< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/01/23

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في الإجمال المفهوميّ للمخصّص المنفصل، وكان الكلام في العنوان الأوّل من عنوانيه؛ حيث إنّنا جعلناه القسم الثاني من قسمَي إجمال المخصّص، حيث قسّمناه إلى متّصل ومنفصل. وكلّ منهما كان فيه عنوانان: التردّد المفهوميّ بين الأقلّ والأكثر، والتردّد بين المتباينين.
وقد تقدّم الكلام في أصل البحث في هذا العنوان الأوّل، وهو أنّه إذا كان المخصّص منفصلاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر، كما في (أكرم كلّ عالم) وجاء المخصّص المنفصل يقول: (لا تكرم العالم الفاسق)، وكان الفاسق مردّداً بين مطلق مرتكب الذنب أو خصوص مرتكب الكبيرة، فهو تردّد بين الأقلّ والأكثر.
نكتة توضيحيّة: ليس المقصود في التردّد المفهوميّ في المقام، عندما نقول: إنّه مردّد بين الأقلّ والأكثر، أنّ الوضع مردّد بين الأقلّ والأكثر؛ إذ الوضع دائماً متردّد بين المتباينين بالدقّة؛ لأنّ الموضوع له إمّا الأقلّ بحدّه، أو الأكثر بحدّه، والأقلّ بحدّه، أي: بشرط لا عن الأكثر، والأكثر بحدّه، أي: بشرط لا عن الأقلّ، وهما متباينان. بل المراد التردّد بين الأقلّ والأكثر على مستوى ما يشمله ويستوعبه المفهوم في مقام التخصيص، أي: ما يريه المفهوم في الواقع الخارجيّ، وحينئذٍ: فإنّ الفاسق إذا كان مطلق مرتكب الذنب، صغيراً أو كبيراً، مع إصرار أو من دونه، فإنّه يشمل مطلق من ارتكب ذنباً، وإذا قلنا: إنّه خصوص مرتكب الكبيرة، فإنّ من يرتكبون الذنوب الصغيرة لا يشملهم المفهوم، فيكون شمول المفهوم أقلّ على مستوى الصدق الخارجيّ والاستيعاب الخارجيّ، وهذا معنى الدوران بين الأقلّ والأكثر في المقام.
قلنا وقال عموم المحقّقين تقريباً، أي: ممّن تعرّضوا لهذا البحث، إنّ العامّ حجّة؛ لأنّه مفهوم مبيَّن، غير مجمل، (أكرم كلّ عالم)، الذي لم يخصّص بمخصّص متّصل، حجّة في الشمول لكلّ من يصحّ أن يُطلق عليه أنّه عالم، والحجّيّة موضوعها بيان المفهوم ذاتاً وعدم اقترانه بمخصّص متّصل.
فهنا، ينعقد الظهور الذي هو موضوع للحجّيّة، فإذا جاء مخصّص منفصل فهو لا يذهب بالظهور؛ لأنّ الظهور الذي وقع لا ينقلب عمّا وقع عليه، نعم، هو ينافيه حكماً ويعانده في جزء مدلوله، وهو مدلول الخاصّ، ومقتضى الجمع العرفيّ بينهما تخصيص العامّ به؛ إمّا للأظهريّة أو للأخصّيّة أو للقرينيّة، على كلامٍ في ذلك يأتي في مباحث التعارض.
فإذاً، المخصّص إذا كان مبيَّناً فهو يذهب بجزءٍ من مدلول العامّ على مستوى الحجّيّة، لا على مستوى الظهور؛ لأقوائيّته في موضوعيّته للحجّيّة، إمّا بالأظهريّة أو بالقرينيّة، فإذا كان الخاصّ مجملاً مردَّداً بين الأقلّ والأكثر، فهو فيما كان فيه مبيَّناً، وهو القدر المتيقّن، قطعاً يعاند العامّ، وهو مرتكب الكبيرة، أمّا فيما لم يكن مبيّناً فيه، وهو الأعمّ من مرتكب الكبيرة، أي: مرتكب الصغيرة، فهو بنفسه ليس حجّةً فيه؛ لأنّه مجمل، وهذا إجمال لنفسه، وقد بحثنا أنّ الدليل إذا كان مجملاً مفهوماً في نفسه فلا يكون حجّةً إلّا في قدره المتيقّن، فقال المشهور من المحقّقين: إنّ المخصّص المنفصل لا يخصّص العامّ إلّا فيما هو حجّة فيه، وهو خصوص مرتكب الكبيرة في المثال. فالعالم المرتكب للصغيرة مشمول لـ (أكرم كلّ عالم)، ومشكوك الشمول من جهة الدليل المخصِّص، فلا ينافي الاقتضاء الموجود في الدليل العامّ بالشمول له، وهذا بعبارةٍ أوضح: أنّ الخاصّ لا يخصّص العامّ إلّا فيما هو فيه حجّة. وهذا من الفوارق بين المخصّص المنفصل والمخصّص المتّصل؛ لأنّه في المخصّص المتّصل يُجمل الخطاب، وقد قلنا: إنّه حينئذٍ ليس من التخصيص حقيقةً؛ لأنّ الحكم إنّما انصبّ في الحقيقة على الهيئة الاندماجيّة.
هذا الكلام ترد في وجهه شبهة، وهي: ألا تقولون (هذا البحث يُتناول قليلاً في بحث المطلق والمقيَّد، وفي بحث انقلاب النسبة)، وعنوان هذا البحث: أنّ المخصّص المنفصل يعنون العامّ بنقيضه، أي: عندما ورد الدليل الخاصّ، ولو منفصلاً، وقال: لا تكرم الفاسق، بات العامّ حجّة منضمّاً إليه نقيض الخاصّ، أي: أكرم كلّ عالم غير فاسق، فقد تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ، وكلّ ما كان على تقدير اتّصاله يذهب بالظهور، فهو على تقدير انفصاله يذهب بالحجّيّة.
حينئذٍ تأتي الشبهة فتقول: ما دام المخصّص المنفصل يخصّص العامّ (بمعنى: أنّه يعنونه بنقيض عنوانه)، فيُقال: إنّ العامّ الذي تعنون بهذا العنوان قد تعنون بعنوان مجمل مفهوماً، مردّد بين الأقلّ والأكثر، فغير الفاسق في المثال إمّا مجتنب الكبيرة فقط، أو مجتنب مطلق الذنب. فبات العامّ في قوّة المجمل مفهوماً المخصَّص بمخصّص منفصل أُجمل مفهومه لأجله، أو فقل: بات المخصّص المنفصل في قوّة المخصّص المتّصل المجمل مفهوماً المردَّد بين الأقلّ والأكثر. وإن شئت قلت: العامّ بات حجّة في وجوب إكرام العالم غير الفاسق، ومرتكب الصغيرة نشكّ في أنّه عالم غير فاسق؛ لأنّنا نشكّ في أنّه يُطلق عليه الفاسق أو لا، فبات كالمخصّص المتّصل، غاية الأمر: أنّ المخصّص المتّصل يذهب بالظهور من الأساس في العموم خارج دائرته، بينما المخصّص المتّصل يهدم الظهور بعد انعقاده (لا الظهور الاستعماليّ، بل الظهور على مستوى المراد الجدّيّ، والذي هو موضوع الحجّيّة الكاملة).
هذه الشبهة لا تتأتّى على مبنى المحقّق العراقيّ رحمه‌الله؛ الذي أنكر التعنون أصلاً. وسيأتي هذا البحث، وسيأتي أنّ الصحيح أنّه يتعنون.
هذه الشبهة أُثيرت في بعض الكلمات، فتصدّى المحقّق النائينيّ رحمه‌الله لجوابه، وتابعه في الجواب السيّد الخوئي رحمه‌الله.
خلاصة هذا الجواب: أنّه تارةً يكون المخصّص المنفصل يخصّص بعنوانه، وأُخرى بمعنونه. والمقصود من ذلك (حتّى لا يُقال: إنّ التخصيص دائماً يكون بواسطة العنوان): أنّه تارةً يكون التخصيص بالكلّيّ الطبيعيّ بما هو، عنوان الفاسق، وأُخرى يكون التخصيص بالكلّيّ الطبيعيّ بما هو مرآة ومشير إلى الأفراد الخارجيّة (المقصود من العنوان المشير هنا ليس هو العنوان المشير بالاصطلاح، والذي لا مدخليّة له في ثبوت الموضوع، كعنوان: أكرم كلّ من في الغرفة، الذي هو مجرّد عنوان مشير إلى أفراد العالم الموجودين في الغرفة). ولا شكّ في أنّه لا معنى للقول بأنّ التخصيص بالعنوان بما هو عنوان، أو بالكلّيّ الطبيعيّ بما هو هو في الذهن؛ إذ من الواضح أنّ التخصيص بالعناوين بما لها من أفراد في خارج، وعلى هذا الأساس، كان التردّد تردّداً بين الأقلّ والأكثر، لا على مستوى العنوان بما هو هو، وأنّ الواضع حين الوضع لأيّ شيء وضع اللّفظ، فإنّ هذا من التردّد بين المتباينين.
بناءاً على هذا، يقول العلَمان: إنّ المقدار الخارج من تحت شمول العامّ هو الذي يخصَّص به العامّ بواسطة هذا العنوان، فحينئذٍ: يوجد عالم أو أكثر ثبت أنّهم ارتكبوا الكبيرة، فهؤلاء يخصّصهم، ويوجد مجموعة علماء ثبت أنّها ترتكب الصغيرة، هؤلاء نشكّ في شمول المخصِّص لهم؛ للشكّ في أنّه موضوع لمن يشملهم، (لا من جهة أنّهم ارتكبوا أم لم يرتكبوا، وإلّا، لصارت شبهة مصداقيّة، وكلامنا في الشبهة المفهوميّة)، حينئذٍ: الخاصّ ليس حجّة في الشمول لهؤلاء، فلمّا لم يكن حجّة في الشمول لهم، فهو ليس مخصّصاً للعامّ بهذا اللّحاظ. فصحيح أنّ العامّ يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ، لكن بمقدار إراءته للواقع الخارجيّ، وهو يُري مرتكب الكبيرة جزماً، لكنّه لا يُري مرتكب الصغيرة؛ لأنّه مردّد غير واضح المفهوم بلحاظ مرتكب الصغيرة، وحينئذٍ: فإنّ العامّ لا يعانده الخاصّ إلّا بمقدار شموله وإراءته، وهو خصوص مرتكب الكبيرة في المثال.
هذا الكلام الذي أفاده العَلَمان لم يُوضع فيه اليد على موطن البحث على مستوى العبائر، وإن كان هذا الذي سنذكره لعلّه هو المراد لهما. ذلك أنّ ما ينبغي أن يُبحث عنه في المقام هو نكتة أعمق من هذا الكلام، هذا الكلام الذي ذكراه يُعدّ بناءاً عُلويّاً له.
وخلاصة ما ينبغي أن يُقال في تعميق كلامهما:
هو أنّه ينبغي أن نبحث أنّ المخصّص هل يخصّص بظهوره الذي هو حجّة، بمراده الجدّيّ المنكشف الذي هو حجّة، أم بمراده الواقعيّ المتعيّن واقعاً على ما هو عليه، سواء كان منكشفاً لنا أم لا؟
توضيح ذلك: أنّ الخاصّ لا تواجهنا معه مشكلة على مستوى الألفاظ. لكنّ السؤال: أنّ الخاصّ في نفسه بمعزل عن كونه يخصّص عامّاً هل هو حجّة في مرتكب الصغيرة، أو ليس حجّة جزماً إلّا في مرتكب الكبيرة؟ واضح أنّه ليس حجّة إلّا في مرتكب الكبيرة؛ لأنّه مجمل مفهوماً مردّد بين الأقلّ والأكثر، فلا يكون حجّةً إلّا في قدره المتيقّن، فيكون كما لو لم يكن لدينا عامّ أصلاً، وكان ما جاء من الشارع ابتداءاً هو قوله: لا تكرم العالم الفاسق.
إذاً البحث الذي ينبغي أن يُبحث هنا، هو أنّ الخاصّ الذي يخصّص عامّاً، هل يخصّص بقدر حجّيّته، بمراده الذي هو حجّة، أم بمراده الواقعيّ على واقعيّته؟ مراده الواقعيّ قد يكون الأعمّ من مرتكب الكبيرة والصغيرة، لكن لم ينكشف لنا.
هنا، ما ينسجم مع كلام العلَمين، بل والمشهور أيضاً، هو مصادرة عرفيّة عقلائيّة، وهي أنّ الخاصّ لا يخصّص إلّا بقدر ما هو حجّة فيه بالفعل، أمّا كونه يُحتمل أن يكون المراد منه واقعاً يشمل حتّى مرتكب الصغيرة، هذا مجرّد احتمال لا ينهض هو حجّةً فيه، فلا يقيّد ولا يخصّص.
وفي المقابل ذهب أحد المحقّقين، وهو صاحب المنتقى، بعد كلامٍ طويلٍ له إلى نتيجة أنّ المخصّص يخصّص بما هو في الواقع، أي: بقدره المتيقّن يخصّص، وبالمردّد، وهو في المثال مرتكب الصغيرة، يُوجب إجمال حجّيّة العامّ الذي تعنون بنقيضه.
وللأسف لم أجد من تعرّض لهذه النقطة الآتي ذكرها، رغم أهمّيّة البحث، وهي أنّنا لا زلنا مع كلّ هذا الكلام العميق نبحث على السطح؛ لأنّ أصل الشبهة إنّما جاءت من جهة أنّ العامّ يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ، فلو كنّا نقول ـ كالمحقّق العراقيّ رحمه‌الله ـ بأنّ العامّ لا يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ، فلا تأتي هذه الشبهة أصلاً. لكن عندما قلنا إنّه يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ، صار مثله مثل المخصّص المتّصل، لذلك تقوى شبهة أنّه يخصّص بمراده الواقعيّ، لا فقط بمراده الجدّيّ المنكشف الذي هو حجّة. صحيح أنّ (لا تكرم العالم الفاسق) ليس بحجّة إلّا في خصوص مرتكب الكبيرة، لكن لمّا تعنون به العامّ، فالعامّ أيضاً صار مجملاً مثله.
فالمطلوب هنا أن نبحث عمّا هو المقصود من تعنون العامّ بنقيض عنوان الخاصّ، الذي هو قرينة منفصلة، فهل المقصود من هذا التعنون هو أنّه يصير كالقرينة المتّصلة في كلّ شيء، أم المقصود أمر آخر؟ فإذا لم نكشف النقاب عن ذلك فلن نصل إلى نتيجةٍ في هذا البحث. وإذا كشفنا النقاب عنه فسينكشف لنا المصالحة بين المحقّق العراقيّ رحمه‌الله الذي أنكر التعنون والمشهور الذين أصرّوا على التعنون.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo