< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/01

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا إلى أنّه لا يمكن بحسب الظاهر الجمع بين شرطيّة قصد قطع المسافة، وبين القول بأنّ المُلْجَأ الذي لم يقصد الحركة أصلاً، بل تُحرّك به، ولم يقطع مسافة، بل قُطعت به، بأن يُقال بأنّه عليه التقصير.
وقد حاول السيّد الخوئي ره أن يفسّر القصد في الروايات التي استُدلّ بها على القصد، أو دعاوى الإجماعات، بأنّ المراد من القصد ما يساوق العلم، لا أكثر.
وقد رفضنا هذا الاستدلال فيما تقدّم، وقلنا: بحسب القاعدة يلزم أن لا يقصّر من أُلْجئ على قطع المسافة، حتّى لو كانت له حركة سيريّة، لكنّها لم يقصدها، وليست اختياريّة له، كما لو رُبط بشيءٍ يتحرّك، فلو لم يتحرّك لوقع، وتتحرّك رجلاه ميكانيكيّاً، فهذا إنسان لا اختيار له أصلاً، لا عن طيب نفسٍ، ولا عن غيره. وهذا هو محلّ الكلام أساساً. وقد قلنا إنّه لا يجب ربطه بالحركة السيريّة؛ لأنّ الحركة السيريّة ليست موضوعاً لأيّ شيءٍ في الأدلّة. بل الموضوع في الأدلّة العامّة هو مطلق قطع المسافة، فتشمل حتّى المغمى عليه. ثمّ بعد تقييدها بأدلّة لزوم القصر المتقدّمة احتاجت إلى الاشتمال على القصد. والقصد واضح لفظاً ومعنىً ومورداً، فالقصد شيء والعلم شيء آخر.
وقد اعترف بهذا الذي انتهينا إليه السيّد الحكيم ره في المستمسك.
يبقى في المقام رواية خاصّة، وقد تعرّض لها غير واحد من المحقّقين في المقام، وقد ادُّعي أنّ هذه الرواية دالّة على المقام.
ولكن نقول: إنّ ما دلّ على لزوم القصد ليس هو قاعدة عقليّة، بل قاعدة نقليّة، وحينئذٍ: فإذا وُجد دليل يقول: في موردٍ ما لا يلزم القصد، فهو، ونعمل بهذا الدليل ونتّبعه. فهذه الرواية المشار إليها لا بدّ من بحثها لنرى أنّها هل تدلّ أم لا.
والرواية هي رواية إسحاق بن عمّار الواردة في الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10، (ونحن هنا مضطرّون للتعرّض للحديث 11 أيضاً ليكتمل البحث)، وهي:
وهي ما نقله الشيخ الحرّ ره عن كتاب الكافي للشيخ الكلينيّ ره:
وعن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، عن محمّد بن أسلم، عن صبّاح الحذّاء، عن إسحاق بن عمّار، قال: سألْتُ أبا الحسن ع عن قومٍ خرجوا في سفرٍ فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا من الصلاة، فلمّا صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو أربعة تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلّا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أيّاماً لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يُتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال: إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا، وإن كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ فليتمّوا الصلاة قاموا أو انصرفوا، فإذا مضوا فليقصّروا. [1]
وقد رُميت هذه الرواية بالضعف في بعض الكلمات، والظاهر: أنّ سبب رميها بالضعف هو محمّد بن أسلم الجبليّ؛ إذ العدّة والبرقيّ وصبّاح الحذّاء وإسحاق بن عمّار كلّهم واضحو الوثاقة، ولا كلام فيهم. وإن كان البعض منهم مخالفاً لفرقة أهل الحقّ.
محمّد بن أسلم الجبليّ، وثّقه السيّد الخوئي ره هنا في بحث صلاة المسافر؛ لكونه من رجال كامل الزيارات. ومقتضى رجوعه ره عن رجال كامل الزيارات أن يرجع عنه.
لكنّ الظاهر: أنّ السيّد الخوئي ره ذهل عن أنّ الرجل مذكور أيضاً في رجال تفسير القمّيّ، فحتّى لو تراجع عن رجال كامل الزيارات، فإنّه يبقى ثقةً على مبناه من باب وجوده في رجال تفسير القمّيّ.
لكن عندما نذهب إلى الأصول الرجاليّة نجد أنّ هذا الاسم قد ذُكر مرّتين، أحدهما: محمّد بن أسلم الجبليّ الذي ذكر النجاشيّ ره أنّه يروي عن الإمام الباقر ع. وآخر: محمّد بن أسلم الطبريّ الجبليّ، الذي ذكره الشيخ الطوسيّ ره وذكر في رجاله من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا علیهم السلام.
ومن الواضح: أنّ خللاً وقع في المقام، والظاهر: أنّ محمّد بن أسلم لم يروِ روايةً عن المعصوم ع بالمباشرة، لكنّ هذا لا يضرّ في كونه من أصحاب إمام ولم تصلْنا رواية عنه، بل قد يكون من أصحاب إمام وهو لم يروِ عنه بالمباشرة، بناءاً على أنّه يكفي في ذكر شخصٍ في أصحاب إمام أن يكون من أصحاب اللّقاء، وليس من الضروريّ أن يكون من أصحاب الرواية عنه.
وكيف كان، فإنّ محمّد بن أسلم المذكور في رجال كامل الزيارات وتفسير القمّيّ هو الذي في طبقة الإمام الرضا ع. ومحمّد بن أسلم الذي يُذكر في أصحاب الإمام الباقر ع لا يوجد لدينا دليل على وثاقته. فربما كانا شخصين.
وربما كان من الخطأ ذكر محمّد بن أسلم في أصحاب الإمام الباقر ع؛ لأنّنا لم نجد أحداً روى عن محمّد بن أسلم عن الإمام الباقر ع، وما وجدنا في الأسانيد محمّد بن أسلم في طبقة أصحاب الإمام الباقر ع. وعلى هذا الأساس، قد نشكّك في أصل صحّة أنّ هناك شخصين باسم محمّد بن أسلم.
ولو كان هناك شخصان، فهذا الذي هو في أصحاب الإمام الباقر ع خارج عن محلّ بحثنا.
وفي بعض الأسانيد ذُكر محمّد بن مسلم بدلاً من محمّد بن أسلم، في نفس هذه الرواية. ومحمّد بن مسلم ليس هو ابن شهاب الزهري الأمويّ المعروف؛ فإنّه من طبقة أصحاب الإمام زين العابدين ع. فليس لدينا مسمّىً بمحمّد بن مسلم غير محمّد بن مسلم المشهور الطائفيّ، وهو من أصحاب الصادقين علیهم السلام، ولم يبقَ إلى زمن الكاظم والرضا علیهم السلام.
فعموماً محمّد بن أسلم الذي هو محلّ كلامنا هنا هو الواقع في طبقة الإمامين الكاظم والرضا علیهم السلام.
ونحن لا نوافق على مبنى السيّد الخوئي ره، لا في كامل الزيارات (كما عدل هو عنه)، ولا في تفسير القمّيّ.
فهذه الرواية سنداً، بحسب هذا السند الموجود، ليست معتبرة. وإن قال السيّد الخوئي ره بأنّها معتبرة.
والإمام أبو الحسن ع في الرواية من الواضح أنّه هو الإمام الكاظم ع.
وقوله ع: أقاموا، أي: أقاموا على سفرهم، في مقابل الانصراف، الذي هو الرجوع من حيث خرجوا.
وأمّا الرواية الحادية عشرة، فهي:
ورواه [أي: نفس الحديث] الصدوق في العلل عن أبيه، عن سعد، وعن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمّد بن عليّ الكوفيّ، عن محمّد بن أسلم، نحوه، وزاد، قال: ثمّ قال: هل تدري كيف صار هكذا؟ قلْتُ: لا، قال: لأنّ التقصير في بريدين، ولا يكون التقصير في أقلّ من ذلك، فإذا كانوا قد ساروا بريداً وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد سافروا سفر التقصير، وإن كانوا ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلّا إتمام الصلاة، قلْتُ: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: بلى إنّما قصّروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم، وإنّ السير يجدّ بهم، فلمّا جاءت العلّة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا.[2]
سعد هو سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ. ومحمّد بن موسى بن المتوكّل هو شيخه.
فهنا سندان، أحدهما: الصدوق عن ابن المتوكّل عن السعد آباديّ. والآخر: الصدوق عن أبيه عن سعد.
والسعد آبادي هو عليّ بن الحسين السعد آبادي. لا توثيق له. لكن هو شيخ مباشر من مشاهير شيوخ ابن قولويه في كامل الزيارات، فهو ثقة لذلك؛ إذ الصحيح عندنا هو أنّ المشايخ المباشرين هم الذين شُهد بوثاقتهم من قِبل صاحب كامل الزيارات. (السيّد السيستاني لا يقبل المبنى حتّى في المشايخ، وكذا الشيخ التبريزي ره).
وأحمد بن أبي عبد الله، وهو أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ. فعدنا إلى سند الشيخ الكليني ره.
وقوله: نحوه، أي: نفس الحديث السابق مع اختلافٍ في الألفاظ.
ونلاحظ أنّه في سند الرواية السابقة، أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ يروي مباشرةً عن محمّد بن أسلم، وأمّا هنا، فيروي عن محمّد بن عليّ الكوفيّ، عن محمّد بن أسلم.
ومحمّد بن عليّ الكوفيّ في هذه الطبقة الظاهر أنّه محمّد بن عليّ الصيرفيّ الكوفيّ الملقّب بـ أبي سمينة، المتّهم بالغلوّ والكذب. وبناءاً على هذا، فتكون رواية الشيخ الصدوق ره ضعيفة من غير جهة محمّد بن أسلم.
السيّد الخوئي ره من خلال هذه الرواية عاد وضعّف السابقة عن الكافي، والتي كانت صحيحة على مبانيه، قال: لأنّ أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ عن محمّد بن أسلم، إمّا أن يكون محمّد بن عليّ الكوفيّ زيادة في الثانية، أو نقيصة من الأُولى، وأصالة عدم الزيادة تتقدّم على أصالة عدم النقيصة. أو لا أقلّ من أنّنا لا نثق بعد بهذا السند؛ لأنّه يُحتمل أن يكون فيه محمّد بن عليّ الكوفيّ الضعيف ويُحتمل أن لا يكون، وهما رواية واحدة، لا اثنتان.
وكيف كان، فمحلّ الشاهد في بحثنا هنا هو الرواية الثانية، لا الأُولى.
وفيها: عن محمّد بن مسلم، وما في بعض النسخ من أنّه محمّد بن مسلم، الظاهر أنّه خطأ.
مضافاً إلى أنّ محمّد بن عليّ الكوفي قد صُرّح في محاسن البرقيّ بأنّ الصيرفيّ، فلا يبقى لبس وشكّ في أنّه أبو سمينة.
قوله ع في هذه الرواية الثانية: (إنّما قصّروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم)، هؤلاء لم يشكّوا منذ البداية، بل بعد أن قطعوا الفراسخ الأربعة (بحسب الرواية رقم 10)، فهم قصدوا المسافة الكاملة، فإذا بلغوا المكان الذي لا يسمعون فيه الأذان، فبدأوا بالتقصير؛ لأنّهم لم يشكّوا في سفرهم الذي كانوا قد قصدوه وعزموا عليه. ولو كانوا منذ البداية يشكّون لما قصّروا عندما بلغوا حدّ الترخّص. وإنّ السير عندما بلغوا حدّ الترخّص كان يجدّ بهم. فلمّا جاءت العلّة، أي: تخلّف الشخص، في مقامهم، أي: على رأس الثلاثة فراسخ أو الأربعة فراسخ، دون البريد، صاروا هكذا، أي: رجعت المشكلة بالنسبة لهم. فإذا عزموا على البقاء والانصراف والرجوع أتمّوا. فالرواية تريد أن تقول: لا ملازمة بين أن يقصّر الإنسان عندما يبلغ حدّ الترخّص، وبين أن يبقى على التقصير بعد ذلك.
محلّ الشاهد في الرواية في مسألتنا هو قوله ع: لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم. حيث أفاد السيّد الحكيم ره، ومثله بعض المحقّقين، بأنّ ظاهر هذه العبارة هو أنّ العبرة بالجزم بالمسير، لا بالقصد، والعلم جزم. ويظهر من السيّد الحكيم ره ارتضاء الدلالة، لكنّه توقّف عند السند. وكذلك السيّد السبزواري ره، الذي استدلّ بهذه الرواية، ولم يتوقّف لا في الدلالة ولا في السند، زاعماً أنّ السند مجبور بعمل المشهور.
وهو أوّل الكلام؛ إذ من قال إنّ المشهور عملوا بخصوص هذه الرواية؟! مع أنّنا ما وجدنا أكثرهم (المشهور) يستدلّون بهذه الرواية.
فحينئذٍ: نحن نقول وفاقاً للسيّد الخوئي ره بأنّ الرواية علاوة على إشكالها السنديّ، فدلالتها غير تامّة؛ لأنّ الرواية لم تجعل الشكّ والعلم هو الميزان في المسافة. هؤلاء خرجوا قاصدين المسافة، والشكّ يُفسد القصد عندما وقع، لا أنّ الميزان في أصل التقصير هو العلم؛ إذ هناك فرق بين القول بأنّ أناساً عزموا وقصدوا، وخرجوا عازمين قاصدين، وبلغوا حدّ الترخّص، ثمّ ساروا فرسخين أو ثلاثة، ثمّ وقفت بهم الحالة؛ لأنّ الشخص الذي لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به ذهب، فشكّوا في مسيرهم، شكّوا بعد قصدهم وعزمهم، لا بعد علمهم فحسب. فهذا الشكّ يُفسد العلم، وما يُفسد العلم يُفسد العزم، فهم لم يعد لهم بالفعل عزم على المتابعة، فإذا جاء الشخص الذي لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به يُكملون، وإلّا، يرجعون إلى البلد. فالرواية تتحدّث عن شكٍّ بعد القصد والعزم، ولم تقل الرواية بأنّه يكفي مطلق العلم وعدم الشكّ من بداية السفر. فالرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه. ولنعْمَ ما تنبّه له السيّد الخوئي ره، مع أنّها نكتة واضحة.
فالرواية إذاً لا تقول بأنّ المدار في القصد هو العلم، بل هي تقول بأنّ من كان قاصداً فلا بدّ أن يبقى على علمه؛ لأنّه إذا شكّ أفسد الشكّ قصْده، لا أنّه إذا علم ولم يقصد كان قاصداً. والموثَق لا يقصد السفر والذهاب مع من أوثقه، لكن أخذه عنوةً وبالقوّة.
وعليه: فلا يبقى في المقام إلّا ما ادّعاه البعض من دعوى الإجماع في مورد الأسير.
لكنّنا أوّلاً لم نتحقّق هذا الإجماع. ثمّ في الزمن السابق، غالب الأسرى كانوا مكرهين، لا مُلْجَأين، أي: يصوَّب عليهم السلاح فيمشون كما يريد المصوِّب، فهم يمشون باختيارهم، وينطبق عليهم عنوان المكره، لا المُلْجَأ، وإذا ما أُوثقوا فإنّما ذلك لكيلا يفرّوا بعيداً، وإلّا، فهم من كانوا يمشون.
فإذاً، لا نسلّم وجود إجماع تعبّديّ.
ثمّ إنّ الإجماع في الأسير لا يعني الإجماع هنا؛ لأنّ الأسير في الغالب في تلك الأزمنة هو مصداق المكره، لا المُلْجَأ.
فلم يبقَ لدينا دليل. ولم يبقَ في مواجهة ذلك إلّا الشهرة. لكنّها ليست شهرة المتقدّمين؛ إذ كثير من المتقدّمين لم يتعرّضوا لهذه المسألة، فليس هناك شهرة تعبّديّة. وإنّما هي شهرة محقّقين، والشهرة بين المحقّقين لا حجّيّة لها. والأدلّة لم تُسْعفنا حينئذٍ.
فالصحيح أن نوافق في هذا المجال المحقّق الحائري اليزدي ره الذي جزم في المقام بإتمام الصلاة، وأنّ السفر الذي يكون إلجائيّاً، لا قصدياً، لا يستدعي التقصير.
وإذا ما تنزّلنا، فنتنزّل إلى ما ذكره السيّد الإمام ره، من الاحتياط الوجوبيّ في المقام، من الجمع بين القصر والتمام. وإن كنّا لا نميل إلى الاحتياط الوجوبيّ. ولكن حيث إنّ الاحتياط لا بأس به، فليكن احتياطاً استحبابيّاً.
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo