< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الجمع المحلّى بالألف واللّام
لا ينبغي الشكّ على مستوى الحصيلة النهائيّة لمفاده في أنّه دالّ على العموم، بناءاً على الضابطة التي فرّقنا فيها بين العموم وبين الإطلاق؛ إذ من الواضح: أنّ موضوع الحكم في الجمع المحلّى هو الأفراد، لا الطبيعة بحدّها، فعلى مستوى القضيّة الملفوظة بات الموضوع هو الأفراد بما هي مصاديق للطبيعة، لا الطبيعة غير الناظرة إلى الأفراد، ليصبح الشمول للأفراد من باب التطبيق، وهذا أمر وجدانيّ يشعر به كلّ من تذوّق هذه اللّغة.
هناك أمر وجدانيّ ثانٍ في المقام، وهو أنّ الجمع المحلّى باللّام يدلّ على استيعاب جميع الأفراد التي تنطبق عليها مادّة الجمع في مرحلة اللّفظ، لا أنّها تشمل أو تستوعب جماعةً منها. فعندما يُقال: (أكرم العلماء)، عاريةً عن أيّة قرينة خارجيّة عن اللّفظ، لا يشكّ أحد من أبناء اللّغة في أنّ هذا الحكم شامل لكلّ فرد فرد من أفراد العالم من دون قرائن.
ولا ينبغي توهّم أنّ هذه الهيئة المركّبة من الجمع وأل تدلّ على استيعاب وحداتٍ منضمّةٍ من أفرادٍ بعضها إلى البعض الآخر، كأن يُتوهَّم أنّ (أكرم العلماء) يفيد أنّ الموضوع ثلاثة ثلاثة من أفراد العالم، أو اثنان اثنان من أفراد العالم، أو عشرة عشرة منهم، (الفرق بين هذه الثلاثة واضح؛ فإنّ ثلاثة ثلاثة هو أقلّ الجمع العرفيّ، واثنان اثنان هو أقل الجمع على وجه الحقيقة، وعشرة عشرة هو أقصى الجمع؛ إذ ما بعد العشرة ليس ضمّ الآحاد بعد ذلك). لا نظنّ أنّ عربيّاً يأتي إلى ذهنه لدى سماع هذه الكلمة أنّه جمع الوحدات، وليس جمع الآحاد، وهذا نزعم أنّه أمر وجدانيّ واضح في اللّغة.
إذاً، فلا كلام في استفادة العموم من الجمع المحلّى باللّام.
إنّما الكلام في أنّ هذه الاستفادة هل هي استفادة لفظيّة مباشرة، أم استفادة لفظيّة غير مباشرة، أي: مع ضمّ لوازم تلزم من اللّفظ، أم أنّها استفادة غير لفظيّة أصلاً؟
هذه جهة من البحث.
الجهة الثانية من البحث: أنّ التعميم إلى جميع الأفراد التي تنطبق عليها الماهيّة هل يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول، أم لا يحتاج إلى ذلك؟ حيث انقسم العلماء والمحقّقون هنا إلى رأيين، وربما وجدنا قائلاً بلزوم إجراء مقدّمات الحكمة هنا مع أنّه غير قائل بذلك في الموقف السابق، أي: في الأدوات المسلّم أنّها من أدوات العموم وضعاً.
وقبل كلّ شيء، لا بدّ من التنبيه على نكتةٍ انجرّ إليها البحث عند الشهيد الصدر رحمه‌الله منفرداً بذلك، حيث ربط مصير البحث هنا بالتعريف الذي يختاره الأصوليّ للعموم؛ إذ تقدّم في تعريف العموم أنّ جملةً من المحقّقين، ومنهم صاحب الكفاية رحمه‌الله، عرّفوا العموم بـ استيعاب المفهوم لتمام ما يصلح للانطباق عليه. وعرّفه في المقابل جماعة آخرون، ومنهم الشهيد الصدر رحمه‌الله، بأنّه استيعاب مفهومٍ لتمام ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم آخر. فشقّق البحث تشقيقاً رئيسيّاً إلى هذين التعريفين، وأنّه على القول باستيعاب المفهوم يمكن أن يُقال في تخريج الدلالة على العموم أحد أمور، لا تتأتّى بناءاً على التعريف الثاني. وذهب إلى تحليلٍ ذهنيٍّ دقيق بعيدٍ كلّ البعد عن المرتكزات العرفيّة، بما لا نجد أيّ داعٍ للولوج فيه، بل هو ابتعاد عمّا ينبغي في الأبحاث الاكتشافيّة اللّغويّة من الاقتصار على المنبّهات القريبة من الأذهان العرفيّة.
على أنّ أصل هذا التشقيق إنّما بُني على خللٍ في التعبير عند صاحب الكفاية رحمه‌الله والجماعة؛ إذ لا يُحتمل في حقّ هؤلاء أنّهم يرون العموم حصيلة استيعاب نفس المفهوم ذاتاً في باب أسماء الأجناس والماهيّات، كيف؟! وأبحاثهم تنادي بأعلى صوتها بأنّ العموم هو حصيلة أداة العموم، وأنّ الاستيعاب هو ببركة هذه الأداة، فإن كان من خللٍ في التعريف عندهم، وقد نبّهنا عليه آنفاً، فهو في صياغة التعريف لفظيّاً، وهو جزماً لا يُنبئ عن اختلافٍ مفهوميٍّ واقعيّ في العموم بين أصحاب التعريفين. وهذا من الوضوح بمكانٍ عند الأصوليّين.
على أنّ خصوص صاحب الكفاية رحمه‌الله لم يكن بصدد إبراز تعريف فنّيّ حتّى تُبنى أصول البحث بعد ذلك عليه وتُفرَّع نتائج حقيقيّة على تعريفه؛ إذ ما ذكره في تعريف العموم إنّما ذكره بعد إنكاره الحاجة إلى التعريف وأنّ التعريف من قبيل شرح الاسم، كما عبّر، وإن ناقشنا في تعبيره عنه بشرح الاسم. فالأصوليّون بأيّ تعريف عرّفوا العموم، هم عملاً متّفقون على أنّ الشمول إلى الأفراد، الشمول التفريديّ، الشمول التفريديّ إلى الأفراد إنّما هو حصيلة الدالّ على العموم الذي دخل على أسماء الماهيّات والأجناس، وإلّا لما بقي فرق أساساً بين العموم والإطلاق.
وعليه: فما نهجه الشهيد الصدر رحمه‌الله في تقسيم البحث هو تطويل للمسافة وتبعيد عن الوصول إلى النتيجة.
وبحسب ما ينبغي الجري عليه هنا، وهو ما جرى عليه بنحوٍ وآخر كلّ المحقّقين باستثناء الشهيد الصدر رحمه‌الله، فنقول:
بعد الفراغ عن الإحساس الوجدانيّ اللّغويّ بالدلالة على العموم، يقع البحث في الدالّ عليها، ونحن ما لدينا في باب الجمع المحلّى باللّام أمور أربعة:
1) مادّة الجمع. كمصدر (العلم) في (العلماء).
2) هيئة الجمع.
3) لام التعريف الداخلة على هيئة الجمع.
4) المركّب من الأمور الثلاثة. أي: هيئة الجمع المحلّى باللّام.
أمّا المادّة، فلا شكّ في أنّها بمفردها لا تفيد العموم، وهذا أمر بديهيّ، وهي اسم للطبيعة، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث الإطلاق والتقييد، وأنّها لأيّ شيءٍ هي موضوعة؟
وأمّا هيئة الجمع وحدها، فمن الواضح: أنّها وإن دلّت على الجمع، لكنّها لا تدلّ على العموم والشمول لكلّ ما يصلح مادّته للانطباق عليه، بل تدلّ على أفراد الجمع، وأفراد الجمع يكفي في إشباعها الثلاثة بالمعنى العرفيّ لغويّاً. لا نقول: هو موضوع للثلاثة، لكنّ أقلّه الثلاثة، لكنّه جزماً ليس موضوعاً لأعلى مراتب الجمع، وهي كلّ ما يصلح (عالم) للانطباق عليه. وهذا واضح أيضاً.
وأمّا اللّام، فهي في حدّ نفسها موضوعة لغةً للتعريف والتعيين في المدخول، (طبعاً بعضهم يقول هي للتزيين، بعضهم يقول هي للعهد الذهنيّ، ويقصدون من العهد الذهنيّ العهد العامّ)، فهي بنفسها لا تدلّ إلّا على التعريف والتعيين لما دخلت عليه، وليست موضوعةً لأكثر من ذلك.
إلّا أن يُدَّعى أنّ للّام وضعين: وضعاً عند دخولها على المفرد، وووضعاً آخر عندما تدخل على الجمع، فهي عندما تدخل على المفرد لا تفيد أكثر من التعيين والتعريف، وأمّا عند دخولها على الجمع، فهي تفيد بالإضافة إلى التعيين والتعريف الشمول والاستيعاب، يُدّعى أنّها موضوعة لغةً لذلك.
ولا نظنّ أحداً من أهل العربيّة بوجدانه يشعر بوجود هذين الوضعين. بل لم يُنقل أساساً شيء من هذا عن أحدٍ من أئمّة اللّغة، قديماً وحديثاً.
وأساساً، لا يوجد داعٍ لهذا الوضع أصلاً؛ لأنّ الواضع عندما كان يضع فهو لم يكن يضع ليحلّ مشكلة ستنشأ في الأصول بعد قرون، بل إنّما كان يضع بل لحاجته اللّغويّة في مقام التفهيم، ومن الواضح جدّاً أنّ الدلالة على هذا الأمر الوجدانيّ، وهو استيعاب ما يصلح أن ينطبق المادّة عليه، لا تتوقّف على وضعٍ ثانٍ للّام غير وضعها الأوّل. فلا يبقى لدينا سوى سلوك أحد طريقين:
1) أن نقول بأنّ المركّب من اللّام وهيئة الجمع موضوع في اللّغة العربيّة للشمول والاستيعاب، أي: غير وضع هيئة الجمع وحدها، وغير وضع اللّام وحدها، لكنّ المركّب منهما له وضع في العربيّة خاصّ، وهو موضوع للشمول والسريان والاستيعاب. فهيئة الجمع المحلّاة دخلت على المادّة بنحو المعنى الحرفيّ، فدلّت على الاستيعاب الفعليّ لتمام أفراد المدخول.
هذا الطريق لا يوجد برهان على نفيه، لا يوجد أساساً ما يمنع من أن يكون العرب قد وضعوا هيئة الجمع المحلّاة لذلك، ولا يلزم منه محذور، كما ربما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله في بعض كلماته، من أنّه يلزم أن يكون الاستعمال حين العهد الذكريّ أو الذهنيّ استعمالاً مجازيّاً، ونحن لا نشعر بشيءٍ من ذلك؛ إذ في المجازات القريبة أو المشهورة لا يشعر الإنسان بذلك التجوّز، وليست كلّ المجازات من قبيل استعمال اسم ماهيّة موضوع لمعنىً في معنىً آخر لعلاقة المشابهة، كـ (أسد) في الرجل الشجاع، فلو دلّ دليل على هذا الوضع، فهذا اللّازم نلتزم به، لا مشكلة في ذلك.
لكنّ الكلام كلّ الكلام في الدليل والمنبّه على هذا الوضع (لا مكان للدليل البرهانيّ في مثل هذه القضايا، كما هو واضح)، ونحن لم نجد منبّهاً لغويّاً ينبّه إلى وضعٍ خاصّ وضعه العرب الأوائل للمركّب من هيئة الجمع مع لام التعريف، على مستوى النقل عنهم؛ لأنّ أئمّة المعاجم وأوائل النحويّين ليسوا هم أبناء اللّغة الأصليّون، كانوا نقلةً، تارةً للاستعمالات، وأُخرى للضوابط التي ضبط العرب إيقاع لغتهم على أساسها. لم يُنقل لنا شيء من هذا أبداً في التراث، ولم نجد فيما بين أيدينا قرينةً لغويّةً تستدعي دعوى الوضع المذكورة المحتملة، بمعنى: انسجام المفادات اللّغويّة والحفاظ على الوجدانات اللّغويّة لدى أبناء اللّغة لا تستدعي أن ندّعي أنّ هيئة الجمع المحلّاة باللّام موضوعة بوضع خاصّ غير نفس وضع اللّام الكبرويّ ووضع هيئة الجمع الكبرويّ، فلا يبقى لدينا سوى الطريق الثاني.
2) وهو القول بأنّ لام التعريف تفيد التعريف، والتعريف للجمع المبهم، يعني: يكون أقلّه ثلاثة، وأكثره كلّ الأفراد، لا يدلّ على الثلاثة بحدّها، ولا على كلّ الأفراد بحدّها، فالثلاثة يصدق عليهم أنّهم علماء، والمائة يصدق عليهم أنّهم علماء، وكلّ الأفراد يصدق عليهم أيضاً أنّهم علماء، فجهة الإبهام الموجودة في الجمع ببركة دخول أداة التعريف ارتفعت، وتعيّن الجمع بتعريفٍ، ذلك أنّه لا معنى للتعريف مع بقاء الإبهام، فيستلزم التعريف التعيين، وإذا استلزم التعيين، فمعنى ذلك: أنّه لا بدّ من القول بحمل الجمع على المرتبة التي فيها تعيّن، والمتعيّن الذي لا لبس ولا إبهام فيه هو أعلى المراتب، وهو تمام الأفراد التي يصلح مدخول اللّام بمادّته للانطباق عليها.
ولا يُشكل على هذا الكلام بما يظهر من بعض كلمات صاحب الكفاية رحمه‌الله من أنّ التعيّن موجود في كلّ مرتبة من المراتب، فالثلاثة متعيّنة، والأربعة متعيّنة، والألف متعيّنة، وكلّ الأفراد أيضاً متعيّنة؛ إذ يرد على هذا الكلام ما أورد المحقّق النائيني رحمه‌الله ومن تبعه بأنّ المقصود في المقام ليس هو التعيّن الماهويّ، وتعيّن الشيء في نفسه، بل التعيّن الخارجيّ الفعليّ. صحيح أنّ مرتبة الثلاثة لا هي أربعة ولا هي اثنان، وكذلك بقيّة المراتب، تعيّنها في نفسها، لكنّ هذا ليس هو المقصود في المقام، بل التعيّن الذي يُفاد ببركة الجمع المحلّى ودخول اللّام على الجمع هو التعيّن الفعليّ، والتعيّن الفعليّ بالنسبة للثلاثة لا دالّ عليه، وللأربعة لا دالّ عليه، بل هو ليس تعيّناً أصلاً، فلا يبقى إلّا التعيّن الكبير، وهو أعلى مراتب التعيّن، بمعنى الشمول لتمام ما يصلح مادّة الجمع للانطباق عليه، فيصبح (أكرم العلماء) مثل (أكرم كلّ عالم)، وهذا نشعر به بشكلٍ واضح بوجداننا العرفيّ واللّغويّ، وهذا لا يستدعي وضعاً جديداً للّام، بل يُستفاد باللّوازم من نفس وضع اللّام للتعريف المستلزم للتعيين المستلزم لتعيين أعلى المراتب؛ إذ لا تعيّن فعليّ في بقيّة المراتب.
نعم، يبقى هنا كلام يرتبط بما ربما يُستشكل على القول باستكشاف العموم بهذه الطريقة. هذا أوّلاً.
ويبقى أنّ هذا الكلام هل يُنتج عموماً اصطلاحيّاً، وهو العموم الذي يكون مفاد أداةٍ من الأدوات، وهذا العموم هنا ليس مفاد اللّام وحدها ولا مفاد هيئة الجمع وحدها ولا المدمج منهما.
وثالثاً: هل هذا العموم المستفاد يختلف عن العموم المستفاد من مثل (كلّ) في عدم الحاجة إلى قرينة الحكمة وإجراء الإطلاق في المدخول أم أنّه يحتاج إليها؟ فإنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله مع قوله باستفادة العموم في الجمع المحلّى، وأنّه عموم وليس إطلاقاً، مع ذلك، أفاد أنّه لا نحتاج إلى إجراء قرينة الحكمة في المدخول.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo