< قائمة الدروس

بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموقف الخامس: وهو معقود للحديث عن أدوات العموم

وممّا لا شكّ فيه أنّ هنالك أدواتٍ في العربيّة لا كلام في أنّها موضوعة لاستيعاب تمام ما يصلح مدخولها للانطباق عليه لفظاً. وهذا من قبيل كلمة (كلّ) و(جميع) و(كافّة) في الشموليّ، وكلمة (مجموع) في المجموعيّ، وكلمة (أيّ) في البدليّ.
وهذا لا ينبغي إضاعة الوقت في الحديث عنه.
نعم، وقع الكلام بين الأصوليّين في بعض هذه الأدوات، تارةً في أصل دلالتها على العموم والشمول على مستوى الدلالة الوضعيّة، وأُخرى بعد الفراغ عن هذه الجهة، في تكييف هذه الدلالة والدالّ عليها. ونجري هنا في هذا البحث على طبق ترتيب صاحب الكفاية رحمه‌الله.

النكرة في سياق النفي أو النهي
وقد ذكر رحمه‌الله أنّ اسم الجنس النكرة إذا وقع في حيّز النفي أو النهي فهل يدلّ على العموم أم لا؟
وأفاد رحمه‌الله ما خلاصته: أنّه لا شكّ في استفادة العموم والشمول في مثل: لا رجل في الدار، أو مثل: لا تُكرم فاسقاً، ولكنّ دلالتها على العموم والشمول ليست مفاد وضعٍ لغويّ، بل مقتضى تعلّق النفي أو النهي بالطبيعة انعدام تمام أفرادها، أو الزجر عنها، والطارد للعدم هو الوجود الأوّل، فهذا يقتضي عقلاً عدم الإتيان حتّى بأدنى مراتب الوجود في طرف النهي، وعدم تحقّق أدنى مراتبه في طرف النفي، فالدلالة على الشمول والاستيعاب دلالة عقليّة، وليست لفظيّة في مرحلة المدلول الوضعيّ.
ثمّ أفاد رحمه‌الله أنّ من نتائج ذلك: أنّ السلب وإن كان عامّاً، لكنّ عمومه لا يعني عموم المدخول الذي هو الطبيعة القابلة للإطلاق والتقييد، فالعموم والشمول في طرف المدخول بمعنى: انعكاس تمام أفراد الطبيعة عندما تكون مدخولاً لنفي الجنس، أو النهي عن تحقّقه في الخارج والزجر عنه، يحتاج إلى أن يكون المدخول مطلقاً غير مقيّد، وإثبات إطلاقه إنّما يكون بقرينة الحكمة؛ إذ كما يمكن نفي وجود رجلٍ في الدار، يمكن كذلك نفي وجود رجلٍ عالمٍ في الدار، فإذا شككنا عند قول القائل: لا رجل في الدار، في أنّه يريد: لا رجل عالم في الدار، (مع كون الاستعمال على سبيل الحقيقة، لا على سبيل الادّعاء، وأنّ المراد من: الرجل هو الرجل العالم ادّعاءاً)، فحينئذٍ: لا سبيل لنا لنفي ذلك إلّا بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول.
والمتحصّل من كلامه نقطتان:
1) أنّ الدلالة على العموم في الموردين دلالة عقليّة، وليست دلالة لفظيّة.
2) أنّ شمول النفي والنهي في طرف الموضوع هو ببركة إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول.
ثمّ هنا تشبيه للبحث بما ذكره هو رحمه‌الله في الفرق بين الأمر والنهي مع أنّ متعلّقهما واحد، فبينما يُكتفى في الأمر بصرف الوجود؛ لأنّ المطلوب تحقيق الطبيعة، فإنّ المطلوب في النهي هو إعدام الطبيعة. لكنّ هذا التشبيه لا يؤثّر على بحثنا هنا إلّا لمجرّد المقايسة والتذكير. لذلك لا نخوض في تفاصيل هذا التشبيه.
وبالجملة: فإنّ هذا الكلام إجمالاً قد وقع موقع القبول بين المحقّقين، بمعزل عن بعض التفاصيل غير الجوهريّ’ في البحث.
لكنّ هؤلاء المحقّقين أضافوا بعض النكات على البحث، ونحن لا بدّ لنا أن نجري على ما جرينا عليه من التأسيس في بحث العموم.

تحقيق الكلام في المسألة
ومن هنا، يمكن أن نذكر أهمّ ما ينبغي ذكره في ظلّ هذا الكلام الذي أفاده، وذلك ضمن نقاط:
النقطة الأُولى:
أنّ العموم هو السريان والشمول والاستيعاب في مرحلة المدلول اللّفظيّ الوضعيّ. هو ما يصيّر أفراد الطبيعة هي الموضوع، بما هي أفراد للطبيعة، لا بما لها من خصوصيّات ومشخّصات خارجة عن الطبيعة. وهذا يستدعي وجود أداةٍ تكون موضوعة في اللّغة العربيّة إمّا بالوضع الاسميّ أو الحرفيّ لإفادة هذا الأمر.
ولا شكّ في أنّنا لا النافية الداخلة على اسم الجنس، لا نجد بوجداننا اللّغويّ أيّ تعرّض على مستوى الوضع لنفي الفرد أو الأفراد بشكلٍ مباشر، بل ما نجده هو نفي وجود الطبيعة الذي يلازم انتفاء جميع الأفراد؛ لأنّ الطبيعة لا تنتفي إلّا بانتفاء جميع أفرادها؛ إذ إنّ نقيض كلّ شيءٍ عدمه، فإذا كانت توجد بوجود فردٍ واحد، فهي لا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد. فإذاً، لا يوجد دالّ في المقام يدلّ على الاستيعاب والشمول في مرحلة المدلول اللّفظيّ الوضعيّ، بل الدالّ دالّ على نفي الطبيعة.
وهذا الأمر لا يُفرَّق فيه بين كون مدخولها النكرة، كما هو المشهور في التعابير، وبين كون المدخول معرَّفاً باللّام في غير حالات العهد الخاصّ، فلا فرق بين قولك: لا رجل في الدار، وبين قولك: لا يوجد الرجل في الدار، ما دامت اللّام الداخلة على الرجل هي لام الطبيعة، فإنّ نفي الجنس في الاثنين واحد، ولذا قيّدنا بغير حالات العهد.
وحينئذٍ: فإنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة، و(لا) موضوعة للنفي فقط، فالمؤدّى على مستوى المدلول الوضعيّ إنّما هو نفي الطبيعة، من دون تعرّضٍ للتفريد على مستوى الأفراد.
و(لا) الناهية كذلك، إلّا أنّها زجر وردع، فمثلاً: لا تكرم فاسقاً، ولا تكرم الفاسق، لا فرق بينهما أيضاً بلا شكّ ولا ريب.
فإذا لم يكن هنالك دالّ على الأفراد بشكلٍ مباشر، أصبح الدالّ أمراً وراء اللّفظ، وهذا هو المراد من قوله رحمه‌الله: إنّ ذلك إنّما يكون بحكم العقل.
ويتفرّع على هذا الكلام: أنّ الحكم في مرحلة الجعل واحد وليس متعدّداً، وإن عاد بالتحليل العقليّ متعدّداً ومتكثّراً، وهذا يُسمّى انحلالاً في الاصطلاح الأصوليّ. فالتكثّر في العموم الاصطلاحيّ ملحوظ في مرحلة الدلالة الوضعيّة، بينما التكثّر في مورد (لا) النافية أو الناهية ليس ملحوظاً كذلك، بل نحصل عليه بالتحليل العقليّ والتطبيق، وهو ما يعبّر عنه الشهيد الصدر رحمه‌الله عادةً بأنّه تكثّر في عالم الامتثال وليس تكثّراً في عالم الحكم على مستوى الجعل، وإن كان الملاك يقتضي التكثّر، لكنّ الكلام الآن في هيئة الحكم، وليس في الملاك.
وهذه النقطة تتفرّع عليها:
النقطة الثانية:
أما وقد ثبت أنّ الأفراد ليست هي الموضوع للحكم في النفي والنهي، بل الطبيعة، من الواضح: أنّ هذه الطبيعة موضوعة لـ اللّابشرط المقسميّ، وواضح جدّاً أنّ هذه الطبيعة تقبل الإطلاق وتقبل التقييد، كما تقبل الإهمال أيضاً إذا تعلّق غرض المتكلّم بالإهمال.
وحينئذٍ: فلا دالّ على الإطلاق في المقام سوى إجراء مقدّمات الحكمة، بحيث لو احتملنا التقييد وإرادة الرجل الجاهل ـ مثلاً ـ أو العالم من قوله: لا رجل في الدار، فإنّنا ننفي القيد بإجراء مقدّمات الحكمة، وأنّ المتكلّم لو أراد التقييد لذكر، فنستظهر أنّه لا يريده من عدم ذكره في موردٍ كان يستطيع ذكره.
ولا تتأتّى هنا مقالة الاكتفاء بالإطلاق الذاتيّ التي تمسّكنا بها سابقاً لنفي الاحتياج إلى قرينة الحكمة في مدخول ما كان أداةً للعموم على مستوى المدلول الوضعيّ مثل (كلّ).
الفرق هو أنّ اسم الجنس له قابليّة الانطباق بحسب دلالته الوضعيّة، فإذا دخلت أداة العموم نظرت إلى أفراد المدخول الذي له القابليّة للانطباق عليها فصيَّرتها هي الموضوع للحكم، أمّا حيث لا توجد أداة من هذا القبيل، بل الموجود فقط وفقط هو نفي الطبيعة، فلا توجد أداة تحوّل هذه القابليّة إلى فعليّة الانطباق، وحيث لا توجد أداة من هذا القبيل، فتبقى القابليّة على حدّها، فنحتاج لنفي الاقتطاع منها إلى إجراء الإطلاق حيث نحتمل الاقتطاع، فننفيه بحكمة الشارع في باب الحكم.
فعمدة الفرق هو وجود الدالّ على الأفراد بالفعل في العموم الاصطلاحيّ، وعدم وجوده في المقام. وهذا ما أفسح في المجال للاحتياج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول.
النقطة الثالثة:
وهذه النقطة مهمّة جدّاً، ولم يتعرّض لها المحقّقون ربما لبداهتها وجداناً، وإن استغرب منهم سيّد المنتقى رحمه‌الله.
حاصلها: أنّ قانون التخصيص والتقييد لا يجري في مورد (لا) النافية أو الناهية، بل يقع التعارض بين النفي المطلق والإثبات الجزئيّ، فلا يجري قانون التخصيص في مثل (أكرم كلّ عالم) مع (لا تكرم العالم الفاسق)، بل يقع التعارض الحقيقيّ، وكذا بين (لا رجل في الدار) وبين (زيد في الدار)، أو (لا تكرم رجلاً) مع (أكرم زيداً).
الفرق بينهما: أنّ التنافي بين المثبت والنافي موجود في الحقلين معاً، ولو لم يكن موجوداً حتّى في موارد الجمع العرفيّ لما احتجنا أساساً إلى ما يُسمّى بـ قانون الجمع العرفيّ، فالتنافي أساساً موجود في الحقلين، غاية الأمر: أنّنا في موارد الدلالة اللّفظيّة حيث يكون الدالّ على الأفراد والذي تتعدّد بتعدّده الأحكام لفظيّاً، كما في باب العموم، أو مستخرجاً من اللّفظ، كما في باب الإطلاق، فإذا نصب المتكلّم بنفسه قرينةً (الكلام في القرائن المنفصلة، وأمّا المتّصلة فلم ينعقد أصلاً فيها ظهور للعموم) على أنّ مراده من العموم غالب الأفراد باستثناء الفرد الفلانيّ أو الحزمة الفلانيّة من الأفراد، فقد أقام حجّةً على مراده أقوى من حجّته الأُولى على التعميم والشمول، وحيث إنّ قيمة الألفاظ هي الكشف عن مقاصده، فإنّ ما هو الأقوى في الكشف عن مقصده ما دام هو قد أعدّه بنفسه إعداداً نوعيّاً، كما في باب العموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد، أو شخصيّاً، كما في بعض أنحاء الحكومة، كالحكومة التفسيريّة مثلاً، فإنّه تُقدَّم الحجّة الأقوى على المراد على حساب الحجّة الأضعف، ذلك أنّ العرف إذا تلقّى الكلامين رأى أنّ أحد الكلامين معدٌّ إعداداً نوعيّاً محاوريّاً، أو إعداداً شخصيّاً من صاحبه، ليكون قرينة على الآخر. العرف يقبل هذا المعنى.
وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّه حتّى الإعداد الشخصيّ يجب أن يكون مقبولاً لدى العرف اللّغويّ؛ إذ المتكلّم لا يضع لغةً لنفسه، وإنّما يستخدم اللّغة بما لها من قوانين وأدوات. الفرق بين أسلوب الإعداد النوعيّ وبين الإعداد الشخصيّ الذي يتّخذ أسلوباً خاصّاً، أنّ ذاك أسلوب عامّ منضبط، وأمّا هذا فأسلوب غير منضبط، وإلّا، فإنّ كليهما أسلوب عرفيّ ومقبول لدى العرف. فالإعداد الشخصيّ في مثل الحكومة التفسيريّة لا يعني أنّه أسلوب غير عرفيّ، بل هو عرفيّ، غاية الأمر: أنّه غير مقنَّن بقانون خاصّ، بل كلّ شخص يستخدم الألفاظ التي تدلّ على مراده في اللّغة بالأسلوب الذي يراه مناسباً.
فما دام العرف يقبل أنّ هذا أظهر وأقوى دلالةً من ذاك، فهو يراه قرينةً معدَّة من شخص المتكلّم، أو الجهة المتكلّمة التي هي بحكم الشخص الواحد، كتقييد كلام إمام بكلام الإمام اللّاحق عليه، فحينئذٍ: يحصل التقييد.
بينما في محلّ كلامنا لا يوجد سماحٌ عرفيّ عند أبناء المحاورة يقتضي استعمال لا النافية للجنس مع كون مراد المريد جدّاً هو البعض، أو الغالب، وليس الكلّ.
والسرّ في ذلك: أنّ المقام مقام نفي الطبيعة، العقل هو الذي حكم بانتفاء تمام أفرادها، لا اللّفظ؛ لأنّ الطعبية لا تنتفي إلّا إذا انتفى جميع أفرادها، فوجود واحدٍ من أفرادها يناقض انتفاءها؛ فإنّ طارد العدم هو الوجود الأوّل، وبقيّة الوجودات لا قيمة لها في هذا المجال.
وبعبارة أوضح: فإنّ نفي الجنس هو نفي لأدنى مراتب الوجود، وهو يلازم انتفاء مراتب الوجود الأُخرى. وأمّا إثبات وجود الجنس فهو إثبات أدنى مراتب الوجود، فعندما يُقال: هنالك رجل، أو يوجد الرجل، فإنّه يكفي وجود رجل واحد، ولذلك يقع التناقض بين مثل: لا رجل، وبين مثل: يوجد رجل، وكذلك الكلام في طرف النهي.
وهذا هو السرّ الدقيق لعدم جريان قانون الجمع العرفيّ في موردنا.
هذا ما ينبغي أن يُذكر بالنسبة لـ لا النافية ولا الناهية.

اسم الجنس المحلّى باللّام
وأمّا اسم الجنس المعرَّف باللّام، فهو إمّا مفرد، كـ (العالم)، وإمّا جمع، كـ العلماء، ولا كلام مهمّ بالنسبة للمفرد المحلّى باللّام؛ لأنّه لا توهّم لدلالته على التفريد على مستوى الدلالة الوضعيّة، بل أقصى ما يدلّ عليه هو الطبيعة، فلا الألف واللّام يدلّان على التكثّر الأفراديّ، ولا كلمة (عالم) تدلّ على فردٍ أو أفراد، بل إنّما يدلّ اسم الجنس على الطبيعة.
وهذا واضح وليس فيه مزيد كلام.
من هنا، تسالم المحقّقون من غير نكير على أنّ المفرد المحلّى باللّام هو من باب الإطلاق، لا من باب العموم؛ لأنّه لا دالّ على التكثّر في مرحلة الدلالة الوضعيّة.
إنّما الكلام كلّ الكلام في الجمع المحلّى باللّام، بعد أن بات واضحاً أنّ الجمع من دون الألف واللّام غير دالٍّ على العموم، وأنّ اللّام من دون جمع لا تدلّ على العموم أيضاً في مرحلة الدلالة الوضعيّة. يأتي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo