الله، تبعاً لأستاذه المحقّق النائيني رحمه‌الله، أنّ العمدة في الاستدلال بأصالة العموم ليس هو التعبّد، ليس آية أو رواية وما إلى ذلك، بل هي السيرة العقلائيّة القائمة على أصالة العموم، أي: على أصالة التطابق بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ، ولا نجد هنا في المقام جرياناً لهذا الأصل العقلائيّ لنُثبت أنّ المقام من مقامات التخصّص، لا من مقامات التخصيص، لينتج في المثال العرفيّ الأوّل: وجوب إكرام زيد العالم، وحرمة أو كراهة زيد الجاهل، كنتيجة للتخصّص. وفي المثال الثاني أيضاً، الكلام هو الكلام؛ فإنّه لا تخصيص ـ بناءاً على إجراء أصالة العموم ـ لدليل (كلّ ملاقٍ للنجس يَنجس).
واكتفى معظم المحقّقين بهذا المقدار. ما أثار حفيظة بعض المحقّقين، وأنّ العقلاء لا يعملون بهذه الأصول جزافاً؛ إذ لا تعبّد في حياة العقلاء، والعقلاء حينما يُجرون أصالة العموم وأصالة التطابق هم يُجرون في الحقيقة قاعدة الظهور الحاليّ للمتكلّم، وعندما يُدّعى بأنّهم لا يُجرونها في المقام، فلا بدّ من بيان السبب لعدم إجرائهم لها في المقام؛ إذ لا معنى للتشكيك في الجريان العقلائيّ، وكلّنا عقلاء، ولا نعرف أنّنا كعقلاء لماذا لا نُجري هنا أصالة العموم؟
ومن هنا، جرى بعض المحقّقين، كالشهيد الصدر رحمه‌الله، على فذلكة الموقف بما لا داعي للتعرّض له والإطالة فيه؛ لأنّ الأمر أوضح من هذا في تقديرنا.
ولعلّ وضوح الأمر هو الذي جعل المحقّق الخراسانيّ رحمه‌الله ومن تبعه يتشبّثون بأذيال الارتكاز العقلائيّ في المقام.
والسرّ في تقديرنا في هذا الأمر: هو النكتة التي أشرنا إليها غير مرّة في أبحاث ماضية، وهي أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة، والذي هو في قوّة الشرطيّة، لا يتكفّل إثبات الموضوع، بل يتكفّل جعل الحكم على تقدير وجود الموضوع، وهو لا يكشف عن حال المصداق، بل لا تعرّض له للمصداق. ونحن بعد أن علمْنا بخروج فرد، سواء تردّد بين فردين أم تردّد على مستوى التخصيص بين دليلين، ليكون تخصّصاً لأحدهما أو تخصيصاً له؛ (هكذا كان ينبغي أن يُمثَّل؛ لأنّه لولا وجود دليلين لا معنى لدوران الأمر بين التخصّص والتخصيص). من هنا، سواء كان التردّد تردّداً للمصداق بين مصداقين، أم كان تردّد الخارج حكماً بين حيثيّتين (إمّا الملاقي لا يتنجّس، وإمّا المتنجّس لا ينجّس، وكلّ واحدٍ منهما مصداق لدليل. فالدليل الذي يقول لنا: إنّ ماء الاستنجاء لا ينجّس ما يلاقيه قابل لأن يكون استثناءاً من دليل: كلّ متنجّس ينجّس، وقابل لأن يكون استثناءاً من دليل: كلّ ملاقٍ للنجس يَنجس، ولا يُلمح هذا الدليل إلى أحدهما بعينه، كما أنّ دليل: لا تُكرم زيداً، لم يُشر إلى أيٍّ من الزيدين، الجاهل أو العالم، ليكون تخصّصاً على الأوّل أو تخصيصاً على الثاني).
من هنا نقول: لا يجوز التمسّك بالعامّ لإثبات التخصّص؛ لأنّ الأمر خارج عن مفاد الدليل، ولا تعرّض للدليل إلى هذه الجهة، وإلى هذه الحيثيّة، ليكون مورداً من موارد التمسّك بأصالة العموم.
وإن شئت فقل: إنّ أصالة العموم هي أصالة التطابق بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ، وليست شيئاً آخر. وإذا كان كذلك، ففي المقام، بعد العلم بخروج الفرد في المثال الأوّل يمكن أن يكون من قبيل التخصيص ويمكن أن يكون من قبيل التخصّص، وليست لدينا أصالة تسمّى أصالة عدم التخصيص في موردٍ يدور الأمر فيه بين التخصيص والتخصّص. والسرّ في هذا: أنّ الدليل لا يتعرّض لحال الفرد.
وفي الحالة الثانية، هو تخصّص لأحد الدليلين وتخصيص للآخر، ولا تعرّض لأحد الدليلين لترجيح أحد التخصّصين على الآخر. بل لا تعرّض للدليل إلّا لحكم الفرد على تقدير وجود الموضوع، ونحن لدينا هنا كلا الدليلين يطالانه على حدٍّ سواء.
مثلاً: (كلّ ملاقٍ للنجس مع رطوبة يَنجس) و(كلّ متنجّس ينجّس)، ملاقي ماء الاستنجاء لا يَنجس، قابل لأن يكون ماء الاستنجاء طاهراً، ولذلك لا يَنجس ملاقيه، وقابل لأن يكون ماء الاستنجاء متنجّساً لكنّه لا ينجّس. فالنسبة واحدة إلى الدليلين.
وعليه: فإذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص، فإنّه لا يمكن التمسّك بأصالة العموم. والسرّ ما ذكرناه؛ لأنّ المورد أصلاً ليس من موارد أصالة العموم وأصالة التطابق بين المراد الاستعماليّ وبين المراد الجدّيّ.
هذا تمام الكلام في التذييل الأوّل.
التذييل الثاني:
الشكّ في مصداقٍ من غير جهة التخصيص.
تعرّض لهذا البحث صاحب الكفاية رحمه‌الله في الكفاية. وسببه بعض الفروع الفقهيّة. فليس له سبب وجيه.
لكن نحن بمعزل عن هذه الفروع الفقهيّة، إذا أردنا أن نتكلّم في المسألة كبرويّاً، فنقول:
الشكّ في فرد من غير جهة التخصيص، إمّا بأن لا يكون لدينا تخصيص أصلاً، أو بأن يكون هناك تخصيص، لكنّه غير مجمل، لا مفهوماً ولا مصداقاً، فليس لدينا مشكلة أصلاً من جهة المخصِّص.
إذا تأمّلنا عقليّاً، الشكّ في الفرد من غير جهة التخصيص، لا يخلو من أن يكون شبهة مفهوميّة للعامّ أو شبهة مصداقيّة له. فإنّ المخصِّص إذا كان مبيَّناً من ناحيتي المفهوم والمصداق، فإنّه لا يبقى إلّا أن يكون هناك شبهة مفهوميّة أو مصداقيّة في نفس العامّ.
وقد تقدّم أنّه لا يجوز التمسّك بالعامّ، لا في شبهته المفهوميّة ولا المصداقيّة.
ولا يُتصوّر عقلاً غير هذا.
وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فهذا البحث من أساسه لا صورة حقيقيّة له كبرويّاً.
فلماذا طُرح هذا البحث أساساً؟
إنّما طُرح هذا البحث لوجود عمومات في الفقه من قبيل: لا يصحّ الصوم في السفر، أو: لا يصحّ الإحرام قبل الميقات. وأفتى الفقهاء بجواز الصوم في السفر بالنذر المقيَّد، وبجواز الإحرام قبل الميقات بالنذر، وشككنا حينئذٍ ـ مثلاً ـ في أنّه هل هذا من باب التخصيص لـ لا يصحّ الصوم في السفر، بمعنى: أنّه من أفراده، ولكنّه خرج تخصيصاً، أو أنّه ليس من أفراده، وهو محكوم بحكمٍ خاصّ؟ من الواضح: أنّ الصوم في السفر مصداق حقيقيّ للصوم في السفر، والإحرام قبل الميقات إحرام قبل الميقات أيضاً، فكونه مصداقاً للعموم في المثالين لا شكّ فيه. فهو بالدقّة ليس مثالاً لهذا العنوان، وإن جُعل في جملة من الكتب مثالاً له.
وإنّما الكلام حينئذٍ في أنّ الدليل الدالّ على صحّة هذا الصوم لا بدّ وأن يُبحث، وهو يُبحث في أحد مكانين: إمّا في عمومات الوفاء بالعهود والعقود والنذور، وأنّ هذه الأدلّة هل تُشرِّع على خلاف العناوين الأوّليّة، كونها تعطي عناوين جديدة لموضوعاتها؟ فتكون مشرِّعة وفيها القدرة على ذلك. أم أنّها لا تُشرِّع؟
والصحيح في محلّه كما هو مبحوث أنّ هذه الأدلّة لا تشرِّع. فيقع الإنسان حينئذٍ في إشكاليّة تصحيح بعض الفروع الفقهيّة التي صحّ فيها هذا الأمر، وأنّه على أيّ أساس؟
وهذا بحث لا علاقة له أصلاً بما عنونّاه. والعنوان الصحيح له أنّه بعد أن كانت عمومات النذر والعهد والشرط والعقد لا تشرِّع على خلاف الأحكام الأوّليّة، فكيف صحّح الفقهاء صوم المنذور المستحبّ في السفر، أو الإحرام المنذور قبل الميقات؟
والجواب على هذا: أنّه ما كانوا ليصحّحوا لولا دعوى وجود الدليل الخاصّ في المقام.
فإن قيل: فإذا وُجد الدليل الخاصّ فكيف نخرّج الأمر ثبوتاً؟
الفقيه ليس مضطرّاً إلى التخريج ثبوتاً، بل الفقيه إذا وجد دليلاً خاصّاً، ولم يكن هناك حكم عقليّ منجَّز في مقابله ينافيه، فتبقى القضيّة في دائرة الأحكام الشرعيّة، وأنّ من بيده الوضع بيده الرفع، لكن من باب فلسفة الموقف وفذلكته قيل: إنّ هذه الأدلّة الخاصّة، لا دليل النذر، بل الدليل الخاصّ الدالّ على تصحيح الصوم مع النذر في السفر، بأنّ هذا يكشف عن وجود ملاكٍ يشكّل رجحاناً للصوم في السفر، لكنّه لا يرتقي إلى حدّ الأمر، وأنّ هذا يُثمَّر في ظرف كونه منذوراً. أو يُقال: بأنّه يتولّد عنوان راجح مقارن للنذر.
لكنّ هذه كلّها من قبيل الرجم بالغيب. ونحن فقهيّاً لسنا مضطرّين إلى مثل هذه التوجيهات من أساسها، بعد أن ثبت كبرويّاً عدم صحّة الصوم في السفر، وثبت كبرويّاً أنّه يصحّ الصوم في السفر بالنذر، انتهى عمل الفقيه. ولا يُكتشف من هذا أنّ دليل النذر يُشرِّع، بل هو أعمّ. وأمّا ملابسات هذين الفرعين فهي بيد الشارع، يُحتمل كذا ويُحتمل كذا، وقد يتوسّع خيال الشخص ويذكر احتمالات أُخرى، لكنّها تبقى مجرّد احتمالات ما لم يبيّن الشارع وجهه.
لكنّ ما يهمّنا هنا هو أنّ هذا البحث برمّته ليس مصداقاً للعنوان والكبرى التي ذكرناها في هذا التذييل الثاني، وإن جُعلت مصداقاً له في الكلمات.
ومن هنا، وجدنا بعض المحقّقين المعاصرين أعرض أصلاً عن بيان هذا الجانب، بحجّة أنّه لا داعي له، وأنّ الكبرى واضحة؛ لأنّ الشكّ في فردٍ أنّه فرد للعامّ أو ليس فرداً له بالفعل، إمّا منشؤه شبهة مفهوميّة أو شبهة مصداقيّة لنفس العامّ؛ إذ هو من غير جهة التخصيص. وأمّا مورد الحكم الثاني في عمومات الوفاء بالشروط والعقود والنذور والعهود، فهو خارج عن محلّ البحث أصلاً.
وإذا أراد شخص أن يدّعي أنّ دليل النذر المصحّح للصوم يصحّحه والحال أنّه صوم في السفر، فهو بلا شكّ يَؤُول إلى التخصيص في الحقيقة، كما هو واضح.
لكنّ أصل هذا البحث كما ذكرنا لا ينبغي توهّمه في المقام.
هذا تمام الكلام في التذييل الثاني.
ونكتفي بهذا المقدار من البحث في كلا هذين التذييلين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo