< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/06

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في الشرط الثالث. وهو اشتراط استمرار القصد.
والذي نُسب إلى المشهور، وادُّعي عدم الخلاف، بل الإجماع عليه، وتقدّم مناقشة دعوى الإجماع التعبّديّ.
وتقدّم أيضاً مناقشة ما ذكره الشيخ الأنصاريّ ره، وطوّره السيّد الخوئي ره من أنّ العمومات تقتضي ذلك. وقلنا: إنّ أدلّة القصر لا تدلّ على أكثر من لزوم القصد عند إنشاء السفر. وأمّا لزوم البقاء عليه دائماً في كلّ مراحل السفر، فلا دلالة لأدلّة اشتراط القصر عليه. خصوصاً إذا كان عمدة هذه الأدلّة هو دعوى الإجماع.
فينتهي بنا الأمر إلى الأدلّة الخاصّة المدّعاة في المقام.
وهي: صحيحة أبي ولّاد، وروايتا إسحاق بن عمّار وسليمان بن حفص المروزيّ.
أمّا صحيحة أبي ولّاد، فهي الواردة في الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1، وهي:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد، قال: قلْتُ لأبي عبد الله ع: إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينةٍ إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحوٍ من عشرين فرسخا في الماء، فسرْتُ يومي ذلك أقصّر الصلاة، ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدْرِ أصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: إن كنْتَ سرْتَ في يومك الذي خرجْتَ فيه بريداً فكان عليك حين رجعْتَ أن تصلّي بالتقصير؛ لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك، قال: وإن كنتَ لم تسِرْ في يومك الذي خرجت فيه بريداً فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام (من قبل أن تؤمّ) من مكانك ذلك؛ لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصّرت، وعليك إذا رجعْتَ أن تُتمّ الصلاة حتى تصير إلى منزلك. [1]
أمّا السند:
فسند الشيخ الطوسيّ ره إلى أحمد بن محمّد سند صحيح لا شكّ فيه.
وأحمد بن محمّد هنا الظاهر أنّه الأشعريّ، بقرينة روايته عن الحسن بن محبوب؛ فإنّه هو الذي يروي عنه.
والحسن بن محبوب من مشيخة الطائفة وأجلّائها.
وأبو ولّاد هو الحنّاط، وهو إماميّ ثقة بلا شكّ.
فالرواية صحيحة السند.
قوله ع: لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير، الموضوع الذي يَثبت فيه التقصير، ولو بنحو الشرط المتأخّر لمن يصلّي عند حدّ الترخّص.
وهذه الرواية دلّت على إنسان خرج من الكوفة وهو قاصد لمسافة امتداديّة، وبدأ يقصّر، ومشى مسيرة نهارٍ كامل، فلمّا صار في اللّيل، قرّر الرجوع إلى الكوفة، وعدم إكمال السفر، ووقع في مشكلة لا يدري ما يصنع. فأجابه الإمام ع: إذا كنت قد قطعت في ذلك اليوم أربعة فراسخ فأنت مسافر سفراً شرعيّاً، فتبقى على القصر إلى أن تعود إلى منزلك، وإذا كنت قد قطعت أقلّ من أربعة فراسخ، فعليك أن تصلّي تماماً في الموضع الذي أنت فيه، وفي طريق العود. وكلّ صلاةٍ كنت قد صلّيتها قصراً فعليك أن تعيدها تماماً؛ لأنّ الشرط المتأخّر لم يتحقّق بحسب الفرض.
فهذا الإنسان ما الذي اختلّ عنده؟
يقول السيّد الخوئي ره وجماعة: إنّ الذي اختلّ عنده هو استمرار القصد؛ لأنّه قد عدل عن السفر.
فكأنّهم أرادوا أن يقولوا: هناك شيء اسمه قصد، وهذا يكون من حين إنشاء السفر، أو من حيث قصد، فقد يمشي من البلد غير ناوٍ للمسافة، لكنّه نواها لاحقاً. وهذا هو القصد الحدوثيّ. وهناك شيء آخر اسمه القصد الاستمراريّ. وهناك شيء ثالث اسمه القصد النوعيّ. وهذا على قسمين؛ إذ مرّةً يكون من البداية، ومرّةً، لا يكون من البداية، بل يبدّل شخص القصد بشخصٍ آخر.
ولا بحث لنا فعلاً في القصد النوعيّ، بل سيأتي في المسألة القادمة.
يقول السيّد الخوئي ومن ذهب مذهبه في المقام: هذا الإنسان لم يستمرّ على قصده، ولأجل أنّه لم يستمرّ على قصده، ولأجل أنّه لم يكن قد قطع أربعة مسافر، وكانت نيّته العود، فلا تنطبق عليه المسافة الامتداديّة المقصودة، ولا المسافة التلفيقيّة المقصودة. فمن هنا، قال الإمام ع له: أتمّ وتبقى تتمّ وأنت في طريق العودة إلى أن تصل إلى منزلك.
ولا ينبغي أن نذهب في الرواية هنا، والتي لها مداليل عرفيّة، إلى فروض بعيدة، وهي أن يكون العود ـ مثلاً ـ مع الذهاب يشكّلان ثمانية فراسخ.
بل المقصود ـ بحسب الظاهر ـ أنّ طريق العود هو نفسه طريق الذهاب، فإذا كان طريق الذهاب أقلّ من أربعة، فطريق العود كذلك.
ثمّ لو ذهبنا إلى هذا، فهذا إنّما يعني أنّ الذهاب إذا كان أقلّ من أربعة، فهو لا يكفي. أي: أنّه لا يُكتفى بمطلق التلفيق، كما اكتفى به الماتن ره وبعض الفقهاء.
وإذا كان الأمر كذلك، فيقول السيّد الخوئي ره: هذا إنسان إنّما يُتمّ الآن مع أنّه خرج قاصداً للسفر، وقد شرع في السفر، وتلبّس به فعلاً، وقطع ما دون الأربعة فراسخ، إنّما يُتمّ لأنّه لم يستمرّ على قصده، فاختلّ عنده استمرار القصد.
وأمّا من بلغ أربعة فراسخ، فيقصّر، ويبقى على القصر إلى أن يعود إلى منزله؛ لأنّه مسافر حتّى يعود إلى منزله.
لكن نقول: لكنّ هذا أيضاً ليس قاصداً لهذا السفر (وهو ما سمّيناه بالقصد النوعيّ)، بل كان قاصداً لسفرٍ آخر، فهذا قصد مستأنف، وهما قصدان وصلهما ببعضهما، وليس نفس القصد الأوّل، فهو أيضاً لم يستمرّ على قصده الأوّل.
لكن ما دام هذا قد بقي على قصد مسافة شرعيّة، فالقول بلزوم قصد شخص مسافة في التقصير، وأنّه لا يكفي قصد نوع المسافة، ولا الانتقال من شخصٍ إلى شخصٍ آخر، قد يحتاج إلى دليل خاصّ. والمفروض أنّه لا يوجد لدينا دليل خاصّ على لزوم قصد مسافة شخصيّة من المبدأ إلى المنتهى. وحينئذٍ: فيبقى على التقصير؛ لأنّه قاصد قطع المسافة الشرعيّة على كلّ حال. والعمومات إنّما استفيد منها أنّه يكفي مسيرة يوم، أو بريد في بريد، أو ثمانية فراسخ، أو أربعة في أربعة، وكلّ هذه العناوين تنطبق عليه. جاء دليل القصد ودلّ على عدم كفاية الاسترسال في السير، لكنّ هذا قاصد من أوّل الأمر، وليس مسترسلاً. ولا دليل على إلزامه بشخص معيّن من القصد منذ البداية.
ونظير هذا من ينتقل من مسافة إلى مسافة، كما لو خرج من البلد قاصداً لطريقٍ معيّن، فلمّا وصل إلى مفترق طرق عدل إلى مقصدٍ آخر، وكان كلاهما مسافة، فهذا قد عدل من مسافة شخصيّة إلى مسافة شخصيّة أُخرى، والباقي وحده لم يكن مسافة، لكنّ ضمّ الماضي إلى الباقي يشكّل مسافة، فهذا قاصد للمسافة، ولا دليل على لزوم قصد شخص المسافة بعينها، وتنطبق عليه العمومات، وأنّه سار بريدين ـ مثلاً ـ .
خلاصة الكلام: أنّ هذه الرواية دليل واضح على أنّ من عدل من المسافة الامتداديّة إلى التلفيقيّة يقصّر، بدليل أنّ الإمام ع قال له: بما أنّك قد قطعت أربعة فراسخ، فتقصّر لأنّك قاطع للمسافة، وتبقى على التقصير إلى أن ترجع إلى منزلك.
طبعاً، هذه الرواية بإطلاقها تشمل حتّى الذي يقيم عشرة أيّام في مكانٍ واحد، لكنّ هذا الإطلاق يمكن تقييده من هذه الجهة. لكن من جهة محلّ البحث، الرواية صريحة في أنّه قد عدل عن نيّةٍ إلى نيّةٍ أُخرى، ومن مسافة امتداديّة إلى تلفيقيّة. والإمام ع جعل الميزان أن يكون قد قطع مسافة.
السيّد الخوئي ره جعل هذه الرواية ناظرة إلى حكمٍ آخر مغاير تماماً، وهو استمرار القصد.
لكن نقول: تارةً لا يستمرّ شخص القصد، لكن يستمرّ نوعه. والرواية واضحة في ذلك.
وأُخرى، لا يستمرّ القصد، لكن تستمرّ المسافة، كما لو وصل إلى مكانٍ وتردّد، لكن أثناء تردّده بقي ماشياً مسترسلاً، فهو خرج بقصدٍ، ثمّ بلغ إلى مكانٍ، ومن ذلك المكان أتمّ المسافة، لكن لم يُتمّها قاصداً لها، ولا قرّر الرجوع، ولا زال في تردّده حتّى قطع الثمانية فراسخ، فهذا عنده قصد حدوثيّ، ولكن ليس لديه قصد استمراريّ.
ففي هذا المورد قال السيّد الخوئي ره بأنّ الرواية دليل على اشتراط استمرار القصد، وأنّ هكذا إنسان لا يقصّر، ولو مشى الثمانية فراسخ.
والذي ندّعيه أنّ الرواية غير متعرّضة لذلك أصلاً؛ لأنّ الرواية إنّما تعرّضت لمن لم يستمرّ بقصده، والإمام ع لم يعلّل باستمرار القصد، بل علّل بأنّه إذا كان قد مشى أقلّ من أربعة فراسخ، فليس لديه سفر شرعيّ، وعند الرجوع لن يبلغ المجموع الثمانية.
وبعبارةٍ أُخرى: السيّد الخوئي ره عندما استدلّ بالعمومات قال: لو كنّا نحن والعمومات لكان يكفي قطع المسافة كيفما كان، حتّى لو كان مكرهاً بل وملجأً. وأمّا روايات قصد قطع المسافة لم تدلّ على أكثر من أصل القصد، أي: الخروج قاصداً.
هناك من يخرج قاصداً ويعدل عن الإتمام قصداً وفعلاً. فهذا واضح أنّه لا يقصّر؛ لأنّ قطع المسافة شرط، إمّا مقارن أو متأخّر.
وأمّا الآن، فنريد بحسب الفرض أن نتحدّث عن شرط جديد، اسمه: أنّ كلّ آنات قطع المسافة، حتّى التوسّطيّة، لا بدّ وأن تكون مقرونةً بالقصد، بحيث أيّ مقدارٍ يقطعه ويكون مشوباً بالتردّد وغير مقرون بالقصد. فالذي يريد أن يأتي بالدليل، عليه أن يأتي بدليل على اشتراط كون هذه الحركة التوسّطيّة مقرونةً بالقصد. وصحيحة أبي ولّاد لا تتحدّث عن شخصٍ تردّد وبقي يقطع مسافة. بل تتحدّث عن إنسانٍ عدل عن قصده، ونوى الرجوع، فقال له الإمام ع: الميزان ليس هو عدولك عن قصدك أو عدم عدولك، بل الميزان في كونك قد قطعت مسافةً شرعيّة، وأنت حيث كنتَ قاصداً للامتداديّة، ثمّ عدلْتَ إلى التلفيقيّة، فابقَ على التقصير، مع أنّ هذا القصد الجديد ليس نفس القصد الأوّل، لكن لمّا كان مجموع ما سرْتَه وستسيره باتّجاه البلد ثمانية فراسخ، فتقصّر. بينما إذا عدلْتَ وأنت لم تقطع أربعة فراسخ، فذهابك مع إيابك لن يكون سفراً شرعيّاً؛ لأنّ أقلّ مسافة عليك أن تقطعها حتّى يصدق السفر الشرعيّ هي الأربعة.
فالسيّد الخوئي ره يريد أن يقول: في هذه الرواية إنّما أمر الإمام ع بأن يُتمّ لأنّه اختلّ لديه قصد قطع المسافة. ونحن نقول: بل هذا لم يختلّ لديه قصد قطع المسافة فحسب، بل اختلّ عنده أيضاً التلبّس بقطع المسافة، فقد لا يكون اختلال قصد قطع المسافة هو الدخيل في الحكم. ويدلّ على ذلك قوله ع: «لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتّى رجعْتَ فوجب عليه قضاء ما قصّرت...»، فالرواية إنّما تشير إلى جانب قطع المسافة، لا جانب قصد القطع.
وعليه: فإنّ الرواية لا تتعرّض هنا لشرطيّة استمرار القصد في الحركة التوسّطيّة، بل غاية ما تتعرّض له الرواية هو عدول إنسانٍ عن قصد إتمام سفر للعود إلى بلده. وحيث إنّ هذا الذي عدل قد قطع أربعة فراسخ، فتنطبق عليه مسافة لم يقصدها أساساً، وهي التلفيقيّة، بل كان قاصداً للامتداديّة حينما خرج، فيبقى على القصر. وأمّا حيث لا يكون قد قطع مسافة تلفيقيّة، ولو لم يكن يقصدها، فهو يتمّ؛ لأنّه يُشترط حتّى يقصّر أن يكون قد بلغ المسافة.
وإنّما تظهر فائدة اشتراط استمرار القصد في إنسانٍ عدل عن قصده وبقي مستمرّاً في المسير بحيث قطع المسافة، ولكن غير مقرونةٍ بالقصد، بل في حال التردّد، ولا تظهر في شخصٍ قطع قصده ورجع.
ففي هذا المورد يقول السيّد الخوئي ره بأنّ هذا الشخص يُتمّ، ولا يقصّر، مع أنّه قد قطع أربعة؛ لأنّ الباقي الذي استرسل فيه في الذهاب متردّداً لم يكن مقروناً بالقصد. ويستدلّ على ذلك بهذه الرواية.
لكنّ الرواية لا تتعرّض لهذا الجانب أصلاً، لا في مدلولها المطابقيّ ولا في تعليلها؛ لأنّ تعليلها قد يُدّعى انطباقها على هذا المورد؛ لأنّ من بلغ أربعةً، فقد قال له الإمام ع: لأنّك كنتَ مسافراً.
ولئن لم تكن ظاهرةً في هذا الذي ندّعيه، فهي ليست ظاهرةً في العكس أيضاً، فتكون أجنبيّةً عن المطلوب.
ويظهر من السيّد الحكيم ره قبول دلالتها، لكنّه يردّها لمعارضتها مع رواية زرارة، والتي تقدّمت، وهي الرواية الواردة في الباب 23، الحديث 1، وهي:
محمّد بن عليّ بن الحسين، بإسناده عن زرارة، قال: سألْتُ أبا جعفرٍ ع [وفي بعض النسخ في التهذيب والاستبصار، الموجود: سألْتُ أبا عبد الله ع] عن الرجل يخرج مع القوم في السفر يريده، فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين، فصلّوا وانصرف بعضهم في حاجة، فلم يُقْضَ له الخروج، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين؟ قال: تمّت صلاته ولا يُعيد.[2]
فالسيّد الحكيم ره يرى أنّه لا يمكن الاستدلال بصحيحة أبي ولّاد في المقام لأنّها معارَضة برواية زرارة هذه.
وأمّا السيّد الخوئي ره فقال: إنّ هذه المعارضة لا تضرّ؛ لأنّها إنّما تعارضها في خصوص الحكم بقضاء الصلاة، وهناك أحكام أُخرى تضمّنتها الرواية وهي ليست محلّ للمعارضة. ومحلّ الاستدلال عندنا ليس هو مورد المعارضة بين الروايتين.
إذاً، فالعمدة في الإشكال إنّما هو عدم دلالة من الأساس، لا المعارضة المذكورة.
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo