< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدّمة الثالثة:
ولعلّ الأَولى أن يكون ما سنتحدّث عنه في هذه المقدّمة هو المقام الأوّل.
ذلك أنّ الشبهة تارةً تكون شبهة في نفس العموم، وأُخرى تكون شبهة في مخصّصه. وكلٌّ منهما ينقسم إلى شبهة مفهوميّة وشبهة مصداقيّة. والشبهة المفهوميّة والمصداقيّة معاً تارةً يدور الأمر فيهما بين الأقلّ والأكثر، وأُخرى بين المتباينين.
ثمّ إنّ الشبهة في المخصّص على أقسامها تارةً يكون المخصّص فيها مخصّصاً متّصلاً، وأُخرى يكون مخصّصاً منفصلاً.
ويوجد تقسيم يظهر أثره على بعض المباني في خصوص الشبهة المصداقيّة في المخصّص المنفصل، حيث فُصّل في بعض فروعها من قبل صاحب الكفاية رحمه‌الله ومن تبعه بين كون المخصّص مخصّصاً لفظيّاً، وبين كونه مخصّصاً غير لفظيّ.
وحقّ البحث في هذا الموقف أن نبحث بدايةً في محطّتين:
المحطّة الأُولى: في الشبهة في نفس العامّ، وهو ما لم يُبحث فيه عند المحقّقين؛ لأنّه لا يوجد فيه مزيد بحث، ولأنّ تكليفه يتعيّن من الحديث بعد ذلك في القرينة المتّصلة، لكن تنظيم البحث يقتضي أن نُدرجه في عناوين الأبحاث.
وينقسم البحث في هذه المحطّة إلى قسمين:
القسم الأوّل: الشبهة المفهوميّة.
والقسم الثاني: الشبهة المصداقيّة.
وكلّ واحدةٍ منهما تنقسم إلى عنوانين، ذلك أنّ الشبهة المفهوميّة تارةً يكون التردّد فيها في المفهوم بين الأقلّ والأكثر وأُخرى يكون بين المتباينين.
وكذلك الكلام في الشبهة المصداقيّة.
فإذا ورد كلام عامّ من الشارع، فإمّا أن يكون مبيَّناً وإمّا أن يكون مجملاً.
فإن كان مبيَّناً، فلا كلام. وإنّما يُقصد بالمبيَّن هنا ما كان نصّاً في معناه أو ظاهراً فيه.
وهذا لا كلام فيه كما هو واضح؛ إذ دلالة النصّ قطعيّة، ودلالة الظهور حجّة ببركة دليل حجّيّة الظهور الذي عمدته السيرة العقلائيّة القائمة على العمل بالظهورات في باب التخاطب الممضاة من قِبَل الشارع.
وأمّا إن كان مجملاً، فهنا لا بدّ من الكلام في العناوين:
فإنّه تارةً يكون إجماله من جهة تردّده بين الأقلّ والأكثر مفهوماً، وهذا هو العنوان الأوّل من القسم الأوّل، كما لو قال الشارع: أكرم كلّ عادل، فموضوع الحكم، ومدخول أداة العموم هو العادل، وشككنا ـ مثلاً ـ في أنّ العادل هل هو خصوص مجتنب الكبيرة أم الأعمّ منه ومن مجتنب الصغيرة، فهنا، لا شكّ في أنّ العامّ سواء كان مُثبتاً للتكليف أم نافياً له، لا يكون حجّةً في مقابل بقيّة الأدلّة الاجتهاديّة والفقاهتيّة، إلّا بالمقدار الذي يصدق عليه فيه أنّه بيان، ومن الواضح: أنّ المفهوم المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يصدق عليه أنّه بيان في موضوعه ومورده إلّا بالنسبة للأقلّ.
ففي المثال: إذا كان التكليف يُثبت وجوب الإكرام للعادل، وشككنا أنّ العادل عند الشارع هو خصوص مجتنب الكبيرة أو الأعمّ منه ومن مجتنب الصغيرة، فالقدر المتيقّن الذي يجب إكرامه هو الأقلّ من حيث الصدق الخارجيّ؛ إذ ما يُعدّ هذا الدليل بياناً بالنسبة له هو خصوص مجتنب الذنب مطلقاً، لا لأنّه دالّ عليه؛ إذ نحن مردَّدون، فالبيان بالذات غير موجود في المقام، لكن وجود قدر متيقّن في محلّ الكلام من جهة أنّ العادل يشمل جزماً من كان مجتنب الذنبين وإن لم يكن موضوعاً له بشرط لا عن الزيادة، فيُعدّ بياناً بلحاظ القدر المتيقّن، ولنسمّه بياناً بالعرض.
إذ تارةً يُراد من البيان المعرفة بالوضع أو تنقيح الظهور، وتارةً لا نعرف أنّه موضوع لمجتنب الذنب مطلقاً أو لخصوص مجتنب الكبائر، لكن على كلا التقديرين، هو يشمل مجتنب الذنب مطلقاً، فلا أعرف ما وُضع له في لسان الشارع، لكنّه جزماً يشمل مجتنب الذنب مطلقاً من باب القدر المتيقّن، وهذا يكفي لتسميته بياناً في المقام.
وينبغي الالتفات إلى أنّنا لا نبحث هنا عن معنى كلمة البيان في اللّغة العربيّة، ولا عن وجود مصطلح خاصّ للشارع في لفظة البيان، بل قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند القائل بها يقصد هناك من البيان: المُثبت للحكم الشرعيّ بشكلٍ بيّن لا لبس ولا شكّ فيه، لا البيان بمعنى الدلالة اللّفظيّة الوضعيّة، أو الظهور الذاتيّ بشكل مباشر. ومن هنا قلنا: إنّ القدر المتيقّن يُعدّ بياناً وإن لم نكن عالمين بأنّ مفهوم العادل موضوع له بخصوصه. وأمّا أدلّة البراءة الشرعيّة فإنّها دائرة مدار ما يعلمون وما لا يعلمون، فهي تدور مدار الشبهة وعدم الشبهة، ومن الواضح: أنّ القدر المتيقّن خارج عن الشبهة، فهل يصحّ أن يُقال ـ مثلاً ـ لمجرّد أنّنا لا نعرف أنّ كلمة (عادل) موضوعة لمجتنب الذنب مطلقاً، أو لخصوص مجتنب الكبيرة، أنّنا في شبهة كاملة لا يوجد فيها أيّ قدر متيقّن؟ قطعاً لا يصحّ هذا الكلام؛ فإنّ من يجتنب الكبائر والصغائر ولا يرتكب ذنباً ما، لا شكّ في أنّه عادل، لا من جهة وضع العادل له بخصوصه بل من جهة أنّه مشمول له جزماً، وهذا يكفي في علمنا بشمول التكليف له.
وعليه: فمن الواضح في هذا العنوان الأوّل من القسم الأوّل أنّ الدليل لا ينهض حجّةً إلّا في قدره المتيقّن، وهو في المثال مجتنب الذنب مطلقاً، أمّا من لا يجتنب الصغائر ويجتنب الكبائر فهو مشكوك مفهوماً، فلا يُعدّ بياناً لا بالذات ولا بالعرض، فهو خارج عن القدر المتيقّن، ومعه: تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند القائل بها، وتجري أدلّة البراءة الشرعيّة التي اتُّفق على القول بها في الشبهة الوجوبيّة، وهذا واضح؛ إذ مقتضى هندسة الاستنباط أنّنا دائماً نمتلك أصلاً عمليّاً عنه لا نرفع اليد عنه إلّا بالدليل الذي يصحّ أن يُسمّى بياناً. ومجرّد احتمال شمول (أكرم العادل) لمجتنب الكبيرة فقط ليس أكثر من احتمال، ومعه: يبقى المقام من مقامات الشبهة والشكّ فيبقى مجرىً لأصالة البراءة، أو لأيّ دليل فوقانيّ، أو قاعدة كلّيّة، إن كان، فمن الواضح: أنّ العامّ ليس حجّةً في الشبهة المفهوميّة لنفسه في مورد التردّد بين الأقلّ والأكثر.
لا يُقال: إنّ من الواضح: أنّ العادل يجب إكرامه، ونحن نشكّ في أنّ فلاناً عادل أم لا من جهة الشكّ في سعة أو ضيق الإطلاق، فيكون المقام مجرىً لأصالة الاشتغال، ولا مجال لأصالة البراءة؛ إذ قد اشتغلت الذمّة بوجوب إكرام العادل.
فإنّه يُقال: إنّ متعلّق الحكم وإن كان بتوسّط عنوان العادل، لكنّ متعلّق الحكم وموضوعه ليس العنوان، بل الواقع الخارجيّ المعنون بهذا العنوان، فأعود شاكّاً في انطباق العنوان على الفرد الخارجيّ، الذي اجتنب الكبائر ولم يجتنب الصغائر، فأشكّ في وجود تكليفٍ لي بلزوم إكرامه من جهة كونه عادلاً، فتجري البراءة عن وجوب إكرامه هو، لا عن وجوب إكرام العادل.
ولا يُقال أيضاً: إنّ هذا خلط بين الشبهة المفهوميّة والشبهة المصداقيّة؛ إذ باب التطبيق باب الشبهة المصداقيّة.
فإنّه يُقال: إنّ الفارق بين الشبهة المفهوميّة والمصداقيّة ليس من هذه الجهة، بل من جهة أنّ سبب الشكّ في الانطباق على الواقع الخارجيّ تارةً يكون هو التردّد في المفهوم وأُخرى هو التردّد في خصوص التطبيق الخارجيّ. وموردنا من الأوّل؛ إذ لا نشكّ في مواصفات الواقع الخارجيّ، بل أعلم أنّه لا يجتنب الصغائر ويجتنب الكبائر، فلا شكّ لي محدوداً بحدود الواقع الخارجيّ، بل شكّي في انطباق العادل عليه ناشئ من شكّي في أنّ العادل على مستوى الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعيّة وُضع بحيث يشمله أو لا يشمله.
عموماً لبّ الجواب يرتبط بأنّ مجرى البراءة بلحاظه هو، لا بلحاظ العنوان بما هو عنوان، ولذلك لا تتأتّى هذه الشبهة من الأساس.
هذا هو العنوان الأوّل من القسم الأوّل.
ومنه يتّضح الكلام في حيثيّات العنوان الثاني من القسم الأوّل، وهو ما لو كانت الشبهة في العامّ شبهة مفهوميّة، ولكنّه مفهوم مردّد بين المتباينين، كما لو قال: أكرم كلّ الأولياء، وعلمْتُ أنّه لا يريد استعمال المشترك في أكثر من معنىً، إمّا لاستحالته أو لأيّ سببٍ آخر، وشككْتُ أنّه يريد من الأولياء هنا السادة أم يريد العبيد؟ فهنا تردّد بين متباينين، أجزم أنّه لا يريد غيرهما من اصطلاحات الوليّ، وأنّه لا يريد كليهما، فأنا أجزم أنّه يريد أحدهما. فهنا من الواضح: أنّ العامّ مجمل، ويصدق أنّه مشتبه في شموله للعبيد كما أنّه مشتبه في شموله للسادة، والتردّد بينهما تردّد بين متباينين.
وفي هذه الحالة، لا شكّ في أنّ العامّ لا يكون حجّةً فيهما معاً؛ لأنّه خلاف العلم الوجدانيّ، ولا يكون حجّةً في أحدهما بالخصوص؛ لتردّد دلالته بالتكافؤ بين المعنيين. كما أنّه على مستوى الظهور والدلالة لا معنى للقول بحجّيّته في أحدهما على إجماله؛ إذ هذا ليس من دلالاته اللّفظيّة.
نعم، يقع البحث حينئذٍ فيما هو مقتضى الوظيفة العمليّة في المقام، وواضح أنّه لا يوجد قدر متيقّن هنا؛ لأنّ التردّد ليس بين أقلّ وأكثر، وواضح أنّه لا معنى لإجراء الأصول الترخيصيّة في الطرفين معاً، ولا في أحدهما بالخصوص؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، ولا في أحدهما على إجماله؛ لأنّ أدلّة الأصول العمليّة ظاهرة في الشمول للأطراف الواقعيّة، لا للأطراف التي هي من قبيل العناوين المشيرة والجوامع الانتزاعيّة، فيقع الكلام حينئذٍ في قدرة هذا العامّ على توليد علم إجماليّ منجّز، أو عدم قدرته على ذلك.
ولا ينبغي الكلام فيما لو كان صدوره قطعيّاً عن الشارع، (الصدور هو القطعيّ، لا الدلالة، بل الدلالة مجملة) وكنّا نقطع بأنّه لا يريد الاثنين معاً ولا يريد غيرهما وأنّه مردّد بينهما؛ إذ لدينا حينئذٍ علم إجماليّ بوجوب إكرام إمّا السادات أو العبيد، تتعارض الأصول الترخيصيّة، فهو مثل أيّ علم إجماليّ.
إنّما الكلام فيما لو كان هذا العامّ الذي هذه حاله ثابتاً بدليل الحجّيّة، وليس بالقطع، أي: خبر واحد ثقة، لا رواية متواترة، أو آية من الكتاب، بل خبر واحد ثقة، دلّت أدلّة حجّيّة خبر الثقة عليه، هل تشمل أدلّة الحجّيّة حجّيّة ما هذه حاله أم لا تشمل؟ لأنّ هذا ليس بياناً بالذات.
أقول: بات واضحاً ممّا تقدّم أنّه لا ينبغي الشكّ، بعد أن بيّنّا أنّنا لا نبحث عن كلمة (بيان) في إطلاقات الكتاب أو السنّة أو في لغة العرب، بل نبحث عمّا يصحّ تسميته بياناً بالمعنى الواقعيّ للكلمة. ولا شكّ في أنّ الجامع بين الأولياء بمعنى السادة والأولياء بمعنى العبيد قد تمّ البيان عليه، فأنا لديّ علم تفصيليّ بالجامع وشكوك بعدد الأطراف (على مبنى المشهور في تفسير حقيقة العلم الإجماليّ)، حينئذٍ: يُوجد ما يُسمّى بياناً.
السؤال الثاني: هل يوجد أثر شرعيّ للقول بالحجّيّة حتّى تشمله أدلّة الحجّيّة؟ وهذا السؤال لا معنى له إذا كان لدينا قطع؛ لأنّ حجّيّته ذاتيّة أو بحكم الذاتيّة، أو لا يوجد أثر شرعيّ؟
الجواب: نعم يوجد، نفس تهيئة الأرضيّة لحكم العقل بتنجيز العلم الإجماليّ، أليس هذا أثراً؟ هو بلا شكّ هو أثر؛ لأنّ الأثر قد يكون حكماً شرعيّاً، وقد يكون تنقيحاً لموضوع الحكم الشرعيّ، المهمّ أن ينتهي إلى التنجيز والتعذير، وهذا هو معنى الأثر الشرعيّ. فلا شكّ في أنّه حِكْميّاً يمكن أن نقول بحجّيّة هكذا دليل في المقدار الذي يكون فيه بياناً، وهو مقدار الجامع.
السؤال الثالث: هل تشمله أدلّة حجّيّة خبر الواحد إثباتاً أم لا؟
هنا نقول: إنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد لا ينبغي التشكيك في أنّها تشمله؛ إذ خبر الثقة أفاد الجامع بشكلٍ واضح، فيكون مشمولاً لما تعبّر عنه مجمل الأدلّة اللّفظيّة بـ (صدّق الثقة)، صدّقه في مقدارٍ هو أخبرك به، وهو قد أخبرك في مقابل عدم وجوب إكرام لا السادات ولا العبيد، بوجوب إكرام أحدهما (المردّد بينهما الدليل). وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فإذا كان الدليل اللّفظيّ هو الدليل على الحجّيّة، وإذا كان الدليل ـ كما هو الصحيح ـ هو السيرة العقلائيّة، فلا شكّ في أنّ العقلاء إذا حكم عليهم مولاهم بحكم، لا شكّ في أنّه يكون موضوعاً أمام عقولهم للزوم الامتثال في حالات البيان وفي حالات الإجمال، إذا كان ينتهي إلى تنجيز وتعذير، وهنا لا شكّ في أنّه ينتهي إلى ذلك، أنا أعلم أنّ المولى قد حكم عليّ حكماً وجوبيّاً بوجوب إكرام إمّا السادات وإمّا العبيد، فيوجد إذاً كلّ المؤشّرات التي تجعلني ـ حكماً ـ عالماً (حكماً، لأنّه ليس لديّ علم تفصيليّ، ولا علم إجماليّ وجدانيّ، بل ما لديّ هو علم إجماليّ نتج عن حجّة ظاهريّة، وهي حجّيّة خبر الثقة، فعندي علم إجماليّ بحجّةٍ تدلّ على وجوب إمّا إكرام السادات وإمّا إكرام العبيد، فيتشكّل علم إجماليّ بينهما. ومن الواضح جدّاً أنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الأطراف. فيكون حينئذٍ منجّزاً للطرفين، إلّا أن يكون أحد الطرفين لسبب خارجيّ لا يجري فيه الأصل الترخيصيّ ـ مثلاً ـ، وهذا لا يختصّ بمورد كلامنا، بل يأتي في كلّ علم إجماليّ.
هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo