< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/01/24

بسم الله الرحمن الرحیم

لا يزال الكلام في الشبهة التي أُثيرت في وجه حجّيّة العامّ في مورد إجمال مخصّصه مفهوماً المردّد بين الأقلّ والأكثر.
ووصل الكلام إلى ارتباط حلّ هذه الشبهة ببيان حقيقة مبنى تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ؛ ذلك أنّ مدرسة المحقّق النائيني رحمه‌الله تصرّ على هذا المعنى، وهو أنّ العامّ في المخصّص المنفصل يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ، وهو ما أنكره بقوّة المحقّق العراقيّ رحمه‌الله. ووجه ارتباط الشبهة به تقدّم.
إذا أردنا أن نفهم حقيقة هذا المبنى، قبل نقده أو القبول به، فما المقصود من تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ في المخصّصات المنفصلة؛ إذ في المخصّصات المتّصلة، بات واضحاً أنّ العامّ إنّما انصبّ على مدخولٍ تمثّل في العنوان العامّ، اسم الجنس، والعنوان الأخصّ منه، الذي اقتطع منه، وهو ما عبّرنا عنه بالهيئة الاندماجيّة، فالتعنون هناك واضح وبديهيّ.
إنّما الكلام في المخصّصات المنفصلة، فإن كان المراد من هذا التعبير الموهم للوهلة الأُولى أنّ المخصّص المنفصل يعنون العامّ على مستوى الظهور اللّفظيّ بنقيض عنوان الخاصّ، فهذا باطل بالبداهة؛ إذ الظهور اللّفظيّ للعامّ في العموم قد وقع وانعقد وتقضّى الزمان الذي يلوّنه بلون الخاصّ. والواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه.
اللّهمّ إلّا في بعض الحالات النادرة التي يكون فيها المخصّص المنفصل كالمخصّص المتّصل، من قبيل: المدرّس، أو المحاضر، الذي يُلقي في الدرس الأوّل جزءاً من مطلبه، ويعد بإتمامه في الدرس اللّاحق، فهنا، وإن كان ما يُتمّه في الزمن اللّاحق المنفصل منفصلاً عمّا قاله في الزمن الأوّل، لكن يمكن أن يُقال: إنّه بمثابة القرينة المتّصلة، وإن تخلّل الزمان بينهما، ذلك أنّ الظهور اللّفظيّ الكامل لم ينعقد. وهذا واضح في إنسانٍ يتقيّد بالوقت بشكلٍ كامل، فيمكن أن يقطع كلامه في وسطه، وقبل أن يُتمّه؛ لمجرّد أن دقّت الساعة، وهنا لم ينعقد الظهور اللّفظيّ الكامل لكلامه، ولم تحصل الإفادة الكاملة. أو شخص اتّخذ لنفسه طريقة وأسلوباً خاصّاً وتعبّد مواليه أو مستمعيه بأنّه يعتمد هذا الأسلوب دائماً أو في خصوص بعض المخاطَبات، بحيث قال لهم: لا يحقّ لأحدٍ أن يقتنص من كلامي إلّا بعد تمام الشهر، حينئذٍ: لن يتمّ ظهور لكلامه إلّا بعد تمام الشهر، كما هو واضح.
وأمّا إذا كان المراد من تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ هو أنّ العامّ لا يكون حجّةً إلّا فيما لا يشمله الخاصّ؛ ذلك أنّ الخاصّ يخصّصه ويقتطع منه، فحينئذٍ: لا شكّ في أنّ التعنون بهذا المعنى لا غبار عليه، ولا يُظنّ بالمحقّق العراقيّ رحمه‌الله إنكاره أساساً؛ إذ من الواضح ـ وكلماته تنادي بذلك ـ أنّ العامّ لا يكون حجّةً فيما يكون الخاصّ حجّةً فيه، وهذا معنى التخصيص أساساً.
فلا يبقى إلّا إيهام التعبير بالتعنون. ولا مشاحّة في الاصطلاح.
فحينئذٍ: إذا قلنا: إنّ معنى تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ هو أنّ العامّ لا يكون حجّةً إلّا فيما لا يكون الخاصّ حجّةً فيه، إلّا منضمّاً إليه نقيض الخاصّ، فيصبح (أكرم كلّ عالم) حجّةً بعد ورود (لا تكرم العالم الفاسق) في قضيّة مفادها (أكرم كلّ عالم غير فاسق).
فإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: يقع السؤال في أنّ هذا التعنون الذي لا يلوّن الظهور اللّفظيّ للعامّ، هل يعنون العامّ على مستوى الحجّيّة بعنوانه؟ أم يعنونه بمعنونه؟ إذ يختلف الأمر، بين قولنا: إنّ العامّ بات حجّةً في إكرام كلّ عالمٍ مسمّىً ومعنون بـ غير الفاسق، وبين قولنا: إنّ العامّ بات حجّةً وأنّ معنى تعنونه بغير الفاسق، أي: بغير واقع الفاسق ومن ثبت أنّه فاسق، وما يكون (لا تكرم العالم الفاسق) حجّةً فيه. ولعلّ هذه النكتة هي التي جعلت المحقّق العراقيّ رحمه‌الله ينكر التعنون أصلاً.
هنا، انبرى المحقّق النائيني رحمه‌الله، وكذلك المحقّق العراقيّ رحمه‌الله، المنكر للتعنون، إلى مقالةٍ واحدة، وهي أنّ العامّ حجّة في غير ما كان الخاصّ حجّةً فيه، ولا قيمة للعنوان بما هو عنوان، بل العنوان بما هو مرآة لواقع أفراده، وواقع أفراده فريق منهم وهو مرتكب الكبير، هو حجّة فيه جزماً؛ لأنّه القدر المتيقّن، أمّا مرتكب الصغيرة المجتنب للكبيرة فيُشكّ في حجّيّته فيه، فلا قيمة لعنوان الخاصّ فيما لا يكون حجّةً فيه، ولا يعاند العامَّ حينئذٍ.
وهذا المقدار من البحث هو ما أطبق عليه المحقّقون ممّن تعرّضوا لهذه المسألة، وجعلوها ـ من غير دليل وبرهان ـ مطابقةً للوجدان العقلائيّ، بل منطق الأمور، المقصود بهذه العبارة: أنّ العامّ حجّة في العموم بمجرّد انتهاء مجلس التخاطب، والخاصّ المنفصل حجّة بقدر بيانه، وبيانه يوازي القدر المتيقّن، وهو مرتكب الكبيرة، ولا نرفع اليد عن الحجّة إلّا بحجّة. ومن الواضح: أنّ شمول الخاصّ لمرتكب الصغيرة محلّ شبهةٍ على مستوى المفهوم.
لكنّ صاحب المنتقى حاول النزاع مع القوم في هذه النقطة بالخصوص، فأفاد ما خلاصته: أنّ تخصيص العامّ هل هو بالخاصّ بما هو حجّة فيه بالفعل؟ أم يكون تخصيصه بواقع ما هو المراد منه، ولو لم يكن حجّةً بالفعل؟
فإن قلنا بالأوّل، تمّ كلام القوم؛ إذ الخاصّ ليس حجّةً إلّا في قدره المتيقّن، وهو مرتكب الكبيرة، وفي غيره لا حجّيّة له، وما ليس له الحجّيّة لا يعاند ما هو حجّة، وهو العامّ.
وإن قلنا بالثاني، بمعنى: أنّ العامّ يخصّص بواقع المراد منه، وإن لم يكن حجّةً بالفعل إلّا في قدره المتيقّن، لكنّ واقع المراد منه مردّد مفهوماً بين خصوص مرتكب الكبيرة، أو الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة، فإذا خصّص بواقع المراد منه، بات تخصيصه يمكن أن يكون يشمل حتّى مرتكب الصغيرة. فإذا خُصّص العامّ بواقع المراد، فحينئذٍ: وصلْنا إلى إجمال العامّ حكماً.
ثمّ قال: إنّ السبب في الترديد بين هذين هو القول بأنّه لا معنى لحجّيّة الخبر ـ مثلاً ـ فيما لا يكون مدلوله ظاهراً فيه؛ إذ تكون حجّيّته لغواً؛ لأنّها لا تنتهي إلى التنجيز والتعذير. ومن هنا، ذهب القوم إلى أنّه لا يخصّص ولا يقيّد إلّا فيما هو حجّة فيه بالفعل؛ للغويّة حجّيّته فيما هو مجمل فيه، وهو الأكثر.
فأفاد: أنّه يكفي لدفع اللّغْويّة وجود الأثر العمليّ القابل للتنجيز والتعذير والتأثير في الحكم الشرعيّ، ولو في مجالٍ واحد من المجالات؛ إذ يكفي في دفع اللّغْويّة أدنى فائدة. فقال رحمه‌الله: إنّ القول بحجّيّة الخاصّ بما هو واقع المراد منه، وإن لم يكن ظاهراً منه بالفعل له تأثير يدفع اللّغْويّة. وتأثيره هنا في محلّ بحثنا؛ فإنّ التخصيص والتقييد بواقع المراد منه يؤثّر على حجّيّة العامّ فيما يكون المجمل مجملاً فيه، وهو مرتكب الصغيرة، أي: الأكثر. وهذا أثر مهمّ في الفقه، وهو كافٍ لدفع لغْويّة التعبّد والاحتجاج بحجّيّة هذا الخبر الدالّ على الخاصّ المجمل مفهوماً.
وهذا الكلام الذي أفاده نقلٌ نوعيّ للمشكلة من كونها علاقة بين حجّتين بالفعل، أي: العامّ في حدّ نفسه حجّة، والخاصّ في حدّ نفسه حجّة، ثمّ تُلحظ العلاقة بينهما، إلى جعل الحجّيّة في طول ملاحظة العلاقة بينهما، وأنّه هل يكون حجّةً في شقّه الثاني، وهو الأكثر، أم لا يكون حجّةً فيه؟ فنقول:
الصحيح كبرويّاً أنّه يكفي في دفع اللّغْويّة أدنى فائدة قابلة للتعبّد ليشمله دليل حجّيّة الخبر ودليل حجّيّة الظهور، ولكن هذا لا يُصيّره ظهوراً في الأكثر. وفي مقام العلاقة بين دليلين، لا بدّ من أن نلحظ حجّيّة الظهور الفعليّة لكلٍّ من الدليلين؛ لأنّ الدليل الثاني لا يمكنه أن يخصّص أو يقيّد الدليل الأوّل، العامّ، إلّا بقدر ما يكون حجّةً فيه على مستوى الظهور، والمفروض أنّه ليس حجّةً إلّا في خصوص مرتكب الكبيرة، فنحن نوافق صاحب المنتقى في أنّ النظر يكون إلى واقع المراد منه، لكن بقيد: واقع المراد منه الذي ينهض حجّةً فيه بالفعل، لا واقع المراد منه بما هو واقع ولو لم يكن حجّةً مشمولاً لدليل حجّيّة الظهور، وهذا هو سرّ تعبير عموم الأصوليّين بأنّ الخاصّ لا يخصّص العامّ إلّا فيما هو حجّة فيه بالفعل، فهو لا يخصّص بعنوانه بما هو هو، بل بواقع المراد منه الذي يكون مشمولاً لدليل الحجّيّة في نفسه، قبل المقايسة بينه وبين الدليل العامّ. يعني: نفترض الخاصّ حتّى لو لم يكن هناك عامّ، فالخاصّ في أيّ شيءٍ هو حجّة في ذاته؟ نقول: الخاصّ حجّة في خصوص مرتكب الكبيرة، وأمّا مرتكب الصغيرة فلا ندري، ولذلك لو كانت الشبهة شبهة تحريميّة، نُجري البراءة حينئذٍ عن حرمة إكرام مرتكب الصغيرة، كما هو واضح.
بعد أن تمّت حجّيّته في نفسه، فيقيّد بواقع المراد منه، لا بمجرّد العنوان، وواقع المراد منه يُصنّف إلى صنفين: واقع المراد القدر المتيقّن الذي هو حجّة فيه وهو مرتكب الكبيرة، وواقع المراد احتمالاً؛ لأنّه لا ملغي لهذا الاحتمال، وهذا هو معنى الشبهة المفهوميّة، وهو مطلق مرتكب الذنب ولو كان صغيراً، فيخصّص بواقع المراد منه الذي هو حجّة فيه بالفعل، فالنتيجة حينئذٍ نفس نتيجة الاحتمال الأوّل عنده.
ثمّ إنّه جرّ هذا البحث وربطه بما لا ينبغي جرّه إليه، وهو بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وأنّه هل ينحلّ انحلالاً حقيقيّاً أم لا؟
وما دام قد اتّضح البحث، فلا داعي للنظر فيما ذكره؛ لبطلان الأساس الذي اعتمد عليه أصلاً.
فتلخّص: أنّ الخاصّ لا يخصّص العامّ إلّا فيما هو حجّة فيه بالفعل، وهو واقع ومعنون العامّ بقدر ما ظهر من الدليل ظهوراً فعليّاً، وهو خصوص الأقلّ، أو كان قدره المتيقّن، وأنّ معنى تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ لا ينبغي أن يُراد منه سوى ترديد مقولة أنّ العامّ لا يكون حجّةً إلّا فيما يكون الخاصّ حجّةً فيه.
أمّا لو أُريد منه غير هذا، فإنّه لا دليل عليه أساساً؛ لأنّ التعنون لم يرد لا في آية ولا رواية، وهو كلام مستقلّ في مجلس مستقلّ لا علاقة له بالمجلس الأوّل، أجرينا العلاقة بينهما من باب القرينيّة أو الأظهريّة؛ لأنّ الكلامين صادران عن متكلّم واحد حكيم لا يوجد في كلامه اختلاف أو ما بحكم المتكلّم الواحد.
نعم، هنا كلام للشهيد الصدر رحمه‌الله، ذكر أنّنا مهما قلنا في هذا البحث وانتهينا إليه فإنّه لا يتمّ على مبنى المحقّق النائيني رحمه‌الله، الذي يجمع في مبانيه بين مبنيين:
المبنى الأوّل: هو أنّه قد تقدّم في أوائل مبحث العامّ والخاصّ أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قائل بلزوم إجراء مقدّمات الحكمة في مدخول أداة العموم، وأنّنا لا نستغني بحجّة أداة العموم عن إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول، وهو ما خالفه عليه معظم المحقّقين، حتّى من تلامذته، كالسيّد الخوئي رحمه‌الله.
والمبنى الثاني: سيأتي ذكرها في بحث الإطلاق والتقييد، وهو أنّ المخصّص أو المقيِّد المنفصل، أنّ مقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان، أعمّ من البيان المتّصل والمنفصل، فإذا احتملنا ـ والكلام للشهيد الصدر رحمه‌الله ـ وجود البيان المنفصل أجمل الخطاب، فقال الشهيد الصدر رحمه‌الله: من يجمع بين هذين المبنيين لا بدّ وأن يقول بالإجمال هنا، مع أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله لم يقل بالإجمال، ومن جرى مجراه في الجمع بين المبنيين المذكورين (وربما نُسب ذلك إلى السيّد الخوئي رحمه‌الله في أوائل حياته العلميّة) لا يستطيع أن يحلّ الإشكال في المقام، وعليه أن يقول بالإجمال في المخصّص المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر.
فهل ناقض المحقّق النائيني رحمه‌الله نفسه، ولم يلتزم بمبانيه، وهو المعروف عنه بأنّه يلتزم بمبناه من أوّل الأصول إلى آخره، وهذه من ميزات المحقّق النائيني رحمه‌الله، أم أنّ هناك نكتةً ربما غفل عنها الشهيد الصدر رحمه‌الله أو غيره من الذين ألمحوا إلى هذا الإشكال، ولو بطريقة غير مباشرة، كصاحب المنتقى؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo