< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/01/17

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدّمة الثانية:
أنّ العامّ المخصَّص إمّا أن يُخصَّص بقرينة متّصلة أو منفصلة.
والقرينة المتّصلة لا تخلو من أحد نحوين: فإمّا هي متّصلة وقد باتت تشكّل مع مدخول أداة العموم هيئة اندماجيّة، كالوصف والاستثناء (على فرقٍ بينهما)، وإمّا أن يكون المخصّص جملةً مستقلّةً ناجزة، غاية الأمر: أنّ المتكلّم جاء بها متّصلة سياقاً بجملة العموم في مجلس تخاطبٍ واحد.
والمعروف بين المحقّقين في مثل ذلك أنّ العموم لا ينعقد ظهوره الحجّة إلّا في غير ما شمله التخصيص. وقد أطلقوا الكلام في ذلك. ما دعا بعض المحقّقين، ومنهم الشهيد الصدر)، إلى دعوى وضوح هذا الكلام في الحالة الأُولى، دون الثانية؛ إذ في الحالة الأُولى، أداة العموم قد دخلت منذ البداية على هيئة تركيبيّة مركّبة تركيباً اندماجيّاً، كما في (أكرم كلّ عالم عادل)، أو (أكرم كلّ عالم إلّا الفاسق)، وحينئذٍ: فإنّ الظهور حتّى على مستوى المدلول التصوّريّ الاستعماليّ، ومنذ البداية، لم يكن شاملاً إلّا لخصوص العالم العادل في المثال الأوّل، أو العالم غير الفاسق في المثال الثاني، فمن الطبيعيّ أن يُدّعى أنّ الظهور في المقام غير منعقد منذ البداية إلّا في تعميم الخطاب والحكم لخصوص أفراد العالم المتّصفين بالعدالة، أو غير المتّصفين بالفسق.
وأمّا في الحالة الثانية، فإنّ الظهور التصوّريّ لكلّ جملة مستقلّ عن الظهور التصوّريّ والاستعماليّ للجملة الثانية؛ إذ عندما قال: (أكرم كلّ عالم، ولا تكرم العالم الفاسق)، من الوضوح بمكان أنّ الجملة الأُولى استُعمل (العالم) فيها في مطلق العالم، فـ (كلّ) مدخولها جميع ما يصلح العالم للانطباق عليه من أفراد على مستوى الدلالة التصوّريّة وعلى مستوى المراد الاستعماليّ. والجملة الثانية النافية المخصّصة يجري فيها نفس الكلام.
وهنا ينعقد المدلول التصوّريّ والاستعماليّ للجملة الأُولى في مطلق العالم، فلا يكون الظهور غير منعقد. غاية الأمر: أنّنا نحتاج إلى مصادرة عرفيّة عقلائيّة في باب المحاورة، وهي أنّ الموضوع التامّ للحجّيّة لا يكفي فيه الظهور الاستعماليّ، بل يحتاج إلى إجراء أصالة التطابق بين ما يقول وما يريد جدّاً؛ لأنّ موضوع الحجّيّة للظهور ليس هو الظهور الاستعماليّ فحسب، بل الظهور الاستعماليّ الكاشف بأصالة التطابق العقلائيّة بين ما قال وما أراد جدّاً، والمدّعى في المقام أنّه في باب التخاطب العقلائيّ عند أبناء المحاورة لا يُقتنص المراد الجدّيّ. وبعبارةٍ أُخرى: لا يُجرون أصالة التطابق بين ما قال واستعمل فيه وما أراد بمجرّد انتهاء الجملة المفيدة، بل يحتاجون عقلائيّاً بالإضافة إلى ذلك إلى تماميّة الظهور السياقيّ الذي قد لا يقتصر على جملة مفيدة واحدة.
وفي محلّ كلامنا، المفروض أنّ القرينة أو الخطاب الأظهر (على الخلاف بين صاحب الكفاية والمحقّق النائيني) جاء متّصلاً سياقاً بجملة العموم في مجلس تخاطبٍ واحد، وحينئذٍ: فلا نستطيع أن نُجري أصالة التطابق في الجملة الأُولى بمفردها بين ما قال وما أراد جدّاً، بل لا بدّ من لحاظ ما أعدّه أظهر أو قرينة في جملته الثانية، ليكون بياناً لحقيقة مراده الجدّيّ من جملته الأُولى.
وهذا تصرّف على مستوى المدلول التصديقيّ لا يحتاج إلى دليل وبرهان سوى هذه المصادرة العرفيّة العقلائيّة التي لا يشكّ أحد سويّ من أبناء المحاورة في أنّ المراد الجدّيّ النهائيّ لا يُقتنص إلّا بتماميّة مجموع كلماته في مجلس التخاطب (لا مطلقاً ولو في مجلس آخر)؛ إذ ما دام المتكلّم يتكلّم بالطريقة المتعارفة عند أبناء اللّغة فإنّهم يرون من حقّه الاستدراك والتشذيب لسببٍ من الأسباب، إمّا لسلاسة البيان، أو للالتفات إلى نكتةٍ لم يكن قد التفت إليها فيستدركها (وهذا منفيّ في شارعنا لعصمته) أو لحكمة أُخرى من حِكمٍ قد تستدعي مستوىً من مستويات التدرّج في البيان.
وحينئذٍ: فالنتيجة أنّ الحقّ مع المشهور في عدم كون العموم خارج إطار القرينة المُعدّة حجّةً إلّا فيما لم تشمله القرينة، لكنّ تخريج ذلك يختلف بين القرينة المتّصلة التي تشكّل هيئة اندماجيّة، وبين القرينة المتّصلة سياقيّاً في جملة مستقلّة؛ فإنّ التصرّف في الأوّل يكون على مستوى الاستعمال، بينما على الثاني على مستوى المراد الجدّيّ وعدم إمكان إجراء أصالة التطابق في الجملة الأُولى منفردةً.
وأمّا القرينة المنفصلة:
فمن الواضح: أنّ شخص الكلام وسياقه إذا تمّا انعقد في الأوّل (شخص الكلام) الظهور الاستعماليّ، وبملاحظة الثاني انعقد موضوع الظهور الجدّيّ، فتجري أصالة التطابق بين ما قال وما أراد، والسرّ في ذلك: أنّه بحسب القانون العرفيّ والعقلائيّ لأبناء المحاورة فقد جرت القاعدة على أنّ المتكلّم يبيّن تمام مرامه بشخص كلامه أو مجموع كلماته في سياقٍ واحد، وتبقى حالات تأجيل جزءٍ من المراد إلى فرصةٍ أُخرى أو سياقٍ آخر، وإن أمكن تخريجها حِكميّاً، على ما جرت عليه عادة شارعنا، لكن تبقى حالةً استثنائيّة في عرف أبناء المحاورة. ومن هنا، فإنّ العادة عندهم جرت على اقتناص المراد الجدّيّ قاعدةً وإجراء أصالة التطابق بين ما قال وما أراد بتماميّة شخص الكلام وسياقه، مع كونهم ملتفتين إلى أنّ المتكلّم الحكيم العقلائيّ قد يؤجّل لسببٍ من الأسباب بيان جزءٍ من المراد حكمةً أو لعلّةٍ من العلل.
ولعلّ السرّ في إجراء العقلاء أصالة التطابق مع التفاتهم نوعاً إلى وجود مثل هذه الحالة الاستثنائيّة المقتضية لتأجيل جزء من المراد إلى فرصةٍ أُخرى، أنّهم لولا إجراء أصالة التطابق للزم اختلال قانون المحاورة وإجمال الخطاب في مقام العمل، وهو محذور يُفشل عمليّة التفهيم والتفاهم، خصوصاً في باب الموالي والعبيد، ذلك أنّ أيّ كلامٍ في العادة أفاده متكلّم فإنّه يبقى إجمالاً مقروناً باحتمال أن يُتبعه في وقتٍ من الأوقات بما يخصّصه أو يقيّده أو يصرفه عن ظهوره الأوّليّ، فلولا إجراء أصالة التطابق للزم إجمال الخطاب على مستوى المراد الجدّيّ للمتكلّم، فتبطل فائدة الكلام في كثيرٍ من صيغ المحاورة.
وهذا محذور يُفشل حكمة الحوار والخطاب في كثيرٍ من الخطابات العرفيّة، فنظراً لاستثنائيّة الاعتماد على القرائن المنفصلة، ولزوم هذا المحذور الفاسد، خصوصاً في باب السادات والعبيد، باب التقنين والإطاعة، وجدنا السيرة العقلائيّة في باب المحاورة قائمة على إجراء أصالة التطابق بين ما قال وما أراد بدعوى: أنّه لو أراد التخصيص أو التقييد أو صرف الكلام عن ظاهره الموضوع له والمستعمل فيه على مستوى الإرادة الجدّيّة، لو أراد ذلك لبيّن، وحينئذٍ: فلا ينقلب الظهور عمّا وقع عليه. ويصبح حجّةً في كشف المراد الجدّيّ ما لم يَثبت أنّ المتكلّم جاء بخطابٍ أظهر (بحسب كلمات الكفاية) أو أعدّه قرينةً، نوعيّة أو شخصيّة، على خلاف هذا الظهور الأوّل.
وحينئذٍ: فإذا أعدّ المتكلّم قرينة منفصلة مخصّصة أو مبيّنة،حاكمة، فإنّها لا تذهب بظهور الكلام على مستوى المدلول التصوّريّ والمراد الاستعماليّ؛ لأنّ الشيء أبداً لا ينقلب عمّا وقع عليه، غاية الأمر: أنّه يُبطل تماميّة الموضوع لحجّيّة الظهور، وهو إجراء أصالة التطابق بين ما قال وما أراد؛ لأنّ هذه الأصالة إنّما تجري على مستوى القاعدة، وقد تصدّى هو لبيان ما هو خلاف القاعدة بالإتيان بالقرينة المنفصلة، وهذا معنى كلامهم من أنّ القرينة المنفصلة لا تهدم الظهور، بل تهدم حجّيّته. أي: أنّها تهدم إجراء أصالة التطابق بين ما قال وما أراد جدّاً. فتبقى أصالة التطابق جارية في الحقيقة، لكنّها هذه المرّة تجري بلحاظ ضمّ القرينة إلى ذيها، يعني: نضمّ الخطاب المفصول تنزيلاً إلى الخطاب الموصول ونقتنص الظهور النهائيّ منها، وحينئذٍ: نُجري أصالة التطابق بين ما قال وما أراد، بضمّ الكلامين إلى بعضهما، ولو في مجلسين. والنتيجة تكون نتيجة التخصيص في باب التخصيص، والتقييد في باب التقييد، والتفسير في باب الحكومة التفسيريّة، وهكذا..
هذه هي المقدّمة الثانية.
المقدّمة الثالثة:
أنّنا وجدنا الأصوليّين بمجرّد أن يدخلوا في بحث ما عنونّاه بالموقف السابع مباشرةً يبحثون عن حجّيّة العامّ الذي خُصّص بمخصّص مجمل، إمّا إجمالاً مفهوميّاً، أو مصداقيّاً. ولم نجد لهم كلاماً في العادة عن حالات العامّ في الشبهات التي ترتبط به هو، بمعزل عن المخصّص؛ إذ كما توجد شبهة مفهوميّة في المخصّص، قد يكون العامّ مجملاً مفهوميّاً، وقد يكون مجملاً مصداقيّاً، وقد يكون في الحالتين إجمالاً بنحو الدوران بين الأقلّ والأكثر، أو بنحو الدوران بين المتباينين. ففي مثل: (أكرم على عادل)، الموضوع للحكم هو العادل، فمدخول كلّ مباشرةً هو العادل، والعموم عموم أفراد العادل، لا خصوص العادل العربيّ أو الذي لا يصلّي صلاة اللّيل، والعادل فيه شبهة مفهوميّة، إذ هو مردّد بين الأقلّ والأكثر، فهل هو خصوص صاحب الملكة، أو هو من لا يرتكب الكبيرة، أو من لا يرتكب الكبيرة ولا الصغيرة، أو من لا يرتكب الكبيرة ولا يُصرّ على الصغيرة.
فهنا، نفس العامّ مجمل مفهوماً ومردّد بين الأقلّ والأكثر. فما هي الوظيفة فيما لو أجمل نفس العامّ؟ هذا لا نراه مبحوثاً في كتب الأصول. ولعلّه لأنّ النتيجة لا تحتاج إلى بحثٍ مفصّل وكلام. لكنّنا مع ذلك نراه مهمّاً. ومن هنا، نتناوله بالبحث. حيث عنونّا الموقف السابع بالتمسّك بالعامّ في الشبهات، أي: لشبهة مفهوميّة أو مصداقيّة في نفس العامّ، أو لشبهة مفهوميّة أو مصداقيّة في مخصّص العامّ.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo