< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/01/19

بسم الله الرحمن الرحیم

القسم الثاني: وهو التمسّك العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفسه.
وهنا، ذكرنا أيضاً أنّه ينقسم ـ كالقسم السابق ـ إلى ما كان التردّد في الشبهة المصداقيّة بين الأقلّ والأكثر وما لو كان التردّد بين المتباينين.
إنّما تكون الشبهة مصداقيّةً مع اتّضاح المفهوم، والشكّ بسببٍ يرتبط بالواقع الخارجيّ، وحينئذٍ: فلا شكّ في كلا العنوانين في عدم صحّة التمسّك بالعامّ؛ ذلك أنّ العامّ دائماً في قوّة قضيّةٍ شرطيّة، وحيث إنّه في قوّة الشرطيّة فهو لا يتولّى إثبات موضوعه؛ ذلك أنّ الحكم الفعليّ متأخّر عن وجود الموضوع، فما لم نُحرز وجود الموضوع في الخارج، فلا يمكننا إثبات وجود الحكم بالفعل. وحينئذٍ: فيكون المورد من موارد الشكّ في ثبوت الحكم بالنسبة إلى الواقع الخارجيّ الذي هو المحكوم به بالحكم الفعليّ، وإن كان ذلك بتوسّط الطبيعيّ والعنوان؛ ذلك أنّ تعلّق الأحكام بالعناوين إنّما يكون بما هي مرآة للواقع الخارجيّ، لا بما هي هي، وحينئذٍ: فإنّ شكّنا الناشئ من الاشتباه الخارجيّ في موارد الأقلّ والأكثر، كما لو حسمنا المراد من العادل على مستوى المفهوم، وأنّه ـ مثلاً ـ مجتنب مطلق الذنب، ولكنّنا شككنا في أنّ زيداً الخارجيّ الذي نعلم باجتنابه للكبائر في أنّه مجتنب للصغائر أم غير مجتنب لها، فحينئذٍ: لا يصحّ التمسّك بالعامّ لإثبات الحكم بالنسبة له؛ لأنّنا لا نحرز ثبوت عنوان الحكم الذي هو مرآة لأفراده، لا نحرز انطباقه عليه، وحينئذٍ: فإن وُجد أصل موضوعيّ يُحرز لنا الموضوع في مورد الشكّ، كما لو كان المشكوك أمراً مسبوقاً بالعدم، يجري استصحابه، فحينئذٍ: يكون أحد جزأي الموضوع، وهو اجتناب الكبائر، ثابتاً بالوجدان، والآخر ثابتاً بالأصل. ولا يكون الدليل هو الذي أثبت الموضوع.
وأمّا إن انعدم الأصل الموضوعيّ المثبت لموضوع الحكم، إمّا لعدم كون المقام مجرىً لأصل (كأن لا يكون هناك حالة سابقة)، أو لعدم كونه مجرىً لأصلٍ ذي أثر شرعيّ (هناك حالة سابقة، لكنّ الأثر لا يترتّب إلّا بواسطة عنوان وجوديّ ـ مثلاً ـ، من قبيل الأصل المثبت) فحينئذٍ: يُشكّ في ثبوت التكليف الفعليّ، فتجري البراءة عنه. وفي جميع هذه الحالات التي أمكننا فيها إثبات الموضوع، أو لم يمكنّا ذلك، لا ينتسب ثبوت الموضوع إلى الحكم، إلى العموم، وهذا من الواضحات.
وأمّا عند التردّد بين المتباينين، فأيضاً من الوضوح بمكان أنّني بعد أن اتّضح لديّ المفهوم بالنسبة لموضوع الحكم، وأحرزت أنّ مراد المولى من قوله: أكرم كلّ الأولياء، هم العبيد، لكنّي شككْتُ في شخصٍ في الخارج؛ لشدّة سمرةٍ فيه، أنّه من العبيد أم من السادة، فحينئذٍ: لا شكّ في أنّه لا يوجد في الدليل ما يُثبت لي الموضوع بمعنى الواقع الخارجيّ، والعلّة هي العلّة هنا، المتباينان هنا كالأقلّ والأكثر، وأنّ الحكم لا يُثبت موضوعه، ومتعلّق الحكم لبّاً وحقيقةً هي الأفراد الخارجيّة، ولو بتوسّط العنوان، لكن العنوان بما هو مرآة للأفراد الخارجيّة. فحينئذٍ: يكون شمول الحكم للشبهة المصداقيّة مشكوكاً، ومعه: إن جرى أصل موضوعيّ ينقّح الموضوع فهو، وإلّا، كان مجرىً لأصالة البراءة.
وهنا، لا يمكن أن نقول بوجود العلم الإجماليّ المنجّز؛ ذلك أنّ العلم الإجماليّ الموجود في المقام، ليس علماً إجماليّاً بمعنى العلم الإجماليّ بالحكم الفعليّ، ذلك أنّ هذا الفرد الخارجيّ مشكوك أنّه من العبيد أم السادة، صحيح أنّني أعلم إجمالاً أنّه إمّا عبد أو سيّد، لكنّ هذا العلم الإجماليّ لا أثر له؛ لأنّه على تقدير كونه عبداً فهو مشمول للتكليف، وعلى تقدير كونه سيّداً غير مشمول له، فلا يوجد حكم فعليّ إلزاميّ على كلا التقديرين، فلا يوجد علم إجماليّ منجّز.
وكيف كان، فبمعزل عن الوظيفة، من الواضح أنّه كسابقه في عدم إمكان التمسّك بالعامّ لإثباته؛ لأنّه لا يصحّ التمسّك بالحكم لإثبات موضوعه. ولعلّ التعبير الأصفى في هذا المجال، هو القول بأنّ الحكم متأخّر رتبةً عن الموضوع في مقام التشريع على مستوى الحكم الإنشائيّ والجعل، وفي مقام الفعليّة على مستوى الحكم الفعليّ؛ ذلك أنّ الموضوع في أفق المولى علّة للجعل، وفي مقام الفعليّة علّة للمجعول.
هذا تمام الكلام في المحطّة الأُولى.

المحطّة الثانية:
وهي معقودة للحديث عن التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة لمخصّصه.
وينضوي تحت هذه المحطّة مسائل أربع:
المسألة الأُولى: أن يكون المخصّص المجمل مفهوماً متّصلاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر.
المسألة الثانية: أن يكون المخصّص المجمل مفهوماً متّصلاً مردّداً بين المتباينين.
المسألة الثالثة: أن يكون المخصّص المجمل مفهوماً منفصلاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر.
المسألة الرابعة: أن يكون المخصّص المجمل مفهوماً منفصلاً مردّداً بين المتباينين.
أمّا المسألة الأُولى:
ومثالها: (أكرم كلّ عالم)، هذا عامّ مبيَّن، (إلّا الفاسق منهم). أو (أكرم كلّ عالم عادل)؛ فإنّ القرينة قرينة متّصلة في المقام، والفسق مردَّد بين الأقلّ والأكثر، هل هو ارتكاب الذنب مطلقاً، أم ارتكاب خاصّ للذنب؟ وكذلك العدالة هل هي اجتناب الذنب مطلقاً، أم اجتناب خصوص الكبائر؟
وهنا، لا ينبغي الكلام والإطالة؛ إذ المخصّص المتّصل يمنع من انعقاد الظهور في العموم، وهو ـ كما ألمحنا سابقاً ـ ليس من التخصيص في الحقيقة؛ إذ المقصود من التخصيص تخصيص الحكم بالاقتطاع من موضوعه، وهنا، قبل انصباب الحكم حُصّص الموضوع، فعندما حُصّص لم يكن موضوعاً للحكم أساساً، بل بات موضوع الحكم في طول تحصيصه. إنّما انصبّ الحكم ابتداءاً على العالم العادل، فأنا تصوّرت العالميّة والعدالة ودمجت بينهما فتحصّل لديّ هيئة اندماجيّة، وهي العالم العادل، ثمّ صببت الحكم على هذه الهيئة الاندماجيّة، وهذا من قبيل: ضيّق فم الركيّة، وليس من التخصيص في شيء، التخصيص بالمعنى الاصطلاحيّ هو تضييق موضوع الحكم بما هو موضوع الحكم بعدما كان واسعاً، وهذا مختصّ بالمخصّص المنفصل كما هو واضح. وعلى كلّ حال، جرى الاصطلاح على أنّه تخصيص متّصل، ولا مشاحّة في الاصطلاح.
أقول: الكلام في المخصّص المتّصل هو الكلام في الشبهة المفهوميّة لنفس العامّ، بلا فرقٍ؛ ذلك أنّ المخصّص المتّصل جزء من موضوع الدليل العامّ، وحينئذٍ: فنحن لدينا شبهة مفهوميّة تارةً تكون مردّدة بين الأقلّ والأكثر، وهي المسألة الأُولى، وأُخرى بين المتباينين، وهي المسألة الثانية، كما لو قال: (أكرم كلّ رجل في القرية)، ثمّ قال: (لا تكرم الموالي)، وتردّدنا مفهوماً في المراد من الموالي، وأنّهم السادات أم العبيد، فحينئذٍ: من الواضح أنّ نفس العامّ باتت شبهته مفهوميّة، فالكلام هو الكلام.
إنّما الكلام في بعض أنحاء الشبهة المصداقيّة، وسيأتي الكلام فيها.
المسألة الثالثة:
أن يكون المخصّص منفصلاً، ويكون مردّداً مفهوماً بين الأقلّ والأكثر. مثاله: ما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال في مجلسٍ آخر: (لا تكرم العالم الفاسق)، وهنا، انعقد ظهور العامّ في العموم، وتمّ موضوع الحجّيّة، بتماميّة مجلس التخاطب وسياقه بات يجب على المكلّف إكرام كلّ عالم، قبل حضور وقت العمل ورد المخصّص من الشارع، (لا تكرم العالم الفاسق)، وتردّدتُ في أنّ الفاسق هل هو مطلق مرتكب الذنب أم خصوص مرتكب الكبيرة، وهذا تردّد بين الأقلّ والأكثر سببه التردّد في المفهوم، فما هو الحكم في المقام؟
وهذه هي المسألة الجديرة بالبحث.
الرأي المشهور والمعروف هنا بين المحقّقين، بلا كلامٍ بينهم، أنّ العامّ بات حجّةً، ولا تُرفع اليد عن الحجّة إلّا بحجّةٍ أقوى منها. والمورد الذي نشكّ فيه بسبب الشبهة المفهوميّة، وهو زيد ـ مثلاً ـ الذي نعلم بأنّه لا يرتكب الكبيرة لكنّه يرتكب بعض الصغائر. الخاصّ ليس حجّةً فيه؛ لأنّه شبهة مفهوميّة لنفسه، ولكنّ العامّ الذي كان حجّة في وجوب إكرام كلّ عالم، بعد تخصيصه بهذا الدليل، هل يكون حجّةً فيه أم لا؟
أجاب المحقّقون: إنّ العامّ حجّة في كلّ ما لا يكون الخاصّ حجّة فيه، وفي زيد لم يكن الخاصّ حجّة، وشمول العامّ له محرز؛ لأنّه عالم، والعامّ يقول: أكرم كلّ عالم، فيكون العامّ حجّةً في الشمول له، فيجب إكرامه من جهة شمول الحجّة التي هي العامّ في المقام له.
هذا الكلام ـ بدواً ـ قد تُثار في وجهه شبهة، وهي أنّ العامّ عندما خُصّص وقُيّد بالخاصّ بات معنوناً بنقيض الخاصّ، (أكرم كلّ عالم) (لا تكرم العالم الفاسق)، لا شكّ لدى أحدٍ في تخصيص العامّ بهذا الخاصّ، إنّما الكلام في شموله لمورد الشبهة المفهوميّة فقط، وأمّا أصل التخصيص فليس محلّ كلام، فالعامّ الحجّة بعد التخصيص هو (أكرم كلّ عالم غير فاسق). العامّ بما هو حجّة: أكرم كلّ عالم غير فاسق، فيُقال: ما دام العامّ بات معنوناً بنقيض عنوان الخاصّ، فحينئذٍ: الواجب إكرامه هو العالم غير الفاسق، فهذا الشخص الذي نعلم أنّه مجتنب الكبائر لكن يرتكب بعض الصغائر ونشكّ في أنّه فاسق صار في قوّة كونه شبهة مفهوميّة لنفس العامّ؛ لأنّ العامّ تعنون بعنوان نقيض الخاصّ، فنحن لا نحرز أنّه عالم غير فاسق، نحن نحرز أنّه عالم، لكنّ موضوع الحجّة بعد التخصيص صار مركّباً من العالم وغير الفاسق، وهذا عالم حتماً، ولكن من أين أن نحرز أنّه غير فاسق؟! بناءاً على كون الفاسق هو مطلق مرتكب الذنب هو الآن فاسق.
فهذه الشبهة تريد أن تقول: إنّ الشبهة المفهوميّة للخاصّ وإن كان منفصلاً تولّد شبهة مفهوميّة للعامّ بعد التخصيص؛ لأنّ القيد، وهو غير الفاسق، صار جزءاً من العامّ بما هو حجّة فعليّة بعد التخصيص، فيصبح شبهة مفهوميّة للعامّ المخصَّص، فكونه شبهة مفهوميّة للمخصِّص يجعله شبهة مفهوميّة للعامّ المخصَّص. فيُقال: كيف تقولون من غير نكير بأنّ التمسّك بالعامّ جائز في المقام؛ لكونه حجّة في الشمول، تامّ الاقتضاء، والمانع مشكوك؟ فإنّ هذا المانع قد عنون العامّ، فبات العامّ بما هو حجّة مشكوك، وموضوع حجّيّة الظهور هو العامّ بما هو حجّة، لا العامّ بما هو لفظ.
هذه الشبهة تعرّض لها بعض المحقّقين، كالسيّد الخوئي رحمه‌الله، وأجاب عنها، وهناك تطوير لها في كلام صاحب المنتقى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo