< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

المسألة 24
* قال الماتن!: ما صلّاه قصراً قبل العدول عن قصده لا يجب إعادته في الوقت، فضلاً عن قضائه خارجه.[1]
شخص قصد قطع مسافة، وبدأ بالسفر، ووصل إلى حدّ الترخّص، فسرى عليه حكم التقصير، فحضر الوقت فصلّى قصراً. ثمّ بعد مضيّ مقدارٍ من المسافة لا يكفي، امتداداً أو تلفيقاً، عدل عن سفره، وأراد العود إلى بلده. أو نوى المقام في تلك النقطة، لكنّها لم تكن سفراً. فما هو حكم الصلاة التي صلّاها؟
لا بدّ أوّلاً من الحديث على مقتضى القاعدة الأوّليّة.
وثانياً على مستوى الدليل الخاصّ.
أمّا على مستوى الأدلّة الأوّليّة، فالظاهر أنّ المستنتج منها هو لزوم الإعادة؛ إذ الوظيفة الفعليّة بالصلاة قصراً مشروطة بنحو الشرط المتأخّر بقطع المسافة، كما تقدّم؛ إذ لدينا شرط يقول بلزوم قطع ثمانية فراسخ، وشرط آخر يقول بلزوم القصد، ولدى المشهور شرط يقول بلزوم استمرار القصد. ولدينا دليل يدلّ على أنّه إذا غاب الأذان أو خفيت الجدران قصّر.
ومقتضى الجمع بين هذه الأدلّة أنّه يبدأ بالتقصير بشرط بلوغ سفره مسافة، وإلّا، لو قلنا بأنّه لا يبلغ، لما كان للمسافة موضوعيّة على مستوى الاشتراط؛ إذ قصد قطعها هو الذي يكون له الموضوعيّة، وهذا خلاف ظاهر الأدلّة؛ فإنّ ظاهر الأدلّة أنّ شغل يومه بمسافةٍ قُدّرت في الروايات ببريدين أو بريد في بريد هو الذي يستدعي التقصير.
ومن هنا، وقع في بعض الروايات شيء من التهافت في ذهن السائل، بين كون السفر مسافة، وبين كون التقصير يسري بمجرّد الخروج من البلد إلى حدّ الترخّص. فأجابه الإمام ع بأنّ هذا إنّما يقصّر في ذلك المكان لأنّه لا يشكّ في سفره وهو عازم على إتمام المسافة.
ولذا صار جملة من المحقّقين من متأخّري المتأخّرين إلى تفسير ذلك على أساس الشرط المتأخّر الذي لا استحالة فيه قطعاً في الاعتباريّات، كما هو الحال في المقام، وإن قيل باستحالته في التكوينيّات.
وهذا إنسان لم يُتمّ المسافة، فالشرط غير متحقّق، فالمشروط أيضاً غير متحقّق، فينكشف أنّه في علم جبرئيل ع لم يكن مخاطَباً بالتقصير، فمقتضى القاعدة أنّ عليه أن يُعيد. نعم، لو شاء المولى أن يكتفي بهذا المقدار الذي صلّاه قصراً لمصلحة التسهيل أو غيرها فله ذلك. لكنّ هذا لا نستطيع استخراجه من الأدلّة العامّة، فنحتاج في المقام إلى الأدلّة الخاصّة.
ولا يشفع لنا في المقام ما أُلمح له في بعض الكلمات من أنّ الأمر بالقصر عند بلوغ حدّ الترخّص يستلزم الإجزاء في نفسه؛ إذ هو إنّما يستلزم ذلك لو لم يَثبت وجود شرط متأخّر، وأمّا مع وجوده، فهذا الأمر يكون مشروطاً به كما هو واضح. غاية الأمر: طبيعة المقام تقتضي أنّه لا علْم للمكلّف بحصول هذا الشرط المتأخّر أو عدم حصوله.
فالقاعدة إذاً تقتضي عدم الإجزاء.
فالكلام في الدليل الخاصّ، فنقول:
ذهب المشهور ـ بل ادُّعي الإجماع ـ إلى القول بالإجزاء والاجتزاء بما أتى به، من دون أن يبحثوا في أنّ هذا هل هو من باب أنّ التقصير كان هو وظيفته الواقعيّة أم الفعليّة، ولو الظاهريّة أو التخيّليّة، لكنّ الإجزاء للدليل الخاصّ. ذلك أنّ المتقدّمين يُفتون ولا يبيّنون وجه الفتوى، والمتأخّرون اختلفت كلماتهم، فبعضها يقبل الحمل على الوظيفة الواقعيّة، وبعضها يقبل الحمل على الوظيفة الفعليّة، الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة والتخيّليّة. والقائلون بالمقالة الثانية يلزمهم الاستدلال بالدليل الخاصّ.
من هنا، ننتقل إلى البحث عن الدليل الخاصّ، فنقول:
على مستوى الأدلّة الخاصّة، لدينا بعض المرويّات التي دلّت على الاجتزاء بما أتى به. وفي مقابلها بعض آخر دلّ على لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.
وعمدة الروايات أربع، وهي روايات متقدّمة، لكن لا بدّ من بحثها هنا.
الرواية الأُولى:
الرواية الواردة في الباب 23، الحديث 1، وهي:
محمّد بن عليّ بن الحسين، بإسناده عن زرارة، قال: سألْتُ أبا جعفرٍ ع [وفي بعض النسخ في التهذيب والاستبصار، الموجود: سألْتُ أبا عبد الله ع] عن الرجل يخرج مع القوم في السفر يريده، فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين، فصلّوا وانصرف بعضهم في حاجة، فلم يُقْضَ له الخروج، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين؟ قال: تمّت صلاته ولا يُعيد.[2]
قوله: فلم يُقضَ له الخروج، الضمير ظاهر في الرجوع إلى الرجل المسؤول عنه، لا إلى البعض الذي انصرف في حاجة.
والرواية واضحة في الدليل على الإجزاء والاجتزاء، وهي صريحة فيه، أو كالصريحة. وإذا كان لا يعيد، فهو لا يقضي من بابٍ أَوْلى؛ إذ معنى كونه لا يعيد وهو في الوقت، أنّها وافية بالملاك، وإذا كانت وافيةً بالملاك فلا يوجد فوت، والقضاء فرع الفوت.
ولها أسانيد، بعضها مشكل، لكن خلاصة الكلام في سندها أنّه لا شكّ في صحّته.
وهذا الرواية اكتفى بها بعض المحقّقين.
الرواية الثانية:
استدلّ بها المحقّق الأصفهانيّ ره، وهي الرواية 10 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، وهي:
لم نصحّحها سابقاً بسبب وقوع محمّد بن أسلم الجبليّ في سندها.
وهي: وعن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، عن محمّد بن أسلم، عن صبّاح الحذّاء، عن إسحاق بن عمّار، قال: سألْتُ أبا الحسن ع عن قومٍ خرجوا في سفرٍ فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا من الصلاة، فلمّا صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو أربعة تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلّا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أيّاماً لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يُتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال: إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا، وإن كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ فليتمّوا الصلاة قاموا أو انصرفوا، فإذا مضوا فليقصّروا.[3]
الرواية الثالثة: الرواية 11 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، وهي نفس الرواية السابقة، ولكنّها عن علل الشرائع، وهي:
ورواه الصدوق في (العلل) عن أبيه، عن سعد، وعن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمّد بن عليّ الكوفي، عن محمد بن أسلم نحوه وزاد قال: ثمّ قال: هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت: لا، قال: لأنّ التقصير في بريدين ولا يكون التقصير في أقلّ من ذلك، فإذا كانوا قد ساروا بريداً وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد سافروا سفر التقصير، وإن كانوا ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلّا إتمام الصلاة، قلت: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: بلى إنّما قصروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم وإنّ السير يجدّ بهم، فلمّا جاءت العلّة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا.[4]
السند صحيح إلى محمّد بن أسلم.
وفي الرواية عليّ بن الحسين السعدآباديّ، ولا توثيق خاصّ له، لكنّه شيخ مباشر لصاحب كامل الزيارات، فنوثّقه لذلك.
وقد استدلّ المحقّق الأصفهانيّ ره بقوله: إنّما قصروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم، حيث إنّ ظاهره أنّ وظيفتهم الواقعيّة هي التقصير، وأنّها مشروطة بشرطٍ مقارن، لا متأخّر، والشرط المقارن أن يكون تقصيرهم مقروناً بعزمهم على إتمام المسافة. فإذا عزموا على السفر وخرجوا إلى حدّ الترخّص، ولا يزال عزمهم قائماً، ولم يشكّوا في مسيرهم، بل يجدّون السير، فهؤلاء وظيفتهم التقصير. فلمّا شكّوا أو عدلوا وجاءت العلّة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا، أي: صارت وظيفتهم هي التمام بالفعل. فيستظهر من هذا أنّ الوظيفة الواقعيّة هي التقصير أصلاً. وهذا يساوق إنكار الشرط المتأخّر.
فقال ره: لماذا نربط الأمر بالشرط المتأخّر مع أنّ الشرط المتأخّر هو أساساً معركة الآراء في علم الأصول، بل هذه الرواية ظاهرة في أنّه شرط مقارن، وهو ربط للوظيفة ببقاء العزم بالفعل على إتمام المسافة، وهو شرط مقارن، فقطع المسافة بعد ذلك ليس شرطاً.
نعم، عندما لم يقطعوا المسافة ولم يبقوا على عزمهم بل جاءتهم العلّة باتت وظيفتهم هي التمام. وهذا يعني: أنّ قطع المسافة ليس شرطاً في التقصير، بل الذي هو شرط في التقصير هو بقاء العزم على قطع المسافة أثناء قطعها، فكلّ وقتٍ وظيفته بحسبه.
وهذا الكلام على مستوى نفس هذه الرواية لا بأس به؛ فإنّ الرواية ظاهرة في هذا. خصوصاً وأنّ الإمام ع لو كان يريد أنّ هذا التقصير كانت نتيجة أمرٍ تخيّليّ بأنّه سيُتمّ المسافة، لكان عليه لكيلا يكون كلامه ناقص الإفادة أن يبيّن لزوم الإعادة بعد أن عدلوا، لكنّه ع لم يبيّن شيئاً من هذا، ما يعني: أنّه في كلّ وقتٍ وظيفتهم هي تلك. وعليه: فلا نحتاج إلى أكثر من هذا، فيكون الشرط مقارناً، لا متأخّراً.
أقول: لو كنّا نحن وهذه الرواية، فلا بأس بهذا.
لكن لو لم نعتدّ بهذه الرواية؛ لضعفها سنداً، وكنّا نحن والقاعدة فهي تفضي إلى الشرط المتأخّر، لا المقارن، وحيث إنّ هذه الرواية ضعيفة السند، فلا نستطيع العمل بها في نفسها، فضلاً عن أن نغيّر مجرى القاعدة بسببها.
ولعلّه لأجل هذا أهملها السيّد الحكيم ره في المستمسك، وكذا السيّد الخوئي ره، ولم يُدخلاها في حيّز الاستدلال.
إذاً، فالعمدة في المقام باتت هي رواية زرارة الصريحة في عدم الإعادة.
في المقابل، لدينا روايتان دلّتا على عدم الاكتفاء بهذه الصلاة:
أُولاهما: صحيحة أبي ولّاد الواردة في الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1، وهي:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد، قال: قلْتُ لأبي عبد الله ع: إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينةٍ إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحوٍ من عشرين فرسخا في الماء، فسرْتُ يومي ذلك أقصّر الصلاة، ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدْرِ أصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: إن كنْتَ سرْتَ في يومك الذي خرجْتَ فيه بريداً فكان عليك حين رجعْتَ أن تصلّي بالتقصير؛ لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك، قال: وإن كنتَ لم تسِرْ في يومك الذي خرجت فيه بريداً فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام (من قبل أن تؤمّ) من مكانك ذلك؛ لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصّرت، وعليك إذا رجعْتَ أن تُتمّ الصلاة حتى تصير إلى منزلك.[5]
قوله: لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير. يعني: أنّ التقصير واقعاً مشروط بأن تبلغ المسافة التقصيريّة، لكنّ صلاتك عندما بلغت حدّ الترخّص باتت قصراً من باب الوظيفة الفعليّة، وهذا يُنتج الشرط المتأخّر.
فهذه الرواية صحيحة السند، وتامّة الدلالة، وهي تدلّ على وجوب القضاء وإن كانت وظيفته الفعليّة هي التقصير؛ لكونه قد بلغ حدّ الترخّص. فهي واضحة في أنّ قطع المسافة، لا مجرّد الشكّ وعدم الشكّ، شرط ينعكس على الوظيفة الفعليّة السابقة. وهي واضحة في عدم الإجزاء؛ إذ قد دلّت على وجوب القضاء، وما يدلّ على وجوب القضاء يدلّ على وجوب الإعادة بطريقٍ أَوْلى؛ فإنّ القضاء فرع الفوت، ومن كان في الوقت لم يفته شيء، ولم يأتِ بما هي الوظيفة الواقعيّة، فعليه أن يأتي بها، ولا يمكن أن يكون القضاء واجباً والإعادة غير واجبة، كما هو واضح. وحيث إنّه صلّى في النهار، فقال له الإمام ع: في اللّيل عليك أن تقضي كلّ صلاةٍ صلّيتها. وهذا الكلام بحسب الظاهر معناه الإرشاد إلى الفساد الواقعيّ للصلاة التي صلّاها قصراً، وإلّا، فلو لم تكن فاسدةً واقعاً فلماذا يقضيها؟ فهو حكم وضعيّ يبتني عليه الأمر بالقضاء، فكأنّه قال: صلاتك التي صلّيتها قصراً باطلة، فاقضِ ما فات. ومثل هذا اللّسان حَمْله على الاستحباب كما ترى، وإن حُمل عليه في بعض الكلمات.
بقيت لدينا رواية، وهي رواية سليمان بن حفص المروزيّ، وهي:
وبإسناده [الشيخ الطوسيّ ره] عن الصفّار، عن محمّد بن عيسى، عن سليمان بن حفص المروزي قال: قال الفقيه ع: التقصير في الصلاة بريدان، أو بريد ذاهباً وجائياً، والبريد ستّة أميال وهو فرسخان، والتقصير في أربعة فراسخ، فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلاً وذلك أربعة فراسخ، ثمّ بلغ فرسخين ونيّته الرجوع، أو فرسخين آخرين، قصّر، وإن رجع عمّا نوى عند بلوغ فرسخين وأراد المُقام فعليه التمام، وإن كان قصّر ثمّ رجع عن نيّته أعاد الصلاة.[6]
(هذا الرجل مرْويّ، وفي مرْو، الفرسخ الخراسانيّ ضعف الفرسخ المتعارف عند العرب).
والظاهر من قوله: وإن كان قصّر، أي: وظيفته الفعليّة، لكن لأنّه عاد عن نيّته فإنّ عليه أن يُعيد. فهذه ظاهرة في الإعادة في الوقت، وإن كانت الإعادة في الروايات قد تُحمل على الأعمّ من الوقت وخارجه. فحمْل الروايات على المصطلحات الأصوليّة التي صارت مأنوسةً عندنا ليس في محلّه.
وإذا كان الأمر كذلك، فهذه الرواية وإن عبّر عنها السيّد الخوئي ره بالموثّقة تارةً وبالصحيحة أُخرى، لكنّها رواية من الواضح عندنا أنّها لم يُوثَّق صاحبها توثيقاً خاصّاً، وإن كان من رجال كامل الزيارات.
إذاً، لم يبقَ للاستدلال إلّا رواية زرارة ورواية أبي ولّاد، وكلتاهما صحيحة السند بلا شكّ. فماذا نصنع؟
المشهور شهرة عظيمة، والمعمول به عند الأصحاب، هو مضمون رواية زرارة، وأنّ الصلاة التي صلّاها قصراً مجزئة ولا تجب الإعادة، ولا نعرف في هذا مخالفاً سوى الشيخ الطوسيّ في كتاب الاستبصار، حيث تعرّض للروايتين المذكورتين، وأسقط رواية زرارة بسبب رواية أبي ولّاد، وتوقّف في المسألة.
ولكن، كتاب الاستبصار ليس كتاب فتوىً حتّى يُعدّ الشيخ في الاستبصار مخالفاً، بل هو كتاب علميّ، وإلّا، فعلى مستوى الفتوى لا يوجد مخالف في ذلك.
فإن قلنا بأنّ هذا إعراض من المشهور عن العمل بصحيحة أبي ولّاد ورواية المروزيّ ـ في هذا الجانب منهما، لا في تمام المفاد ـ وقلنا بكبرى موهنيّة الإعراض، ولو لم يكن عملاً بصحيحة زرارة، وقلنا بالصغرى هنا، فحينئذٍ: تكون النتيجة لصالح نتيجة زرارة.
وأمّا لو لم نؤمن بالكبرى، أو آمنّا بها، لكن شككنا بالصغرى، فأيضاً لا يمكن لنا أن نخرّج بهذا التخريج.
ونحن في الأصول آمنّا بكبرى الموهنيّة، لكن نقول: الصغرى هنا محلّ إشكال؛ إذ ما قلنا به هناك هو الإعراض الكاشف عن الوهن، لا الذي يكون معلَّلاً بعلل اجتهاديّة. ونحن لا نحرز أنّ الإعراض في المقام كاشف عن وهن في سند أو دلالة الرواية لم يصل إلينا، بل المسألة صناعيّة فيها قواعد وطوائف من الروايات، وعلى هذا الأساس، فيشكل الأمر بالقول بأنّنا نضعّف هذه الصحيحة بحجّة الإعراض، خصوصاً وأنّها معمول بها في غير هذا الفرع الفقهيّ. ما يعني أنّ سندها في نظرهم معتبر، لا مشكلة فيه.
ومن هنا، صار صاحب الحدائق ره إلى القول بأنّ رواية أبي ولّاد ورواية المروزيّ موافقتان لمذهب العامّة، وهذا مرجّح لمقابلهما، وهو صحيحة زرارة.
لكنّ الظاهر أنّ هذا الكلام لا يستقيم؛ فإنّ مذاهب مشهورة ومعروفة من العامّة توافق فتوى مشهورنا في هذا، وقد نقل السيّد الخوئي ره عبارةً من المغني لابن قدامة يظهر منها: أنّ المعروف منهم هو القول بالاكتفاء بما صلّاه قصراً في مثل المورد. فهذا الكلام لا يستقيم.
وذهب السيّد الحكيم ره وغيرهم إلى حمل رواية أبي ولّاد مع المروزيّ على الاستحباب. لكنّنا قلنا إنّها بحسب الظاهر آبية عن الحمل على الاستحباب؛ لأنّ القضاء فرع الفوت، ولا معنى لفوتٍ استحبابيّ. بل الفوت يدور بين الوجود والعدم.
وعلى هذا الأساس، يشكل الأمر إشكالاً قويّاً في أن نُسقط روايةً لصالح أُخرى لمجرَّد ما نُسب من الفتوى، وإن كانت الفتوى مشهورة شهرةً عظيمة بين الأصحاب. ولو كانت المسألة عامّة البلوى، لقلْنا بأنّ هذا كان واضحاً في زمن المعصوم ع. ولو كان لبان. لكنّها لم تكن عامّة البلوى بهذا المستوى.
من هنا، يقف البحث على التوازي بين هاتين الروايتين، ولا يمكن الترجيح بموافقة الكتاب، ولا بمخالفة العامّة (فإنّهم مختلفون)، ولا يمكن الحمل على الاستحباب، وقد نقضنا الإعراض الموهن، فتتكافأ الروايتان حينئذٍ، والظاهر: أنّه لا يوجد مرجّح، فتتساقطان.
إنّما السؤال: عند تساقط الروايتين، فما هو المرجع في المقام؟
لا بدّ من الرجوع إلى مقتضى القاعدة، وهو أنّه يقصّر إذا بلغ حدّ الترخّص، لكنّ هذا التقصير كان مشروطاً بشرطٍ متأخّر. فإذا انكشف له بعد ذلك أنّ الشرط المتأخّر غير متحقّق، فينكشف له أنّ الأمر بالتقصير كان أمراً باستظهاريّاً، لا أمراً واقعيّاً، وإذا كان أمراً استظهاريّاً فنحتاج إلى دليل للقول بإجزائه عن الأمر الواقعيّ، فيلزم عليه حينئذٍ الإعادة في الوقت والقضاء خارجه، خلاف المشهور.
والإنصاف أنّ الأمر يحتاج إلى الاحتياط، من جهة هذه الشهرة العظيمة.
***


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo